جرائم حرب مكتملة الأركان..!
“المدارنت”..
ظل حق الفتح، قانوناً معترفاً ومعمولاً به من قبل الامبراطوريات والسلطات القديمة، حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، وما تمخض عنها من تأسيس عصبة الأمم، كمؤسسة ناظمة، في حينه، للعلاقات الدولية. لقد كانت الدول تتمدد وتنكمش وفقاً لموازين قوتها وقدراتها. ولم يكن ذلك الواقع مرفوضاً أخلاقياً وإنسانياً.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بمبادئه الأربعة عشر، حيث أطلقه الرئيس الأمريكي، ويدرو ويلسون، والذي اعتبر الاستعمار عملاً مقيتاً، وغير أخلاقي، شكل نقلة نوعية في التاريخ الإنساني، لكنه لم يحل دون تقسيم المشرق العربي، وفقاً لاتفاقيات سايكس- بيكو، بين البريطانيين والفرنسيين، وصياغة المقدمات لتدفق الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وصدور وعد بلفور، بتأسيس وطن قومي لليهود، على أرض فلسطين.
في الفترة بين الحربين العالميتين، انشغل العرب، بمقارعة الاستعمار الغربي، وإنجاز استقلال أوطانهم. وكانت أول نقطة ضعف في تلك المقارعة، أنها بخلاف محاولات التحرر والانعتاق من الاستعمار العثماني، الذي كان موحداً، وضد احتلال تنذر كل المؤشرات بأفوله، خاصة بعد انفصال دول البلقان عن السلطان العثماني، فإن المواجهة مع الغرب، هي مع قوى عاتية وفتية، وقد تم بسقوف مختلفة، ولم يكن بأرضية مشتركة، حيث امتشق كل بلد عربي سلاحه، بمعزل عن أشقائه العرب، لإنجاز استقلاله السياسي.
ورغم أن معظم بلدان المشرق العربي، سوريا والعراق ولبنان والأردن، باستثناء فلسطين، قد تمكنت بفعل نتائج الحرب العالمية الثانية، وهزيمة الفرنسيين، وتراجع الدور البريطاني، فإن غياب الأرضية المشتركة في مناهضة احتلال الاستعمار الغربي التقليدي، قد خلق حقائق جديدة، عكست نفسها على قيام دول تنتمي حكماً لأمة عربية واحدة، ويجمعها تاريخ مشترك، وفي الأغلب دين واحد، لكنها وجدت نفسها تشكل دولها، على المقاس الذي صنعه مقص المحتل، وقد تحول ذلك إلى أمر واقع، لم يكن بالمقدور تغييره، في ظل ذلك الواقع.
وكان بديل العرب، عن تشكيل أي نوع من الاتحاد فيما بينهم، هو تأسيس جامعة الدول العربية، التي ضمت لحظة تأسيسها سبع دول، هي البلدان التي أنجزت استقلالها، في حينه: مصر والسعودية واليمن والأردن والعراق وسوريا ولبنان. ودخلت جيوش هذه الدول، حرباً لمنع قيام دولة يهودية على أرض فلسطين، انتهت بما بات معروفاً الآن بالنكبة. ولم يتبق من الأراضي الفلسطينية، سوى قطاع غزة الذي بقي تحت الإدارة المصرية، والضفة الغربية والقدس الشرقية التي ضمها الملك عبد الله بن الحسين، في مطالع الخمسينات من القرن الماضي للأراضي الأردنية.
قيام حرب حزيران/ يونيو 1967، والهزيمة المروعة للجيوش العربية، في حرب الأيام الخمسة، خلفت حقائق جديدة، ذكرناها باختصار في مقال سابق، وانتهت بقيام سلطة فلسطينية بالأراضي التي تم احتلالها في تلك الحرب، وتحديداً الضفة والقدس الشرقية وغزة. لكن وصول حكومة متطرفة، يقودها نتنياهو ويشارك فيها بن غفير، غيرت صورة المشهد، حيث تم التنكر لكل المواثيق والمعاهدات التي عقدتها منظمة التحرير الفلسطينية، والحكومات الإسرائيلية السابقة. وكان من نتائج استمرار الاحتلال، والحصار على غزة، اندلاع ما صار يعرف ب«طوفان الأقصى»، وما تمخض عنه من حرب إبادة مارستها حكومة نتنياهو وتسببت بأكثر من أربعين ألف ضحية، وقرابة ستة وتسعين ألف جريح جلهم من المدنيين، من النساء والأطفال والشيوخ، وما زال المشهد مستمراً حتى يومنا هذا.
ما يحدث في لبنان، من سلوك إسرائيلي، ربما لم يوجد له نظير في التاريخ، من تفجير للبيجرات، وأجهزة اللاسلكي، وهدم للمباني على ساكنيها، هو جريمة حرب مكتملة الأركان، تضاف إلى جريمة حرب الإبادة، التي ترتكب في قطاع غزة، وإلى حملات القتل والترويع بمدن وبلدات الضفة الغربية، وهي بخلاف كل ما هو مألوف في الصراعات والحروب بين البشر، بما في ذلك ما جرى في الحربين الكونيّتين.
الذين يقتلون في غزة، وفي جنوب لبنان الآن، هم ضحايا جرائم حرب، لا ناقة لهم فيها ولا جمل. والقانون الإنساني، يرفض قتل الجماعة، حتى إذا تسلل بينهم، متهم بالإرهاب، فكيف إذا كان المستهدف، جماعة تهمتها الوحيدة، هي وجودها في الضاحية الجنوبية لبيروت، واعتبار ذلك مبرراً لممارسة القتل، وتشريع استخدام وسائل الاتصال، من بيجرات وأجهزة «وكي توكي»، وتحويلها إلى أسلحة قتل، في ظاهرة ليس لها سابق، في التاريخ الإنساني المعروف، بما يجعل منها وفقاً لتصريح وزير الخارجية اللبناني، جريمة مكتملة الأركان.
مسؤولية الدفاع عن المدنيين من سكان غزة، ومنع ارتكاب المزيد من الجرائم بحق المدنيين في لبنان، هي مسؤولية إنسانية وأممية، لكنها بالدرجة الأولى، مسؤولية عربية، فالذين يتعرضون لحرب الإبادة، ولتجريب وسائل قتل، هم أبرياء، يعملون بالمستشفيات، وسيارات الإسعاف، والذين قتلوهم هم مجرمو حرب، ينبغي محاكمتهم وإدانتهم، بصفتهم الشخصية والاعتبارية، وليس من سبيل لتحقيق ذلك سوى التضامن مع المبادرات التي أطلقتها محكمة العدل الدولية في نهاية العام المنصرم. وكان من المفترض أن يقف العرب جميعاً مع تلك المبادرة، ويقدموا إليها مختلف أشكال الدعم والتأييد، فالذين يتعرضون للقتل والإبادة، هم أهلنا وأشقاؤنا، ونصرتهم حق وواجب علينا. ودعم صمودهم، وإبعاد آلة القتل عنهم، ليس فرض كفاية، وذلك أضعف الإيمان.