أنا ابن لهذه المرحلة، وسأحاول بناء الإنسان والتغيير ما استطعت، ثقافيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا… بهذه العبارات استقبلنا الياس جرادي، طبيب العيون، النائب عن دائرة الجنوب الثالثة، في منزله القابع في حضن جبل الشيخ في قريته إبل السقي، المفعمة بمشاعر تختلط فيها رائحة الخُبز المرقوق عند إشراقة الصباح، برائحة تراب الأرض المجبول بعَرق الذين أحبُّوها فأكرمتهم وأعطوها تعب سواعدهم، فمنحتهم قلبها واحتضنتهم، وعبق مروج القَمح الممتدة في سهل إبل، وحكايا شيخ الأدب الشعبي سلام الراسي. إبل السقي هذه القرية التي تشبه قرى الجنوب كافة في وصف ابنته إميلي نصرالله إياه: “… عن السواعد السُّمر والعشايا الساهرةِ في ضوءِ القمر، وعن طيورِ أيلول التي تطلّ على القرية بغيمة الغصَّة والحنين للذين رحلوا ولم يعودُوا، طيور أيلول تغوص بنا في عمق القرية وأسرارها وتقاليدها وحزنها، عند تشييع الوجوه المغادرة إلى المجهول في خارج البلاد، على أمل تحقيق الطموحات والأحلام، وعن الشَّرخ الذي تحدثه الهجرة فيصبح ذاك القادم من بعيد إلى جذوره كالغريب”.
عن مغادرته أميركا والسعودية ودبي… والعودة إلى لبنان، والانخراط في العمل السياسي وترشحه عن المقعد الأرثوذكسي في الجنوب، قال جرادي: “أنا في القيد أرثوذكسي، ولكني ترشّحت عن طائفة جميع الناس، فهذه التسميات كلها لا أؤمن بها، وجل ما أردته هو خلق طائفة مختلفة لا دينية في هذا البلد، حيث التهميش والتنميط، خصوصًا في ظل الانقسام السياسي الحاد الذي شهدناه في الأسبوع الأخير. وهذا التنميط يفرض أن يكون المرء مع أحد الطرفين المتخاصمين – المتصارعين – فقد عُلِّبَت جميع الآراء. وكل فريق من الفريقين الموجودين يسعى إلى استقطاب طرف ثالث، وإذا لم ينضم إلى أحدهما فهو خائن، ويحمل صفة “الآخر الخائن”. فالأمر في غاية السوء، لأن ليس المهم أن تقف مع أحد الطرفين ضد الآخر، بل ألّا يكون طرف ثالث ورأي ثالث، وتلام إذا خرجت على إجماع الطرفين، فالمسألة ليست إن لم تكن معنا فأنت ضدنا، بل إن لم تكن مع أحد الطرفين فأنت ضدنا. فمن غير المقبول أن تشكل حالة ثالثة. والجدير بالذكر أن الناس ينتمون إلى ثقافات مرسومة لهم مسبقًا ممنوع الانفلات الفكري والعقائدي… منها والخروج من دائرتها.
“العيار اللي ما يصِبش يدوِش”
وحول استمرار الوضع على ما هو عليه، رأى أن “أيّ مشروع – أيًّا كان – يبدأ بفكرة، والتغيير لا يكون على قاعدة كن فيكون، لأنه يحتاج إلى وقت لإحداث خرق في الجدار الطائفي والجدار السياسي والجدار العقائدي… فالمثل المصري يقول: العيار اللي ما يصبش يدوش. وأنا قلت للناس خلال الجولات الانتخابية، لا تعتقدوا أننا سنقلب الأمور رأسًا على عقب، وأننا سنغير الأحوال إلى أحسن حال. ولكن يجب أن تؤمنوا بأننا سنكون بداية التغيير، فالموضوع ليس انقلابًا، والبناء يحتاج إلى أجيال لأنه عمل تراكمي كما كان الانحدار والتدهور. وسأكون متفائلًا وأقول أن الأزمة السياسية – الاقتصادية بدأت منذ اليوم الأول بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، لا قبلها، علمًا أنها كذلك.
فنحن نعيش عصر الانحطاط والانحدار على جميع الصعد، الثقافي والسياسيي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي… لذا، إذا أردنا النهوض فنحن – في أحسن الأحوال في معادلة فيزيائية – نحتاج إلى الفترة الزمنية نفسها التي استغرقها الانحدار، مع العلم أن إعادة الترميم والإصلاح والبناء تحتاج إلى وقت أكثر. فالانحدار – منطقيًّا – يكون أسرع كثيرًا من الصعود.
من هنا، تكمن مسؤوليتنا في أن نكون جسر عبور للأجيال المقبلة للتغيير الفعلي، وأن نكون في موقع النصح والإرشاد لها لتغيير نمط التفكير الذي تماهى مع الاستسلام والخنوع والاعتقاد بأن العقول حُنِّطَت، ويجب أن تتعايش مع مقولة أن هذا ما كُتِب عليكم ولا تستطيعون تغييره. وهنا كان دورنا أن نقول للجميع أننا إذا أردنا فنحن نستطيع، وكانت البداية، وفتحنا كوّة للنور في جدار الغرفة المظلمة”.
التاريخ يذكر أفعال الأشخاص الذين صنعوا ثورات العالم وما قدّموه للبشرية ولم يذكر مناصبهم ومراكزهم و أموالهم
من نحن؟ وعند سؤاله عمّن يقصد بضمير المتكلم الجمع “نا”، الذي استخدمه في غير موضع، هل يقصد به كتلة التغيير المؤلفة من 13 نائبًا، أجاب بالنفي: “ليس الكتلة هي المقصودة، فهذه الكتلة سارت في ركب التنميط الذي أرفضه رفضًا قاطعًا، وعندي مآخذ كثيرة عليها، طبعًا مع استثناء أشخاص منها. وأنا أرفض أن نكون كتلة تغيير وإلا أصبحنا كغيرنا، فالتغيير نهج ومسار طويل. قصدت بهذا الضمير كل مَن يؤمن بالتغيير وكل مَن يرفض الوضع الراهن الذي نعيش، إنْ داخل الندوة البرلمانية أو خارجها. وأكثر من هذا، أقصد به نحن ماضيًا وحاضرًا مستقبلًا، ماضيًا الفئة التي هُمِّشَت وظُلِمَت على المستوى الفكري في لبنان، من التنميط الفكري والتنميط العقائدي والتنميط القبلي والإقطاعي والتنميط الاقتصادي… فلبنان سابقًا كان يحتضن كوادر على المستوى الفكري بين اليسار واليمين، وحتى في العالم العربي كان الانقسام بين تيارين: التيار الناصري، وتيار ما يُعرَف بـ”حلف بغداد”، بما يحملان من فكر قومي عروبي تحرّري… بعيدًا من الطائفية والمذهبية… وحاضرًا، أقصد الفئة التي رفضت الاستكانة وهزيمة الفكر في الوطن العربي ككل، الفئة التي أرادت الانتفاض وأخذت على عاتقها مسؤولية أن تضع أسسًا متينة للجيل المقبل على درب التغيير، وهذا التغيير قد لا يكون في أيامنا لأنه عمل تراكمي كما قلنا، ولكن واجبنا – وهنا تكمن أهمية الموضوع – العمل على بناء الأمل في نفوس أبناء هذا الجيل الذين تنكروا لما يرونه من إحباط في الواقع السياسي والواقع الاجتماعي والواقع الاقتصادي… ونحن فئة المهاجرين أيضًا، الذين تركوا قلوبهم وأمانيهم وآمالهم في لبنان، والذين لم يعتادوا الاستسلام، فتركوا كل ما بنوه في المهجر وعادوا ليسهموا في بناء الوطن، وأنا منهم. هؤلاء الذين تركوا ما يُسَمّى منطقة الأمان، حيث رغد العيش والراحة والاكتفاء الذاتي والحرية… وقرروا أن يكونوا في عين العاصفة، بل أن يكونوا هم العاصفة ويشكلوا قدوة لغيرهم في عدم التخاذل وعدم الاستسلام وعدم الترجل عن أحصنتهم، والتسليم لصانعي الواقع السياسي المرير الذي نعيش، وهذا ما يوصلنا إلى نحن مستقبلًا وأقصد أبناءنا. فبغض النظر عن مسؤوليتي الوطنية وانتمائي إلى بلدي ومنطقتي، ثمّة مسؤولية كبيرة وحلم أكبر أحملهما في قلبي وعلى عاتقي تجاه أولادي، أن أردّهم إلى جذورهم، إلى لبنانيّتهم ليس في الهوية وحسب، بل في الانتماء والهوى، وأعتقد أنني نجحت في الأمرين: تنفيذ المسؤولية وتحقيق الحلم. فالأمر ببساطة عندما يكون المرء شابًّا يسعى ويركض ليعمل لنفسه ويحقّق ما يصبو إليه، ولكن بعد أن يصبح مسؤولًا، فإن البطولة تكمن في أن يعمل ليقدّم لغيره، لأن العمل لنفسه ما عاد مجديًا وليس له معنًى. فقيمة الإنسان الحقيقية في مدى تأثيره إيجابًا في الآخرين. لهذا، اخترت الخروج من منطقة الأمان الشخصية والمواجهة لتحقيق قيمتي كإنسان من خلال التضحية من أجل الغير. في هذا المعرض، سأورد أمرًا يعيش معي وأعيش ضمنه، عندما كنت في الصف الابتدائي الثاني، تأثرت بدرس في القراءة العربية هو أطلس حامل السماء، هذا الدرس ما يزال في ذاكرتي ومخيلتي بكل ما فيه من رمزية لحمل المسؤولية. وأنا مذّاك أسأل نفسي، هل أطلس سعيد أم حزين؟! هو الذي لا يستطيع أن يقدّم شيئًا لنفسه بسبب المسؤولية التي يحملها، حتى أبسط حقوقه لا يستطيع أن يحصل عليه وهو دخوله المرحاض. واليوم، أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال، وهو أن أطلس كان سعيدًا، لأن قيمته ليست بما فعله لنفسه بل بما قدّمه لغيره. وأنا أتماهى معه في هذا، لأننا ببساطة إذا قرأنا التاريخ، نجد أن أكثر الأشخاص تأثيرًا في غيرهم هم الذين عملوا للناس لا لأنفسهم، من أفلاطون إلى المسيح إلى محمد إلى غاندي… وصولًا إلى الأيقونة نلسون مانديلّا. هؤلاء الأشخاص صنعوا ثورات في العالم وغيّروا وجه التاريخ الإنساني. والمفارقة أن التاريخ حين يذكرهم لا يتطرّق إلى مناصب ومراكز تبوأوها ولا إلى أموالهم التي لم يمتلكوها يومًا، بل يذكر أفعالهم وتأثيرهم وما قدّموا للبشرية… والدليل على هذا أن لا أحد في الدنيا يعرف ما كانوا يملكون – إن ملكوا – ولكن الجميع يعرفون عنهم أنهم كانوا رموزًا عظماء”.
“ما فيك تكون مش من مطرح”
وتابع جرادي: “في حادثة حصلت معي خارج لبنان، قلت لزوجتي تقول فيروز في مسرحية “جبال الصوان” التي يجب أن تُدَرَّس في لبنان يوميًّا لا كل سنة: ما فيك تكون مش من مطرح، وأنا لا أريد أن أكون مش من مطرح، بل أريد انتماء. أريد وطنًا لا منزلًا. أريد وطنًا أمضي فيه تقاعدي، وكان الرجوع إلى لبنان، تحديدًا إلى بلدتي إبل السقي، لأبني فيها منزلًا أزرع فيه أحلامي وطموحاتي في خدمة الناس، وأزرع أمامه عريشة، وأستقبل الناس في فيئها، وإذا متّ يقول المعزّون “اللي خلّف ما مات”.
وعن اختياره العمل السياسي، وعمّا تغير منذ انتخابه، وما إذا ندم على هذا الخيار؛ حيث إنه قد يخسر من رصيده عند الناس – وعلى سبيل التأكيد – فإن زميلة لي من بلدة الخيام اسمها مهى عواضة، أوصتني أن أقول له حرفيًّا أنني ضحيت بهدية عيد ميلادي لأنتخبه؟ أشار جرادي الى انه “يجب ألّا نفقد البوصلة والاتجاه الصحيح، فنحن حدّدنا هدفنا ويجب أن نمضي قدمًا نحوه، رغم العقبات والصعوبات التي قد تعترضنا، من باب الشعور بالمسؤولية لا بالمنصب، فانتخابنا من الناس “تكليف لا تشريف”. فعلى المستوى الشخصي، هذا التكليف أرهقني وزاد أعبائي وجعلني ألملم أشتات نفسي. وإذا أردتَ الحق، أنا لست في حاجة إلى منصب أو مركز لأكون ناجحًا مهنيًّا واجتماعيًّا”.
ليست طوباوية
وفي إجابته عن السؤال ألا ترى أن في الأمر طوباوية إلى حد كبير، قال: “هذا طبع عندي وهكذا تربيت، ومَن شبّ على شيء شاب عليه. ولا أستطيع أنا أغير نفسي الآن، وهذا ما يؤكده بيت الشعر القائل:
إن الغصون إذا قوّمتها اعتدلت/ ولا يلين إذا قوّمته الخشبُ
حتى في بحوثي العلمية والأكاديمية، يجب أن أخوض التجارب حتى النهاية أيًّا كانت النتائج والعقبات، ففي عرفي ومعتقدي يجب أن أُحدِث فرقًا في ما أسعى إليه، ولا أرضى أن أكون حياديًّا أو مسايرًا. قد يكون في الأمر إرضاء لنفسي، ولكن الأكيد أن فيه تضحية كبيرة تجاه الآخرين. فجميع مَن قدّموا اختراعات للبشرية، لم يكن هدفهم تحقيق المصلحة الشخصية المادية البحت، بل كان خدمة الإنسانية ومعرفة أنهم عملوا وقدّموا الكثير، وهذا حق مكتسب لهم، وتجب المحافظة عليه وهذا دافع أكبر لهم. فالأمر متوقف على ما إذا كان استغلاله للمنفعة الشخصية أم للخدمة العامة. وهذا ما يُسمّى الشغف الذي يتخطّى حدود الأنا، ولا أرى فيه طوباوية. وهذا يعود إلى شخصية الإنسان ونشأته وطبعه وتربيته…
بعض “نواب التغيير” تماهى مع الطغمة الحاكمة
ومع إنتخاب الرئيس خرجوا من المعادلة
تعثُّر أم سقوط، السقطة المدويّة
وعن تماهي بعض نواب (التغيير) الـ13 مع الطغمة الحاكمة وانضمامهم إليها وانخراطهم معها، أكد أن “هذا فعلًا ما حصل في الفترة الأخيرة من خلال ما شاهدناه من اصطفافات سياسية. وأنا رفضت وأرفض ما فعلوا. فالجموع التي انتفضت في 17 تشرين من أجل الانفلات من التنميط الفكري والطائفي والسياسي الذي أوصل البلاد إلى الحضيض، عادت إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة، لأن الطغمة الحاكمة خافت من هذا المد ومن الجديد الآتي، فخاضت حربًا شرسة لإعادة الأمور إلى سابق عهدها، مستخدمة جميع أنواع الأسلحة بما فيها الترهيب والترغيب… وهنا كانت الآمال معقودة على النواب التغييريين الذين خيّب بعضهم آمال الجماهير الساعية إلى كسر النمطية السائدة، بإعادة إنتاج الاصطفافات السياسية والتنميط الطائفي، وهذه كانت السقطة الكبرى والذنب الذي لا يُغتَفَر، وقد قلت لأحد الزملاء: اتلُ صلاة الغفران ما شئت، فلن تُغفَر لك خطيئتك. فكيف يُعقَل أن ترمي نفسك أنت الآتي من رحم المعاناة، في قلب هذه الاصطفافات؟! هذا رأيي الشخصي، وأنا أتحمّل كامل المسؤولية في هذا، وسأبقى أناضل ولو بقي صوتي الصوتَ الوحيد الصادح في البرية كصوت يوحنا المعمدان. وهنا أقول أننا – كبشر – لسنا منزّهين في العمل – أيًّا كان – عن الوقوع في الخطأ، فقد ننجح وقد نفشل، وهذه سنّة الحياة. لكن يجب أن نميّز التعثّر من السقوط. فجميع حركات التحرّر في العالم، على مرّ التاريخ، تعرّضت لنكسات وتعثّرت في أماكن كثيرة، وفي النهاية وصلت إلى مبتغاها. وهنا أتكلم بواقعية كوني طبيبًا. وأقول للذين خاب أملهم في بعض التغييريين، لا تنظروا إليهم، بل انظروا إلى مَن بقي واستمر. فنحن بما ومَن نمثّل مِلكُ فكرة ومِلكُ مبدأ. وأنا من الذين يحاربون بالفكرة ومن أجلها، ولا أنظر إلى الذين سقطوا ولا حتى ألومهم، خصوصًا في جلسة انتخاب رئيس للجمهورية الأخيرة، لأنّهم خرجوا من المعادلة بالنسبة إليّ. أما الذين وضعوا ورقة بيضاء فأراهم يمثّلون الضياع وهم في خضمّه. أما خياري فقد كان واضحًا، وأعلن صراحة أنني انتخبت زياد بارود. هذا الخيار لجعل أولادنا فخورين فيه. فإذا سُئلوا يومًا، مَن رئيس جمهوريتكم؟ يجيبون صراحة وباعتزاز وهم ينطقون اسمه.
من واجبي أن أتعامل مع كل القوى/ الثنائي (الشيعي) و”اليسار” عمومًا لا الشيوعي وحسب باعتبارها أمرًا واقعًا
وعن علاقته بالأحزاب – خصوصًا الحزب الشيوعي – والتيارات السياسية في الجنوب، لفت الى انه “إذا نظرنا إلى تاريخ الجنوب، وجدنا أنه كان مصدر أو خزان الفكر العلماني وحركات التحرّر في لبنان، من جبل عامل إلى درب التجلي – جبل حرمون – امتدادًا إلى وادي التيم… لذا، رغم الاصطفاف الطائفي وهيمنة الثنائية السياسية فيه، كي لا ننكر واقعًا سياسيًّا، يبقى العامل الاجتماعي والواقع الفكري مؤسِّسَين للتفلت والحوار والخروج من تلك الثنائية، والدليل على ذلك خرق مرشَّحَين من لائحتنا في الانتخابات النيابية التي أُجرِيَت العام الفائت لائحة الثنائي، حيث خاض الجنوب – الدائرة الثالثة – أم المعارك الانتخابية. ورغم هذه المشهدية، وأقولها صراحة، كانت مساحة الحرية كبيرة جدًّا ومحترمة، طبعًا مع بعض الاستثناءات في الإرهاب الفكري التي تحصل في جميع الأماكن… وفي علم السياسة، الإرهاب الفكري يعني وجود سيد ووجود عبد، وحين ارتضى الناس أن يكونوا عبيدًا ولّوا الزعماء أسيادًا عليهم، فسيطر عليهم السبات الفكري والثوري وتخلوا عن روح التغيير. وخلال فترة الانتخابات، انقسمت أراء الناس حولنا إلى ثلاثة، فمنهم من وصفنا بالمغفلين، ومنهم من وصفنا بالانتحاريين، ومنهم من جمع الصفتين معًا، فوصفنا بالمغفلين الانتحاريين، وكان جوابنا أن معادلتكم غير صحيحة، ونتائج الانتخابات ستبرهن لكم أننا على حق. وفعلًا هذا ما حصل، في وقت لم يكن أحدٌ ليجرؤ على الترشح في الانتخابات النيابية من دون الحصول على موافقة الباب العالي في المنطقة ونيل رضاه الإمبراطوري”.
واشار الى أن “التشرذم الذي حصل في كتلة التغيير، وهو ما سميته السقطة الكبرى، فقد ظهّر فريقًا من ستة نواب، وقّعوا بيانًا ضد الاصطفاف الذي حصل، وقد ينضم إليه آخرون مؤيدون له. وبالنسبة إلى باقي الأحزاب، فأنا لا أستطيع أن أنكر واقعًا موجودًا، هي موجودة في الجنوب منذ عقود. وفي العملية الانتخابية الديموقراطية، كما أرضى بنتائجها إذا كانت تصبّ في مصلحتي، يجب أن أتقبّل الخسارة وأحترمها وأحترم أراء الناس الذين اختاروا. لذا، من واجبي أن أتعامل مع جميع القوى الموجودة – الثنائي واليسار عمومًا لا الشيوعي وحسب – باعتبارها أمرًا واقعًا، فأنا وغيري كثر لسنا إلغائيين، ولكن علينا واجب تغيير التنميط والعمل على تحسين الأوضاع كلها خطوة خطوة. واليسار إجمالًا كان الرافعة التي أوصلتنا إلى الندوة البرلمانية، بسبب التململ ورفض الواقع المعيش على جميع الصعد، حتى اليمين المسيحي كان له دور كبير في هذا. وكلامي هنا مستند إلى وقائع هي نتائج الانتخابات لا إلى تحليل، فقد كانت حصيلة الأصوات للياس جرادي، ربعًا من السنّة، ربعًا من اليسار، ربعًا من الشيعة وربعًا من المسيحيين. وهنا لا أنسى دور الحزب الشيوعي الذي كان له دور كبير في توحيد لائحتنا. هذا كله، رغم جميع الدعوات إلى المقاطعة التي أعتقد أنها لم تكن بريئة، وهي تتماهى مع المنظومة الموجودة. من هذا المنطلق، لا أستطيع أن أختزل علاقتي بالناس بحزب معيّن، وإلّا أكون كالأحزاب الأخرى القائمة على الفكر المنمّط وعلى التكليف دون تغيير.
فشلت مؤسسات الدولة نتيجة غياب التخطيط لبقائها واستمرارها
وعن المشاريع الإنمائية في الجنوب، من المدرسة الرسمية إلى المستشفى الحكومي إلى الطرقات والزراعة… شدد جرادي على أن “فشل جميع المؤسسات نتيجة لغياب التخطيط لبقائها واستمرارها من الأساس، ولن أطلق توصيفات كثيرة على أن الأمر كان عملًا منظّمًا، وهو كذلك فعلًا، لتهميش الدولة اللبنانية وتحطيمها وانهيارها اقتصاديًّا وأخلاقيًّا وماليًّا… وضرب المؤسسات الرسمية اللبنانية وأولها صروح التعليم كافة… لذا، رفعت الصوت عاليًا في اللجنة الطبية ومع وزير الصحة ومع الزملاء في اللجنة في المجلس النيابي لتفعيل دور المستشفى الحكومي في لبنان عمومًا وفي الجنوب خصوصًا، إلى أن توصّلت إلى انتزاع وعد من وزير الصحة لدعم المستشفيات الحكومية وتأمين الطاقة الشمسية لإنتاج الكهرباء في مستشفيي مرجعيون وحاصبيا ومستشفى النجدة وتأمين الأدوية والطبابة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. وبالنسبة إلى المدرسة الرسمية، فقد أسسنا جمعية أهلية لدعمها، لأننا نؤمن بأن هذا دورنا للنهوض بالإنسان، وتواصلت مع المغتربين لدعم الأستاذ الرسمي والمدرسة الرسمية بشتى الوسائل. وهذا ينسحب على دعم المزارع اللبناني، في ظل غياب الدولة اللبنانية والبلديات، بسبب النظام الرعوي الذي كان سائدًا وما يزال…
وأشار الى أنه من “المشجعين للمبادرات الفردية لبناء بيوت ثقافية، وأكثر من هذا، يتواصل مع أصحابها ويدعمهم، والشهر الماضي نظّم مهرجانًا لنشاطات ثقافية متعدّدة ورعاه في سوق الخان، لأبناء الدائرة الثالثة في الجنوب خصوصًا ولمن يحبّ المشاركة من خارجها، أسهم فيه كثر – أفرادًا وجمعيّات – كبيت ثفافة وفنون/ شبعا… وهو مستمرّ في تنظيم مهرجانات ومؤتمرات وندوات ثقافية هدفها بناء الإنسان والبشر قبل بناء الحجر… وسيبقى كالثقيف (الرمح) منطلقًا للوصول إلى الهدف المنشود”.
زيارتي الى سوريا للمشاركة في مؤتمر طبي ولم تكن الأولى ولا الأخيرة
وعن زيارته سوريا، والهجوم الذي تعرّض له بسبب ذلك، باعتبار أنه غير منسجم مع كتلة التغيير، وأن زيارته تطبيع مع النظام في سوريا، قال: “جيد أنك أثرت الموضوع من جديد الذي أصبح ممجوجًا كثيرًا لأضع حدًّا للافتراء والكذب والتطاول، أولًا أنا طبيب أكاديمي ومحاضر في جميع الدول العربية والغربية، وأزاول مهنة الطب منذ زمن، وهذا عملي الأساسي الشخصي الذي أفتخر به وأعتزّ. أما الحقل السياسي فكان للخدمة العامة. وأنا أزور بلدانًا كثيرة من أميركا إلى فرنسا وسنغافورة وهونغ كونغ والسعودية والعراق ودبي وسوريا… بحكم مهنتي وبعمل أكاديمي وإنساني بحت، وزيارة سوريا للمشاركة في مؤتمر “الجمعية السورية لأطباء العين في دمشق” ليست جديدة، ولم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، وهذا أمر لا أخجل به ولا أخفيه قبل النيابة وبعدما أصبحت نائبًا، على العكس تمامًا من المفروض أن يحاسبني الناس، إعلاميين وناخبين، إن غيّرت عاداتي وتغيّرت كرجل منفتح علميًّا وثقافيًّا… أما سياسيًّا – للذين يتهموننا بالتطبيع وبغيره – فتواصلي مع الشعوب تواصل إنساني لا أختزله بأي موقف سياسي، فعلاقتي معها عابرة لجميع المواقف السياسية… فإذا حاضرت في مؤتمر للطب في البحرين – على سبيل المثل – لا أطلق مواقف سياسية عن معاداة المملكة أو موالاتها وكذا في البرازيل وفي أي دولة أخرى… وحيثما تدعُني مهنتي الإنسانية فسأكون. والمؤتمر الذي دُعِيت إليه للمحاضرة، أُدعى إليه من سنين، وسأحافظ على هذا الأمر ما حييت. فإذا علم الناس في يوم أنني رفضت دعوة هذا المؤتمر، فهذا يعني أنني في المرات السابقة كنت مخطئًا، وهذا لن يحصل إطلاقًا”.
تقديم دفتر المحاسبة
وعن مشاركة الناس في اللقاء الذي دعا إليه تحت عنوان: “سنة في البرلمان، ما لها وما عليها”، في حضورهم وتفاعلهم وهواجسهم وتطلعاتهم وأفكارهم والتحديات التي واجهوها وتحديد آفاق العمل في العام المقبل، رأى أن “اللقاء كان من الممكن أن يكون أفضل ممّا كان، لكنه إجمالًا كان جيدًا. أما الهدف من هذا اللقاء فكان تقديم دفتر المحاسبة للناس الذين لم نكن يومًا بعيدين منهم، قبل الانتخابات وبعدها، ودعوتهم إلى انتقاد أخطائنا علنًا، فلسنا ممّن يطربون للمديح والتملّق. فالمسألة كانت تجربة أولى في الندوة البرلمانية وتجربة أولى في اللقاء. وحاليًّا، نسعى إلى مؤتمر يكون أوسع وأشمل، ونأمل أن تكون المشاركة فيه أفضل على جميع الصعد. فلا ننسى أن الظرف الاقتصادي ضاغط على الناس الذين لا يقيمون وزنًا إلا لأولوياتهم في الحياة. وأن حضورهم كان صعبًا بسبب الانقسام السياسي الحاصل في البلد، نتيجة الجلسة الأخيرة لانتخاب رئيس للجمهورية، فعدم المشاركة الكثيفة كانت إما لتسجيل موقف سياسي، وإما بسبب الضغوط التي مورست على الناس… مع أنني كنت أفضل حضور الناس لمحاسبتي على تقصيري إن اعتبروني مقصرًا، ومواجهتي بأخطائي لتصحيح المسار – أو في الأقل لتوضيح النقاط الخلافية – لتصحيح مسارنا والاستمرار في نهجنا. وهنا أقول كما قال أبو بكر الصديق للناس حين وُلِّيَ خليفة عليهم: “… إذا رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني”. هذا النهج الذي نريد، والذي نطمح إلى بنائه. فالمواجهة في طبعي إن رأيت خطأ ما. وعندما دعا البطريرك (بشارة الراعي) للقاء مسيحي، لبّيت الدعوة، رغم حملات اللوم والعذل التي كيلت عليّ، فكان جوابي أن الحل ليس في المقاطعة، بل في الذهاب إلى عقر دارهم ومواجهتهم وقول الرأي الحرّ – أيًّا كان – لأن عدم المواجهة تعني أنك خائف ومتردّد وغير مؤمن بما تعتقد. وحضوري في اللقاء كان لإيصال رسالة مفادها ألّا تكرّسوا الاصطفاف الطائفي والاصطفاف السياسي. ورأيي الحر مصدره أنني لا أنتمي إلى جهة وليس لمخلوق يدٌ علي ولا أقبل من أحد شيئًا، فإن قبلت من شخص ما أي شيء، فهذا يعني أنه صادر حريتي واستقلاليتي. والتحدي الكبير يكمن في كيفية التوفيق بين مصدر رزقي الشخصي واستقلاليتي. أنا لست من عائلة إقطاعية عندها أملاك وتتمتع برخاء اقتصادي، بل من عائلة تُصَنَّف دون الطبقة الوسطى بكثير. والمعادلة عندي في بساطة، يجب أن أعمل لأحصّل قوت يومي، فإذا توقفت عن العمل يومًا لا آكل، ولا أستطيع أن أقوم بواجباتي العائلية”.
لذا، إما أن أعمل بنفسي ولنفسي ولمن معي، ويبقى قراري حرًّا، وإما أن أتوقف عن العمل وأرتهن إلى الغير، وآكل مال الناس ويُصادَر قراري.
وختم واعدًا بـ”العمل قدر المستطاع وأكثر، ليكون عند حسن ظن الناس الذين علّقوا آمالًا عليه وآمنوا به. ويعدهم بتقديم مشروع قانون مهم جدًّا سيعلنه لاحقًا، لأنه يريد أن يجمع مليون توقيع عليه من الناس، قبل طرحه في المجلس النيابي”.