حتى لا نفقد إنسانيتنا..!
“المدارنت”..
أثارت كلمة عزاء للشعب الفلسطيني بـ“استشهاد” أحد رموزه وقادته في معركة الشرف والدفاع عن الحق زوبعة في فنجان بعض أصدقائنا المعارضين السوريين.
وهي، في أحد وجوهها، لم تكن إلا اعتذاراً مقنعاً عما بدر من بعض شبابنا من كلمات لا تليق بنضال الفلسطينيين ولا تراعي معاناتهم في وقت يذبحون فيه أمام أعين العالم المتفرج بأكمله.
كانت، بمعنى آخر، تعبيراً عن الاعتراف بالتضحيات الهائلة التي قدمها هذا الشعب، وببطولة جميع أبنائه الصامدين في غزة بشكل خاص في مواجهة وحش حديدي سلطه تحالف شيطاني على الجميع. وهي، في النهاية، قضية أخلاق وأدب وتعامل إنساني قبل أن تكون قضية سياسة، ودفاعاً عن إنسانيتنا وخشية من هدرها على مذبح الشماتة والانتقام. فإذا فقدنا القيم والمبادئ والروح الإنسانية، فقدنا أنفسنا، ولن يعود هناك بعد ذلك معنى لا لثورة ولا لكرامة ولا لحقوق وحريات.
كانت أيضاً دفاعاً عن السوريين ضد خطر انطوائهم على أحزانهم وانزلاقهم إلى مواقف انعزالية تفصلهم عن محيطهم وتدفع بهم إلى الارتماء، كما يريد أعداؤهم، في حضن القوى الراعية لإسرائيل والداعمة لنظم الطغيان قبل ثورة آذار وبعدها.
وكان من بين الدوافع إليها الخوف من انزلاق بعضنا، بضغط من مشاعر الشماتة والانتقام اللاشعورية، إلى تبني سردية الكيان الإسرائيلي الذي يريد أن يقلب الصورة رأساً على عقب، فيجعل من مقاومة الشعب المضطهد هي المشكلة، وليس الاحتلال، ويمرر بذلك حرب الإبادة ضد شعب كامل بذريعة الرد على عملية الأقصى “الإرهابية”، تماماً كما برر نظام الأسد ومعه العديد من العواصم الغربية الصمت على حرب الإبادة السورية بذريعة تغول داعش والفصائل الإسلامية لتخفي بذلك جوهر الثورة التحرري في مواجهة أحد أشرس النظم الاستبدادية والإرهابية.
والقبول بمثل هذا الخطاب المعلن أو المضمر من قبل بعضنا، وفي هذه اللحظة، يمكن أن يتحول إلى تواطؤ مقصود أو غير مقصود مع سياسات الحرب الاستيطانية الإسرائيلية والأمريكية وتحميل الفلسطينيين وزر ما حصل ويحصل من مآسي ودمار بذريعة عملية إرهابية، خطط لها شخص ونفذتها حركة سياسية متطرفة وألهمتها فكرة إسلامية فاسدة بالطبيعة، وتبرئة الاحتلال بصورة مباشرة أو غير مباشرة من مسؤولياته عما يجري من عنف وقتل ودمار.
وهذا يكرر ما جرى ويجري إلى الآن في سوريا. فهنا أيضاً يردد النظام وحماته وبعض المذعورين من أعضاء المعارضة أن مسؤولية ضحايا الحرب الإبادية التي شنتها قواته وقوات حلفائه تقع على الشعب وعلى الفصائل المقاتلة “الإرهابية” المرتبطة بالصهيونية وأمريكا والغرب.
ولو لم تقم ثورة ولا كانت هناك مقاومة فلسطينية لما وصلت الأوضاع إلى ما هي عليه. فعلى منوال نظام الأسد وحلفائه، تلقي حكومة الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية في كل ما يحصل من دمار وإبادة شاركت فيها قوات أمريكية وأوروبية وبالأسلحة الأكثر دماراً، على الفصائل الفلسطينية وتختبئ وراء هذا الخطاب لتبرر كل سياسات القتل المنظم والانتقام الجماعي وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ونظام الأبارتهايد المستمر منذ 75 سنة.
وهي أيضاً ترفض الاعتراف بالفلسطينيين كشعب، ولا ترى فيهم سوى إرهابيين، حتى بعد أن قبلت قيادتهم في منظمة التحرير الفلسطينية تسوية رديئة في أوسلو كرست حرمانهم من حقوقهم الأساسية في وطنهم. ولم تتوقف عن بناء المستعمرات في الضفة وتحويل غزة إلى “غولاغ” ومنفى لمليوني إنسان ورفض أي تسوية سياسية، ولا ترى مخرجاً للصراع سوى بالاغتيالات والقتل الجماعي والتهجير.
ولا يهدف هذا الطرح إلا إلى طمس جوهر المسألة وتغييب الأسئلة الأساسية التي لا حل من دون الإجابة عنها وهي: لماذا نشأت هذه الحركة؟ ومن دفع الفلسطينيين إلى المقاومة تحت لوائها؟ وقبل ذلك، من المسؤول عن وصول القضية الفلسطينية إلى الموقع الميت والانتحاري الذي غذى التطرف والراديكالية الإسلامية وغير الإسلامية؟ وهو المنطق الذي يضع المسألة في طريق مسدود ويلغي أي إمكانية للخروج من الصراع نحو حل مقبول يحقق العدالة ويضمن السلام والأمن للجميع.
إن إنكار المشكلة الحقيقية وعدم النظر فيها إلا من زاوية العنف من دون التفكير بأسبابه يجعل من المستحيل أن يكون هناك خيار آخر غير مواجهة العنف بعنف أكبر وأشد. وهذا ما عاشته المسألة الفلسطينية وعانت منه، ولا تزال مسائل التحول السياسي في البلاد العربية حيث ترفض النظم الأوليغارشية القائمة النظر إلى حركات المعارضة السياسية المطالبة بالديمقراطية إلا على أنها حركات إرهابية مدعومة من الخارج وعميلة، وأي تفاوض أمامها هو استسلام أمام العنف والإرهاب يهدد الدولة والنظام العام.
كما هو واضح، لا يقود هذا الطرح الذي يستبعد منذ البدء أي حوار أو تسوية سياسية لمسائل الصراع إلا إلى طريق العنف. ولأن الأمر يتعلق بمسألة وجودية، أي بمصير الشعوب ومستقبلها، سواء في فلسطين أو في سوريا، ولا يمكن أن يتوقف إلا بالقضاء النهائي على الخصم، فلا مهرب من خوض حروب الإبادة التي لا يتوقف عنفها عند حدود القوى المنظمة والجيوش، وإنما ينزع إلى تدمير العمران وتهجير الشعوب التي “تنتج العنف والإرهابيين”.
فليس تجنب الحرب والدمار هو ما تسعى إليه هذه النظم الاستعمارية الجديدة، وإنما الاستعداد والإعداد الدائم لحروب لا تنتهي. هذا ما برهن عليه حكم الأسد، وهذا ما تبرهن عليه حروب نتنياهو في فلسطين اليوم.
وينبغي التركيز على هذه النقطة دون أن يعني ذلك تجاهل أخطاء المقاومين أو التقليل من شأن الخسائر الفادحة التي قادت إليها أو يمكن أن تقود إليها قرارات مرتجلة أو خاطئة. المهم أن لا نضيع البوصلة في تحديد المشكلة الرئيسية، ونطمس دون قصد مسؤولية المجرمين الفعليين أو نغطي عليها بتحميل الضحايا مسؤولية قتلهم بأنفسهم بعد دفع بعض شبابهم إلى العنف والتمرد والانتحار.
والمشكلة الرئيسية هي في أساس وجود إسرائيل وشروط تأمينها والوظيفة التي تقوم بها لحساب الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي حولت المشرق العربي إلى برميل بارود وجعلت تاريخه سلسلة من الحروب والنزاعات والاغتيالات والموت الطويل.
لا ينفي ذلك أن عدداً من المعنيين، ومنهم السنوار، قد أخطأوا بحق السوريين بإعلان تأييدهم لنظام الأسد الإجرامي. لكنهم لم يرتكبوا، كما فعل قادة حزب الله، الذين تباهوا بغطرسة استثنائية بمشاركتهم في القضاء على الثورة السورية، وارتكبوا جرائم حرب مباشرة بحق أبنائنا وبناتنا، لا دفاعاً عن قضية عادلة أو حتى بذريعتها، وإنما ارتهاناً لإرادة الولي الفقيه الإيرانية الطامحة إلى بناء إمبراطورية إقليمية على حساب استقلال شعوب المشرق وحريتها وكرامتها. ولم يكن في ذلك إلا أداة في يد الحرس الثوري لاختراق هذه الشعوب وإخضاعها.
أخطأت “حماس” في التعبير عن تأييدها للنظام بعد أن وقفت في البداية مع السوريين وأغلقت مكاتبها في دمشق، لكنها لم تنحرف عن هدفها، وزجت بكل قوتها في مقاتلة المحتل الإسرائيلي لأرض فلسطين والجولان. وهذا يُحسب لها. وللشعب الفلسطيني وحده الحق في محاسبتها فيما يتعلق بأخطائها وبخيارها السياسي والاستراتيجي، ونحن لسنا أوصياء عليه.
وفي كل الأحوال، ليس خطاب السنوار السيء الحظ وبعض رفاقه من أجهض ثورتنا، إنما الغرفتين العسكريتين “الموم” و”الموك” اللتين تولتا منذ 2013 القيادة وتوزيع المال والسلاح على الفصائل، فأعطت كل منهما من تشاء وحرمت من تشاء، وقبولنا بذلك وتسليمنا بالتبعية للغير. هكذا تراجعت مواقع الثورة ومساحات سيطرتها إلى منطقة محدودة بعد أن كانت الفصائل الأهلية قد حررت الجزء الأكبر من الأرض السورية، حتى بعد زج الإيرانيين ميليشياتهم الطائفية وتدخل القوات الروسية الذي لم يكن من دون موافقة أمريكية. فليس لسياسة أمريكا في منطقتنا بوصلة أخرى غير المصالح الإسرائيلية.
في جميع الأحوال، لا ينبغي أن نفرح لفرح الإسرائيليين ونشمت لشماتتهم. ليست مصالحنا متطابقة مع مصالح إسرائيل ولا متقاطعة معها. من يعتقد ذلك يضيع البوصلة ويضل الطريق ويفاقم من أزمتنا وانقساماتنا وضياعنا.
لا يمكن لمصالحنا الوطنية أن تلتقي مع حرب الإبادة الجماعية لإخوتنا في فلسطين، ولا يمكن لمرتكبي جرائم هذه الحرب أن يكونوا حلفاء ذاتيين أو موضوعيين لنا في أي وقت وحال. فهم يرون فينا فرائس، تماماً كما يرونها في الفلسطينيين. ولا ينبغي أن تغرنا ابتساماتهم أو صراعهم مع طهران لوراثة مكانها وبسط سيطرتهم علينا. إسرائيل ليست ولا ينبغي أن تكون البديل لإيران في سوريا. البديل الوحيد لتسلط إيران وعميلها الأسد هو الشعب السوري وحده. ولهذا ناضلنا وضحينا ولا نزال.