حرب تحطيم السودان!
“المدارنت”..
فور أن بدأت الحرب اللعينة الجارية في السودان، لأكثر من 15 شهرًا حتى اليوم، كتبت في هذا المكان نفسه، مقالّا غاية في التشاؤم، حذّرت فيه من سيناريوهات المصائر الأسوأ، وقلت وقتها بوضوح صادم، إن تحطيم الجيش السوداني، لا قدر الله، قد لا يعني أقل من استصدار شهادة وفاة للسودان، الذي نعرفه.
وكنت أظن وقتها أن الاحتمال المفزع بعيد، لكنه وارد، رغم جولات تفاوض متسكّعة في العواصم القريبة والبعيدة، لم تثمر حتى في اتفاق على فتح طرق ومسارات نقل مساعدات لملايين المنكوبين.
وبعد كل ما مضى من فظاعات الحرب الملعونة، تبدو خرائط السودان متفسخة، وتبدو خطوط التقسيم مرسومة غائرة في الأرض، فلم ينجح الجيش السوداني حتى الآن في سحق (ميليشيا) قوات «الدعم السريع» المتمردة، واضطر قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، إلى مغادرة مقر القيادة العامة للقوات المسلحة والعاصمة الخرطوم قبل شهور، واتخذ لنفسه ولحكومته ملاذا في ميناء بورتسودان.
ورغم استعادة الجيش لمناطق في الخرطوم، خصوصا في أم درمان وما حولها، إضافة لمناطق قيادة عسكرية، أهمها قاعدة ومطار «وادي سيدنا»، ظلت جماعات المتمردين من «الدعم السريع» في أغلب نواحي العاصمة المثلثة، تقتل وتنهب وتعيث فسادا في الأعيان المدنية العامة والخاصة، وتحركت بسلاسة خارج الخرطوم، وسيطرت على أغلب ولايات دارفور الخمس، وتحارب لإكمال السيطرة على الفاشر أكبر مدن دارفور.
ومن الغرب إلى الوسط، كانت ضربة استيلاء قوات «الدعم السريع» على ولاية الجزيرة قلب السودان الزراعي، ثم من بعدها أخيرا إلى منطقة جبل موية، ثم جنوبها إلى ولاية سنار، ومدينة سنجة، مع مخاطر متزايدة في ولايات كردفان الثلاث، وولايات النيل الأزرق والنيل الأبيض والقضارف، ومع كل نوبة تراجع، لا تصدر عن الجيش روايات مفيدة ولا مقنعة، تشرح أسباب التساقط السريع للحاميات العسكرية، وهروب قواتها، فيما تبدو قوات «الدعم السريع» منتشية منتفخة، وتقول إنها صارت تسيطر على نحو سبعين في المئة من إجمالي أراضي السودان، فيما لم تتبق تحت سيطرة الجيش الفعلية، سوى ولايات في شمال السودان، وبعض شرقه وجنوبه.
وبقطع النظر عن مدى دقة ادعاءات الطرفين المتحاربين، فقد دخل السودان إلى أسوأ كوابيسه، وصار نحو نصف سكان السودان، شركاء في أحوال التشرد والمجاعات والنزوح واللجوء إلى خارج البلاد، وكل منطقة تدخلها قوات «الدعم السريع».
يهرب أغلب سكانها خوفا وهلعا، وأطراف الحرب، تتكاثر إلى ما لا نهاية، فما كان يسمى «حركات الكفاح المسلح» دخلت إلى حلبات الدم الجديدة، وانحازت بعض فصائلها إلى الجيش، كما يجري في الفاشر وما حولها، بينما تدعم حركات أخرى حرب (ميليشيا) «الدعم السريع» ضد الجيش عمليا.
كما يجري من حركة عبد العزيز الحلو في كردفان وجبال النوبة، وفي أجواء الفوضى والانفلات والبؤس العام، عاودت إثيوبيا ـ من خلال ميليشيات «فانو» الأمهرية ـ هجماتها على منطقة الفشقة الغنية الخصبة زراعيا، التي كان الجيش حرر أغلبها سابقا، وكأن السودان ـ لا قدر الله ـ تحول إلى تركة، يتناهشها الفرقاء من السودانيين وعواصم الجوار، فيما تخفق كل محاولات التفاوض، ووضع حدّ للحرب، ونسمع كل أسبوع تقريبا عن مؤتمرات في عواصم جوار لقوى مدنية متشاكسة، لا يصل أي منها إلى حلّ سوداني، ولا حتى إلى بيان مشترك في العموميات، كما جرى مثلا في مؤتمر القاهرة، قبل أسابيع، وتنصل قوى مشاركة وازنة من بيانه الختامي قبل أن يجف حبره.
الخطر يجتاح السودان وينذر بخلع ما تبقى من جذور وركائز الدولة
صحيح، أنه لا طرف بعينه انتصر بالكامل في الحرب الملعونة حتى الآن، لكن الهزيمة وهوانها كانت من نصيب السودان كله، الذي لم يشهد في عمره الطويل بعد استقلاله عام 1956، سوى سنوات معدودة من استقرار صوري، وتناوبت عليه صور الحكم العسكري فالمدني، ومن دون نجاح لأي منها في وضع السودان على مسار استقرار وتنمية متصلة.
فالبلد شاسع المساحة حتى بعد انفصال ثلثه الجنوبي رسميا عام 2011، وموارده الطبيعية هائلة ومتنوعة، وتركيبه السكاني مختلط بين قبائل وإثنيات عرقية عربية وافريقية وغيرها، وحدوده سائبة مع أغلب دول جواره المأزومة الهشة هي الأخرى، وهو ما يزيد ويضاعف مصادر الخطر من حوله وفي داخله، ويجعله مطمعا للمتصارعين في البيئة الإقليمية والدولية، خصوصا في هذه المرحلة من عمر العالم والمنطقة في قلبه، مرحلة الانفجارات والحروب الطاحنة انتقالا من عالم إلى آخر.
بينما لا يملك السودان حصانة داخلية تحميه وتحفظ تماسكه، فقد ولد السودان، ما بعد الاستقلال بعلّة صارت عاهة مستديمة، هي الضعف المريع لجهاز الدولة العسكري والمدني، وهو ما جعل تكوينه رخوا دائما بلا عمود فقري ناظم، فلا أحزاب ولا تيارات جامعة للتنوع السوداني الكثيف، ولا تنمية مؤثرة تذيب كيانات وعشائر وجهات ما قبل الدولة، وتخلق مجتمعا متجانسا ولو في الحد الأدنى، ولا حتى قوة قهر وصهر للجميع في بوتقة دولة.
فالجيش السوداني، الذي حكم أغلب أوقات ما بعد الاستقلال، كان دائما رمزيا ومخترقا وضعيفا بالجملة، ولم يقم أبدا على أساس التجنيد الوطني العام، وكان مدار سيطرته وحضوره مقصورا غالبا على العاصمة وما حولها، ما شجع دائما على حضور ونمو حركات تمرد في الأطراف البعيدة، كان أولها حركات تمرد في جنوب السودان بطابعه الافريقي، وقد ظلت تحارب جيش الخرطوم منذ ما قبل الاستقلال، وبلغت ذروة عملها في عهد الجنرال عمر البشير وحكمه الإخواني.
واستفادت حركة التمرد من تعبئة «جهادية» جهولة، صورت الصدام كما لو كان حربًا دينية، فانشق السودان في نهاية الحروب الدموية إلى شمال وجنوب، ثم جاء الدور على حروب غرب السودان في دارفور، ومساحتها وحدها أكبر من مساحة فرنسا.
وولدت في سياقها جرثومة (ميليشيا) «الدعم السريع»، وعبر مراحل «جنجويدية» إجرامية، آلت إلى صعود محمد حمدان دقلو المعروف باسم الجنرال حميدتي، وكان «البشير» يصفه بأنه «حِمايتي» لا حميدتي، وتضخم النتوء «الحميدتي» بعد سقوط حكم البشير، وصرنا إزاء جيشين لا جيشا واحدا، وإزاء جنرالين في قمة سلطة المرحلة الانتقالية المتطاولة المتعثرة، وإزاء صراع تفاقم بين البرهان رئيس مجلس السيادة ونائبه حميدتى، وإزاء مشهد عجيب كاريكاتيري في الخرطوم، تتقافز فيه أسماء لقوى مدنية مرتبطة عضويا بالتمويل والتوجيه الأجنبي، وإزاء مخاوف من انتقال سريع للاحتكام إلى الشعب في انتخابات عامة، وهو ما أغرى حميدتي باللجوء إلى لعبته القاتلة.
فقد كان تسليح عديد (ميليشيا) قوات الدعم السريع قد تكاثر طفريا، وكانت أوراق الاتفاقات الإطارية تتطاير، ما دفع حميدتي بتعليمه الأولي الابتدائي، وبروح قائد العصابة الخاطفة الناهبة لكنوز السودان وذهبه من دارفور، إلى كردفان، وباتصالاته الخليجية مع دول فائقة الغنى والطمع، وباستفادته من حدود السودان السائبة، وببعض امتداداته القبلية غرب حدود السودان.
كانت تلك كلها، موارد مؤثرة في ضربة حميدتي الأخيرة، فلم يجد حرجًا مع كل هذه الفوضى في أن يعلن نفسه زعيما وراعيًا للديموقراطية، مقابل الديكتاتورية المنسوبة لشخص الجنرال البرهان، وأعلن الحرب على الجيش بدعوى حماية ما سمّاه «خيار الشعب» في الحرية والسلام والعدالة، وبدت اللعبة الهزلية جذابة لقوى وشخصيات مدنية متطلعة للسلطة والثراء الفردي.
ثم تحول الهزل سريعا إلى مآسي دماء تسيل بغير حساب، وإلى شقاء وهلاك متصل للسودان والسودانيين، مع تكرار النغمة «الجهادية» القديمة نفسها على الطرف المقابل، وتجنيد جماعات المستنفرين دينيا لصالح الجيش، ومن دون أن يضيف ذلك شيئا غير الوبال المتقادم نفسه، فالطرفان يهتفان «الله أكبر» عند كل مذبحة، وفي صفوفها معا قطاعات ما يسمى «الحركة الإسلامية» في السودان، ولا مانع عند حميدتي من تقبل عمامة الشيخ بعد رتبة «الجنرال»، فهي أشياء تشترى من الأسواق، وعنده المال المسروق الكافي، الذي يصوره إماما وديموقراطيا وجنرالا بارعا، يسعى ـ كما يقولون ـ لجعل الحكم في يد المدنيين الديموقراطيين.
وفي الطريق، يهوي رجاله ومرتزقته بالمعاول على رأس السودان، ويحرقون بالنار ما تبقى من اسمه ورسمه، ويحطمون ما تبقى من الجيش وانضباطه وهويته السودانية شبه الجامعة، وفي الوضع السوداني الراهن، فما من قيمة لكلام هازل أو جاد عن الديموقراطية ونوع الحكم، فالخطر الآن يجتاح السودان نفسه، وينذر بخلع ما تبقى من جذور وركائز الدولة السودانية، ويهدد بقاء الجيش كحجر زاوية وحيد في الصرح السوداني الافتراضي، ويفتح أبواب الجحيم لحروب فناء أهلي تبدأ فلا تنتهي.