حكومات سعيّد في تونس.. مختبرات تجارب!
“المدارنت”..
غير معلوم ما إذا كان التعديل الوزاري الذي أجراه الرئيس التونسي، قيس سعيّد على حكومته (25 أغسطس/ آب الجاري)، بعد ثلاثة أسابيع من تولي كمال المدوري رئاستها، وهو الأكبر بين التعديلات الوزارية منذ توليه السلطة (23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019)، شمل تعيين 19 وزيراً وثلاثة كتّاب دولة، ولم يُبق من التشكيلة الوزارية القديمة سوى خمسَ حقائب (وزراء المالية والداخلية والعدل والتجهيز والطاقة)… نقول، غير معلوم ما إذا كانت هذه الحكومة هي الأخيرة في مصفوفة حكومات الرئيس، أو أنّ حكومات رئاسية أخرى تنتظر دورها لاحقاً.
مبرر التساؤل ومشروعيته متأتّيان من توقيت التغيير الحكومي الشامل، ستّة أسابيع قبل موعد الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الجاري (2024)، ما يعطي الانطباع ويُرسّخ الريبة بأن سعيّد مستمرّ في منصبه رئيساً للجمهورية التونسية مهما كانت نتائج الانتخابات الرئاسية، بخاصّة وهو القائل، على هامش لقائه في قصر قرطاج وزير داخليّته خالد النوري (23 أغسطس/ آب الجاري)، إنّ “الشعب التونسي لن يقبل أن يكون في رأس الدولة التونسية خائن أو عميل”، الأمرُ الذي يدعّم موقفاً قديماً صدع به يوم زيارته ضريح الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بمناسبة ذكرى وفاته، في 6 إبريل/ نيسان الماضي، أنّ الانتخابات الرئاسية بالنسبة إليه “إمّا بقاءٌ وإمّا فناءٌ”، وقوله كذلك قبل سنة من ذلك الموعد، وفي المكان نفسه، وفي الذكرى نفسها، إنّه لن يُسلّم البلاد إلا لمن هو “وطني”، من دون تحديد لمواصفات الوطنية وشروطها.
وبما أنّ سعيّد يخوض حربَ تحرير وطنيةٍ، وفق الجملة السياسية المهيمنة في خطابه، وإن لم يُحدّد المُحتلَّ الجديد لتونس لخوض تلك الحرب، فإنّ هذا الخائن العميل غير الوطني هو من ينافسه على خطّة الرئاسة، ممّن يتجرأون على الترشّح للمنصب الأعلى في الدولة في زمن حرب التحرير الوطنية السعيّدية ضدّ معارضيه في الداخل والخارج.
كما لا يخلو تعيينُ حكومةٍ جديدةٍ، قبيل الانتخابات الرئاسية بفترة وجيزة، من دهاء اتّصالي قوامه ترسيخ فكرة انتخاب سعيّد من دون سواه من المرشّحين، وجعلها أمراً واقعاً، والقبول به الرئيس الأعلى شعبية، والأوفر حظوظاً، وفق ما يُروّج في الأوساط الشعبية، وما تُسوّق له مواقع التواصل الاجتماعي الموالية له، وما الانتخابات الرئاسية إلّا في سبيل تجديد البيعة وتثبيت العهدة، وبذلك تكون منافسته ضرباً من الهراء والعبث.
حرم سعيّد كل من عمل معه من أيّ مستقبل سياسي
لإمعانه في احتكار السلطة والاستبداد بها
برّر سعيّد تغيير حكومته عشية الانتخابات الرئاسية بالقول، في أثناء قبول وزرائه الجُدد لأداء القسم (25 أغسطس 2024)، “إنّ الدولة التونسية تستمرّ وتتواصل، وأمنها القومي قبل أيّ اعتبار، ولو اقتضت المصلحة العليا للبلاد إدخال تحوير وزاري حتّى بعد فتح مكاتب الاقتراع ما تمّ التردّد ولو لحظةً واحدةً في اجراء مثل هذا التحوير”.
إلّا أنّ هذا التبرير كان محلَّ استغراب من أغلب مكوّنات الطبقة السياسية والمجتمع المدني والنُخَب التونسية، والصحافة والإعلام الدوليين، ولم يلقَ القبولَ من شرائحَ واسعةٍ من التونسيين ممّن لم يضيّعوا الفرصة للتعبير عن أرائهم في صفحاتهم في “فيسبوك”، فلم يتردّد أغلبهم في وصف تبديل الحكومة في الزمن الانتخابي بالعبث السياسي والتنكّر للتقاليد الديمقراطية بعد أن كان سعيّد استفاد منها، ومكّنته من تولّـي السلطـة.
كان على سعيّد، بدلاً من دوس الأعراف السياسية والانتخابية، وإرساء نواميس غريبة، وتقاليد هجينة، على غرار تعيين حكومة من دون شرعية انتخابية في فترة نهاية ولايته الرئاسية، تجنّب استخدام مرافق الإدارة وأجهزة الدولة التونسية، وعدم توظيف إمكاناتها المادّية والبشرية لمصلحته، وهذا يثير حفيظةَ منافسيه، ويبرز بوضوحٍ في زياراته الميدانية المدن والقرى والأرياف والأحياء الشعبية، ظاهرها معاينة أوضاع الساكنة التونسية، وباطنها الدعاية الانتخابية، وحملة انتخابية خارج زمنها المُحدّد، وإن أنكر ذلك.
كان عليه كذلك تفويض سلطاته إلى رئيسَ حكومته، وخوض الانتخابات الرئاسية مُرشّحاً مستقلّاً على القدر نفسه من المساواة مع باقي المُرشّحين، ويمكن الاستئناس بما فعله رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، حين فوّض سلطاته سنة 2019 إلى الوزير آنذاك كمال مرجان.
كان الرئيس سعيّد (ولا يزال) المسؤولَ الأوحدَ عن اختيار رؤساء حكوماته والوزراء وكتّاب الدولة والولاة والسفراء والقناصل والرؤساء المديرين العامّين لمؤسّسات القطاع العام ومنشآته، من دون مشورة من أحد، ومن دون إطلاع الرأي العام الوطني وعموم الشعب بالأسباب والدوافع، ولم يشاركه في اختياراته الأحزاب والقوى المدنية والنُخَب الوطنية، وينسحب الأمر نفسه على الوظائف السامية في الدولة من مديرين عامّين ورؤساء دواوين الوزراء. وينطبق هذا الأمر على حكومات نجلاء بودن وأحمد الحشاني وكمال المدوري كلّياً، وينسحب جزئياً على حكومتي إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي.
لكنّ الرئيس لم يُحمّل نفسه البتّة المسؤولية في فشل تلك الاختيارات، بل وصف أعضاء حكومته بـ”الرماد”، حين قال بالحرف الواحد يوم 25 أغسطس/ آب الجاري إنّ “التحوير الوزاري اليوم ضروري لأنّك لو ناراً نفخت أضاءت، ولكن أن تنفخ في الرماد فلا بُدّ من إزالة أكداس الرماد”.
إنّ وصف سعيّد أعضاء حكومته أو بعضهم بالرماد يُحاكي وصف الرئيس الحبيب بورقيبة التونسيين بأنّهم مُجرَّد “غبار أشخاص وهو من صنع منهم شعباً أو أمَّةً”، وهي أوصاف لا تخلو من معيبة أخلاقية، ووصم بالدونيّة، واعتداءات رمزية إيطيقية (أخلاقية) وسياسية وحضارية، فكيف لشعب أن يكون مُجرَّد غبار بشر مهما بلغ به التخلّف ومآسي الاستعمار! وكيف لحكومة اصطفاها الرئيس سعيّد بنفسه من بين نُخْبَة الإدارة التونسية وأفضل كوادرها (نظرياً في الأقلّ)، ممّن يحملون الشهادات العُليا الأكاديمية، منهم أساتذة في الجامعات وقضاة وأطبّاء ومحامون، ومنهم حاصلون على دبلوم المدرسة الوطنية للإدارة، منبت الإدارة التونسية الذي لا ينضب، وباشروا الوظيفة العمومية عشرات السنين… كيف لحكومة هؤلاء أعضاؤها أن تتحوّل في لحظة غضب رئيس الدولة وضامن دستورها ووحدتها وحامي حدودها، والأب المتعالي على صراعات المجتمع، بمُجرَّد كلمة منه إلى رماد!
لم يكتفِ الرئيس سعيّد بحرق وزرائه، وأعضاء حكومته، والطاقم الكبير كلّه، الذي اشتغل تحت إمرته في قصر قرطاج أو في قصر الحكومة بالقصبة، وفي مختلف مؤسّسات الدولة المركزية والجهوية والمحلّية، وتحويلهم رماداً لا فائدة من النفخ فيه، فحرمهم من أيّ مستقبل سياسي، لإمعانه في احتكار السلطة والاستبداد بها، حتّى إنّه ذكّر أعضاءَ حكومته الجُدد يوم التولية بأنّ “الوظيفة التنفيذية يمارسها رئيس الجمهورية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس الحكومة، فالوزير هو للمساعدة وليس وزيراً أو يمكن أن تكون له اختيارات خارج الاختيارات التي يضبطها رئيس الدولة”، ممارساً سياسة ذرّ الرماد في الأعين، والتنصّل من مسؤولية اختياراته وسياساته المتّسمة بالجنوح عن نواميس الدول وقوانين نشأتها واستمرارها وتقدّمها وازدهارها.
ذهب سعيّد أبعد من ذلك حين اتّهم رجال الدولة، من الوزراء وغير الوزراء، بالاحتواء من وراء ستار من المنظومة القديمة، قائلاً “نجحت (منظومة 24 يوليو/ تمّوز) في هذا العمل الحقير في الالتفاف والتوظيف والاحتواء، وتحوّل الوضع منذ مدّة إلى صراع بين نظام دستوري جديد ومنظومة فاسدة”، فـ”تشكّلت داخل أجهزة الدولة مراكز، وهو أمر يقتضي الواجب وتفرض المسؤولية وضع حدٍّ فوريٍّ له”.
كثيراً ما يعلن قيس سعيّد القطع مع العشرية السابقة
ولا يتردّد في تسمية رجال تلك المنظومة في الوظائف الوزارية
أزال سعيّد ما تكدّس من رماد حكوماته ووزرائه بعد أن استمرّ أغلبهم في الخطّة الوزارية ما يناهز ثلاث سنوات، وهذه المدّة تمكّنهم من مزيّة التمتع بتقاعد وزير، والحال، وفق مقاربة الرئيس سعيّد، أنّهم من المتآمرين والمتحالفين مع المنظومة القديمة الموصوفة بالفساد، وهو ما يستجوب ملاحقتهم قضائياً، فهم وحسب المقاربة نفسها أمثلةٌ على إفساد الدولة وهدر المال العام. استثنى سعيّد من الرماد الحكومي وزيرتَي المالية والعدل، من دون أن يُقدّم تبريراً أو تفسيراً لهذا الاستثناء، والحال أنّ وزيرة المالية، المستمرّة في منصبها منذ 25 يوليو/ تموز 2021، حوّلت حياة التونسيين ما يشبه الرماد من الناحية المالية بسبب الإجحاف في الضرائب، وتحويل الدولة التونسية دولةَ مجبى في شاكلة نظيرتها في القرن الـ19 أو ما يسمّى القرن الكبيس.
أمّا وزيرة العدل ليلى جفّال، ورغم ما أشيع عن مغادرتها الحكومة، فقد استمرّت في أداء وظيفتها، فهي بمثابة الصندوق الأسود في قضايا الحرّيات، والمحاكمات السياسية، وملاحقة الإعلاميين والمدوّنين والسياسيين وقوى المُجتمعَين المدني والنقابي، بموجب المرسوم الرئاسي عدد 54.
عشوائية التسميات في المناصب الحكومية، وعدم إخضاعها لمعايير وشروط موضوعية، وعدم معرفة سعيّد بمن يتولى الاشتغال تحت إمرته، باتت صفةً أساسيةً من صفات خمسيته (2019 – 2024)، فأنّى له أن يعرف من هو صالح للعب دور وزاري أو حكومي، وهو الذي يكتشف الناس ويتعرّف إليهم من خلال لقاءات جانبية هي من محض مصادفة في أحيان كثيرة. ومن أين له بقاعدة بيانات، وهو الذي لا يمتك حزباً سياسياً يوفّر له معرفة بالكوادر المتحزّبين وغير الحزبيين، ويجهر بعدائه الأحزاب والحزبية! تعيين وزيرة التربية السابقة سلوى العباسي، الذي جاء نكاية بسلفها الذي سلّط عليها عقوبة إدارية لتُقال بعد خمسة أشهر فقط، هو مثال صارخ على ضبابية رؤية سعيّد في اجتباء أعوانه وانعدام تلك الرؤية في غالب الفترات، ولم يشفع لتلك الوزيرة تنظيم حفل غنائي أمام وزارة التربية، في سابقة لم تعرفها وزارة التربية والتعليم في تاريخها، والتزلّف له وترديدها “شُرّفنا كلّ الشرف بمقابلة رئيسنا وزعيمنا قيّس سعيّد”.
زيارات سعيّد الميدانية ظاهرها معاينة أوضاع السكّان
وباطنها دعاية انتخابية خارج زمنها المُحدّد
تبرز العشوائية والضبابية بوضوح في اصطفاء أعضاء الحكومة الجديدة، فالرئيس قيّس سعيّد كثيراً ما يعلن القطع مع العشرية السابقة والمنظومة التي صاحبتها معتبراً إياها عدّوه اللدود. بينما لا يتردّد في تسمية رجال تلك العشرية والمنظومة في الوظائف الوزارية. فوزيرا الصحة والدفاع الوطني اقتُرِحا في حكومة الحبيب الجملي التي أسقطها البرلمان التونسي يوم العاشر من يناير/ كانون الثاني سنة 2020.
ووزيرة الثقافة انتسبت إلى حزب مشروع تونس سنة 2016، المنشق من حركة نداء تونس، ووزير التشغيل والتكوين كان يشتغل في خطّة مدير ديوان نفس الوزارة في حكومة إلياس الفخّفاخ سنة 2020. ووزير الخارجية أعفاه سعيّد من خطّة كاتب دولة بنفس الوزارة في حكومة المشيشي التي أنهى سعيّد مهامَّها سنة 2021. أما المثال الأكثر تنكّراً لتاريخ النُخَب التونسية، والأعلى فولكلوريةً وسخريةً في الحكومة الجديدة، فيتعلّق بكاتبة الدولة للشركات الأهلية، التي كتبت في حسابها في وسائل التواصل الاجتماعي (13 أغسطس/ آب الجاري)، وقبل تعيينها في المنصب بأسبوعين:
“صرخة الحاجة عائشة (المرأة الفقيرة التي زارها قيس سعيّد في سيدي بوزيد) لم تُسمع من به صمم، ولكن سمعها ولي أمرنا قيس الفاروق فلبّى نداءها وحمل بيديه النظيفتَين جسمها المتهالك.. قيس سعيّد رئيس من جديد”.
للمعنية تدوينات كثيرة مشحونة تزلّفاً للرئيس وإشادةً به وبعائلته، وقد يكون لهذه التدوينة الأثر المباشر في التسمية، لكنّ الثابت أنّ هذه التسمية تعبّر عن مسخرةٍ سياسيةٍ ستكون نتيجتها تحويل كاتبة الدولة الجديدة إلى رمادٍ سياسيٍّ فتلتحق بوزيرة التربية، ومن هم في شاكلتها.
طالما لم يقتنع الرئيس سعيّد بأنّ المناصب الحكومية والوزارية وُجدت للسياسيين من دون غيرهم، وليس للإداريين والطفوليين، فستبقى الحكومة التونسية مُختبَر تجارب، والتقدّم وتحقيق النمو والنهوض بتونس، وانتشالها من خمسية البؤس والفقر وغلاء الأسعار وفقدان المواد وكثرة المديونية ونزيف الهجرة السرية والعلنية، وضرب الحرّيات العامة والفردية، وغياب برنامج إصلاحي شامل، ستبقى مُجرَّد أضغاث أحلام، إلّا أن تكون خمسية سعيّد هي الأخيرة في تجربته السياسية، فالتاريخ لا يمنح فرصتين لشخص واحد.