تربية وثقافة

ختان الذاكرة في زنجية عائشة بنور.!

عمر سعيد/ لبنان
خاص “المدارنت”..
حين تتداخل الميثولوجيا بالواقع، يصبح أشخاص الروايات الواقعية أبطالاً حقيقيين أكثر من آلهة الأساطير. وتغدو الكتابة أصدق خطوط الدفاع عن الإنسان. عندها تتأكد مقولة: “إن الذاكرة أوجع ما يؤلم الإنسان”.
تبدأ معاناة بلانكا زنجية رواية الزنجية لعائشة بنور من ذاكرة أنهكت بأقسى التجارب المؤلمة ألا وهي الختان، ذلك التقليد الذي يفتك بغالبية إناث إفريقيا وبعض قبائل آسيا، ليترك ندوباً تغور في لاوعي الأنثى، وتطرحها خارج الإستقرار النفسي والجنسي.
تروي الزنجية رحلة بلانكا منذ ختانها إلى هجرتها عن آرليت في نيجيريا إلى بليدة في الجزائر، بعد أن تزوجت بفريكي وأنجبت منه ابنتها إفريقيا، وابنها بوكاموسا مصطحبين معهم بيانكا والدة فريكي، وأخوه الصغير، وأم بلانكا وأختها الصغرى. ليبدؤوا جميعهم مسيرة تشرد وتيه تطول جدا بعذاباتها خارج الوطن.
يستمر سيلان الدم من ذاكرة بلانكا في بداية الرواية، وإن اندمل جرح ختانها وختم. ليتقاطع مع سيلان الدم في ذاكرة هاجر الصحفية، التي أنهكها تتبع مصير المهاجرين السريين وموتهم اليومي حتى نهاية العمل.
توظف عائشة بنور النوستالجيا توظيفاً رائعاً في عملها الصادر عن دار خيال للنشر. وتتوفق في إسقاط الموروث الشائخ والثقيل على فتيات آرليت النيجيرية، من خلال شخصية العجوز التي تتولى ختان الفتيات قبل البلوغ وفي الطفولة.
ليغدو الختان أبعد من مجرد اقتطاع جزء صغير من العضو التناسلي للأنثى، ويتحول إلى إقتطاع قسم كبير وهائل جداً من روحها، التي تصبح أسيرة ذاكرة الطفولة، لما يخلفه من دمار نفسي، يحفر في السلام والطمانية داخل أعماق بلانكا كنموذج لأنثى اختتنت في وقت مبكر.
ووقفت بدمها النازف، تشاهد كثيرات من أترابها، يسقطن بسبب ختان، ينتج عنه انهيار بيولوجي ونفسي ومعنوي في المرأة الإفريقية، التي تعاني كل أشكال النقص في المناعة والغذاء والرعاية النفسية والإنسانية.
فيكون الختان أول شفرة تمزق غشاء ذاكرتها، لتفتح نوافذ الوعي على أبشع انواع فهم المجتمع الخطأ للانثى، حين تسمع بلانكا عجوز الختان وقد أسالت دمها على فخذيها، تخبرها أنها قد صارت امرأة.
لتعي ألا حل للدخول في أنوثتها إلا بالدم. دم يحل كراهية بينها وبين دم سيليه من الحيض إلى الأمومة. وتدخل بلانكا بهذا الدخول في جلد الإفريقية، المحكوم عليها بالخروج بحثاً عن رغيف خبز، تسير خلفه آلاف الأميال، وتجوب لأجله جغرافيا الأرض، دون أن تجده.
وعلى الرغم من أطنان التقارير الورقية التي تتكدس فوق مكاتب المنظمات الإنسانية العالمية، حول الانتهاكات التي تتعرض لها المرأة الإفريقية، من جوع وتعنيف وختان بالقوة واتجار بجسدها، والسير حافية منذ الولادة إلى حافة العمر، فيغدو السير حافية فوق بلاط قصور تستعبدها وتستخدمها، كالسير حافية فوق طريق رمال مشتعلة في أوطان ليس لها فيها أكثر من كوخ وشمس حارقة، وأرض قاحطة وماء وهواء ملوثين،وجوع وعادات ظالمة، تسلكها إلى مناف لا تقدم لها أكثر من شوارع وأرصفة فارغة وجسور تنام عندها، وعمارات غير مأهولة تأويها مؤقتاً، وليال مظلمة وشتاءات قارسة، تنتهك جلدها العاري، وأكف لا تجود لها إلا بالقليل القليل من القوت، وقد فقدت الأمل بالعودة إلى حيث فرت أو بالنجاة.
تقطع بلانكا رواية الزنجية مع عائشة بنور وهي تسعى من خطر إلى خطر، ومن ليل إلى ليل، ومن شتاء إلى شتاء، دون أن يتفجر بين وجعيها زمزم، كالذي تفجر لهاجر وإسماعيل.
فكأن الرحمة التي منت على هاجر بمسعاها اشفاقاً بها وباسماعيل، قد أقفلت منافذها كلها في وجه بلانكا التي طال سعيها بطفليها إفريقيا التي فرت بها من الختان وبوكاموسا الذي لن يكون اسماعيل يصلى في ركنه، وتهفو إليه قلوب باحثة عن الخلاص، والذي قد لا يؤمن به أحد غير عائشة بنور، ومن خلال شخصية الصحفية هاجر.
تصل بلانكا بليدة، وقد ظل مسيل الدم يقطر خلفها وفي ذاكرتها من آرليت إلى بليدة، وعلى الطريق ألف ألف إفريقية تسقط بعد أن تنزف دماً أثر دم جراء الختان والرحيل، فيتكالب على جسدها وروحها نقص الإنسانية العالمية والمحلية، وفقر الجغرافيا وغياب الوعي المجتمعي، والرفض القاسي الذي تراه في إشاحة العيون والوجوه، ومطاردات الأمن واشمئزاز المارة من أولئك الوافدين الموبوئين الذين يزدادون يوماً بعد يوم، لتسقط في هوة الذاكرة المثقوبة، التي تحول ببنها وبين أمس، يصعب العودة إليه، وبينها وبين غدٍ لا رخّ يحملها إليه، فتظل أسيرة واقع التشرد والتهيه وسط مكان بلا جدران، ويوميات بلا كساء أو غذاء، تفر من ألم إلى ألم، ومن يأس إلى يأس.
تتخذ رواية عائشة بنور في نهايتها ملمح السحرية الواقعية، فتتكثف الآلام والمشقات، وتترامى أطارف المدينة في وادي الجَمعة الإفريقية، مدينة البيوت البلاستيكية، التي تغلف في جوفها ما لفظته أقطار الجوار من أبنائها الذين ناؤوا بما حمّلتهم أوطانهم من مآس.
لتنتهي الزنجية ببارقة أمل على لسان هاجر التي تبشر بزمز، ربما يروي الذين أشتعلوا عطشاء جراء ركوب مياه البحار المالحة صوب أوروبا، بعد استفاقة بعض الدول على معاناة التشرد الإفريقي.
لم تكتب عائشة بنور الزنجية، بقدر ما عملت على تعرية البشرية من ادعاءاتها، وفضحها أثناء حفرها عميقاً في رحلة معاناة بلانكا وفريكي ومن معهما.. لا شك أن بنور تجشمت مر العذابات التي لا تطاق وهي تلاحق وجدانها أثناء تلك الرحلة.
فمتى ستتوقف الذكورة عن قراءة الأنثى من بين فخذيها؟! وبلانكا ليست مجرد فتاة زنجية سوداء، جميلة فقط، بل هي فتاة سمراء جميلة شردتها حروب المنطقة التي تقوم بختان الأوطان وفقاً لأهواء الحكام ، وهي بيضاء فاتنة جوعتها كباشات السياسة التي تختن ثروات الأرض بما يحمي مصالح غيلان الاحتكار والسيطرة.
ليظل ختان بلانكا مفتوح الجراح، يعيق روحها عن كل جمال تمر به، وجسدها عن كل شهوة هي حق مقدس لها، لكنها تتقلص إلى أقل من رغيف خبز.
=======================
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى