رأيي صواب.. يحتمل الخطأ.. ورأي غيري خطأ.. يحتمل الصواب!

خاص “المدارنت”..
قد تكون الانتخابات البلدية والاختيارية لحظةً وطنية حاسمة، لكنها أيضًا – شئنا أم أبينا – مرآة للمجتمع بكل تناقضاته، حتى داخل البيت الواحد، وهذا ما دعاني إلى كتابة هذه المقالة.
لقد تحوّل بيتنا العائلي الكبير، خلال موسم الانتخابات، إلى ما يشبه ساحة مناظرة مفتوحة، فيها من الحماسة بقدر ما فيها من التوتّر. كل طرف يرفع مرشَّحه على الأعناق، مقتنعًا تمام الاقتناع بأنه الصوت الصادق، والموقف الأخلاقي، والاختيار الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
في البداية، حسبنا نقاشنا نقاشًا عابرًا في اجتماعات مصغّرة وفي لقاءات عابرة، لكن سرعان ما صار “الرأي الآخر” شبهة، و”الحياد” تهمة، و”الاختلاف” خيانة مضادة للمحبة. فمن لا يصوّت كما نرى، “لا يفهم”، و”يعيش في الوهم”، و”لا يقرأ الواقع كما هو”. ولسان حال كلٍّ منّا: “أنا على حق.. والآخر، في أحسن الأحوال، ضلّ طريقه”.
وسط هذا الانقسام، تذكّرت مقولة رائعة للإمام الشافعي، وهي: “رأيي صواب ويحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ ويحتمل الصواب”.
كم نحتاج اليوم – نحن أبناء العائلة الواحدة – إلى أن نستلهم هذه الروح؟ فالمشكلة ليست في اختلاف الآراء، بل في تحوّلها إلى معارك هوية وصراع وجود، كأنّ من يخالفني يهدم المعنى الذي أراه لنفسي، ويهدّد انتمائي، وينتقص من شأني.
الاختلاف في الآراء ليس نهاية المحبة، ولا مسوّغًا لقطيعة، ولا دليلًا على ضياع القيم وتشرذم العائلة. فمن الطبيعي أن تختلف رؤانا وآراؤنا، وأن تتباين قراءاتنا للمرشحين والبرامج. لكن ما ليس طبيعيًّا، أن تتحوّل الانتخابات – التي هي فعلٌ ديموقراطي – إلى مناسبة لتأليب القلوب وتعكير الصفاء بين الأهل والأحباب.
نعم، أنا مقتنع بخياري، وأراه صائبًا، لكن لا أدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة. نعم، قد أرى في رأي غيري نقصًا أو وهمًا، لكن لا يحق لي أن أجرّده من نواياه الطيبة، ولا من رغبته مثلي في واقع أفضل.
العائلة التي تتجاوز الانتخابات رغم الاختلاف، هي عائلة فازت فعلًا. والقلوب التي تحتفظ بالمودّة رغم التباين في الآراء، هي التي تُنجح الديموقراطية وإن اختلفت الأصوات.
لذا، فلنَختلف ما شئنا.. لكن ليحبّ بعضنا بعضًا أكثر.
لعلّ أجمل ما في الديموقراطية أنها لا تطلّب منّا أن نكون نُسَخًا مكرّرة، بل أن نكون أفرادًا نحترم فرادة بعضنا بعضًا. كلُّ صوتٍ فيها له مكان، وكلُّ خيارٍ فيها يحظى بالحق في التعبير. فكيف نرفض ما تسمح به الديمقراطية، ونستنكر ما هو في صميمها؟
المرشّحون سيذهبون، وستنتهي الانتخابات، لكن ما يبقى هو وجوه العائلة، وأحاديثها، وذكرياتها. فلنحرص على ألّا تكون لحظةُ تصويتٍ شرخًا يحتاج إلى سنواتٍ كي يلتئم.
من حقّنا أن نحتدّ في نقاشنا وأن نتعصّب لأفكارنا ونستميت في الدفاع عنها، لكن من واجبنا أن نلين في مودّتنا. فالانتخابات موسم، أما العائلة فمأوى لا يُستبدل، وأرض لا يُفرّط فيها أبدًا.