تربية وثقافة

“رسالة الغفران”.. وأثرها في الأدب الغربيّ..!

الشاعر والأديب العربي عمر شبلي 

“المدارنت”..
سأحاول التّعريف برسالة الغفران لرهين المحبسين أبي العلاء المعري، نعم أريد التّعريف بهذا الأثر الأدبيّ الكبير والنّفيس الذي تأثّر به الأدب العالميّ في كثير من مناحيه، ولي غايتان مما أكتب:
الأولى: حضُّ الشّاب العربيّ على التّعرف إلى تاريخه الحضاريّ وثقافته الإبداعيّة، وذلك من خلال نماذج في أدبنا العربيّ، وفي آداب الأمم الأخرى قدر المستطاع من الإحاطة التي توفرت لي من خلال تجربتي الثّقافيّة.
والغاية الثّانية هي الرّد على الذين يتهمون تاريخنا الثّقافيّ بالعقم والقحط، وفي هذا تعزيز الانتماء إلى هذا التّاريخ الثّقافيّ الإبداعيّ الذي حمل خصوصية الأمة مع رسالتها الثّقافيّة ذات العمق الإنسانيّ المؤثر والمتأثّر بثقافة الأمم الأخرى. وسأشير إلى نقطة تسترعي الانتباه، وهي أن كثيرًا من ثقافتنا الإبداعيّة كتب في أزمنة التّمزّق السّياسيّ الذي اعترى تاريخ هذه الأمة. وهذا يعني أنّ الثّقافة المبدعة هي وحدها تمنع انهيار الأمة وتعصمها من التّلاشي. وأنا أوصي الجميع بمتابعة هذا البرنامج ونصحي وتقويم ما أقع به من خطأ غير مقصود. فليس هناك إنسانٌ أكبر من أن يستفيد، وليس هناك إنسان أصغر من أن يفيد.
ولا بد من الإشارة إلى فضل الأساتذة الذين لقنوني هذه الثّقافة في جامعة دمشق في فترة السّتينيّات من القرن الماضي، وأنا إلى اليوم مدين لهم ولهذه الجامعة بقسم وافر من ثقافتي. وسأحاول في الأعداد القادمة التّعريف بالكوميديا الإلهية، ومدى تأثّرها برسالة الغفران لرهين المحبسين.

رسالة الغفران
كتبها أبو العلاء المعري في النّصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي، والموافق القرن الخامس الهجري، وقد ردَّ بها على رسالة أرسلها إليه ابن القارح أحد أدباء تلك المرحلة، وكان كثير من الأدباء يعرفون الحضور الثّقافيّ والأدبيّ لأبي العلاء المعري، وكان هدف ابن القارح هو استعراض وتبيان ثقافته لشيخ المعرة الذي كانت سمعته مِلْءَ آفاق عصره وقتئذٍ، وكانت رسالة الغفران التي كتبها أبو العلاء المعري ردًّا على رسالة ابن القارح. ورغم التهمة التي كانت توجه لعقيدة أبي العلاء الدّينيّة، إلا أنّ الجميع كانوا مقرين بثقافته الغزيرة وبذكائه المتميز الذي أوصله الناس إلى حدّ نسبة الخوارق لشيخ المعرة رهين المحبسين.
الجديد في رسالة الغفران أنّ أبا العلاء جعلها رحلة خياليّة طاف فيها أبو العلاء المعريّ بابن القارح في أرجاء العالم الآخر، وأخذه معه إلى الجنة والنّار، وفيها أراه أبو العلاء ألوان النّعيم ورهبة العذاب في الجحيم. وكان ابن القارح في رسالته التي أرسلها إلى أبي العلاء المعري قد استعرض معارفه الأدبيّة ومعرفته بالأدباء والفلاسفة والزّنادقة والملحدين، وتعرض لهم، ولعل هذا التّعرض كان من أسباب وبواعث أبي العلاء إلى رحلته الخياليّة مع ابن القارح إلى الجنة والنّار واستعراض ما أراه فيها. وكان ابن القارح قد طلب من المعريّ الجواب على رسالته. وكان دور أبي العلاء في رسالته دور الملقن في المسرح. وكانت رسالة الغفران تنتقل من موضوع إلى موضوع بغير رتابة، وذلك ردًا على رسالة ابن القارح التي تناولت أمورًا شتّى.
وفي رسالة الغفران استعراض لمسائل لغويّة، ومن الأمثلة عليها قول أبي العلاء في رسالة الغفران: “فنقف على باب الجنة، فنقول: با رضوَ لنا إليك حاجة، ويقول بعضنا يا رضوُ فيضم الواو، فيقول رضوان: ما هذه المخاطبة التي لم يخاطبني بها أحد قبلكم، فنقول: إنّا كنا في الدّار العاجلة نتكلم بكلام العرب، وإنهم يُرَخِّمون الاسم الذي في آخره ألف ونون فيحذفونها للتّرخيم”.
يبدأ أبن القارح بزيارة الجنة، وقد آثر أبو العلاء أن تكون جنته جنة بشر مملوءة بالشّهوات والأهواء، ففيها الأشجار والأنهار، وفيها الشّوارع والقصور، وفيها الطّعام والشّراب. ويرى قصرين منيفين، أحدهما لزهير بن أبي سلمى والثّاني لعبيد بن الأبرص لشعر قالاه. وأبو العلاء يُدخل بعض شعراء الجاهليّة إلى الجنة لأبيات شعريّة يكون فيها إيمان واضح، فزهير في الجنة لقوله:

فلا تكتمُنَّ اللهَ ما في نفوسكم     ليخفى ومهما يُكتَمِ اللهُ يعلمِ

وعبيد بن الأبرص لقوله:

من يسألِ الناسَ يحرموهُ       وسائلُ اللهِ لا يخيبُ

وهناك نقد لنحل الشّعر، فقد رأى ابن القارح آدم فسأله: يا أبانا رُوِيَ لنا عنك شعر ومنه:

نحن بنو الأرض وسكّانها   منها خلقنا وإليها نعود

والسّعدُ لا يبقى لأصحابهِ     والنحس تمحوه ليالي السعود

فيقول: إنّ هذا القول حقّ وما نطقه إلا بعض الحكماء، لكني لم أسمع به حتى السّاعة. وفي هذا انتقاد من أبي العلاء لانتحال الشّعر. فيقول ابن القارح لعلك يا أبانا قلت هذا ثم نسيتَه. فيقول آدم أنا في الجنة كنت أتكلم العربيّة فلما هبطت إلى الأرض صرت أتكلم السريانية، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت فلما أعادني الله إلى الجنة عدت للعربيّة، فأيّ حين نظمت هذا الشّعر في العاجلة أم في الآجلة!
ثم يصف المآدب التي يُؤدّبها غلمان كأنّهم اللؤلؤ المكنون. وفي الجنة خمر ولحوم طيور. ثم يمضي ابن القارح إلى شجرة من شجر الحور فيكسر ثمرة فتخرج منها جارية حوراء عيناء فيسجد ابن القارح تعظيمًا لله القدير”ويخطر له وهو ساجد أن تلك الجارية ــ على حسنها ــ ضاوية فيرفع رأسه من السجود وقد صار من ورائها ردفٌ يضاهي كثبان عالج فيهال من قدرة الله اللطيف ويقول: يا رازق المشرقة سناها ومبلغ السائلة مناها أسألك أن تقصر بين بوص (عجيزة) هذه الجارية…… فيقال له: أنت مخيّر في تكوين هذه الجارية كما تشاء”. ولا تخلو جنة أبي العلاء من عواطف الإغراء، إذ تقول إحدى حيّات الجنة لابن القارح: “ألا تقيم عندنا برهة من الدّهر؟ فإني إذا شئت انتفضتُ من إهابي فصرتُ مثل أحسن غواني الجنة، ولو ترشّفْتَ رضابي لعلمتَ أنه أفضل من الدرياقة التي ذكرها ابن مقبل بقوله:

سقتني بصهباءَ درياقةً      متى ما تلين عظامي تلين

ثم إنه لا يوجد في جنة أبي العلاء قبح، وتبلغ سخريته حدًا مؤلمًا في ذكر ما يرى، كوصف إحدى النّساء وقد رآها ابن القارح تضحك فيسألها أحدهم: “مِمَ تضحكين فتقول فرحًا… كنتُ في الدّار العاجلة أُعرَف بحمدونة، وأسكن في باب العراق بحلب، وأبي صاحبُ رحى، وكنت من أقبح نساء حلب، فلما عرفت ذلك زهدتُ في الدّنيا الغرارة، وتوفرتُ على العبادة وأكلت من مغزلي ومردني، فصيّرني ذلك إلى ما ترى” كما لا يوجد في جنة أبي العلاء عاهة أو داء “فأحدُّ أهل الجنة بصرًا، هم الذين حرموا لذة الإبصار في الدنيا وأجملهم عيونًا، عوران قيس، وأنصع نسائها بياضًا، جارية سوداء، حالكة كانت تخدم في دار العلم ببغداد” ويأتي أبو العلاء بالأعشى فإذا هو شاب جميل قد صارعشاه حَوَرًا، وينصرف إلى حميد بن ثور، فيقول له: إيه يا حميد، لقد أحسنت في قولك:

أرى بصري قد رابني بعد صحةٍ     وحسبك داءً أن تصحَّ وتسلما

فكيف بصرك اليوم؟ فيقول: إني لأكون في مغارب الجنة، فألمح الصديق من أصدقائي، وهو بمشارقها، وبيني وبينه مسيرة ألوف أعوام للشمس التي عرفت سرعة سيرها في العاجلة”.
وفي جنة أبي العلاء رقص ولعب ولهو وعربدة. جنة أبي العلاء في رسالة الغفران هي جنة السجين المكبوت وجنة الساخر المتهكم.
وفي الجحيم يختصر كثيرًا مشاهد العذاب، إلا إذا استثنينا عذاب الذين ظلموا من الملوك والملكات. فهل كان أبو العلاء يقصد نقد حكام زمانه وعدالة السماء، غير أن مشهد عذاب أوس بن حجر الذي كان من أحب الشّعراء إلى شيخ المعرة يجعلنا نشك حتى في اعتقاده بالعدل في العالم الآخر، يسأل ابن القارح أوس بن حجر لماذا استقر في جهنم بينما صعد إلى الجنة “نابغة بني ذبيان”.
فيجيبه أوس: “قد بلغني أن نابغة بني ذبيان في الجنة فاسألْه عمّا بدا لك، فلعله يخبرك فإنه أجدر أن يعي هذه الأشياء، فأما أنا فقد ذهلت، نار توقد، وبنان يُعقَد، إذا غلب عليّ الظمأ رُفع لي شيء كالنهر فإذا اغترفت منه لأشرب وجدته سعيرًا مضطرمًا… ولقد دخل الجنة من هو شر مني، ولكن المغفرة أرزاق كأنها النشب في الدار العاجلة”.
وفي رسالة الغفرار حوار مطوّل مع أبليس نختصر منه ما يلي…. كان إبليس مصفودًا بالأغلال في النّار…. فسأل إبليس ابن القارح عن اسمه ثم قال له: “إنّ لي إليك لحاجة فإن قضيتها شكرتك يد المنون فيقول: إني لا أقدر لك على النفع فإن الآية سبقت في أهل النّار: “ونادى أصحاب النّار أصحابَ الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرّمها على الكافرين” فيقول: “إني لا أسألك على شيء من ذلك، ولكن أسألك عن خبر تخبرنيه: إن الخمر حُرّمت عليكم في الدنيا وأحِلّتْ لكم في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنة بالولدان المخلدين فعل أهل القريات فيقول عليك البهلة أما شغلك ما أنت فيه، أما سمعت قوله تعالى: “ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون” وتحدث في الجحيم محاورات أدبية شيّقة. ولعل أبا العلاء ترك للمعذبين في الجحيم نعمة الشّعر والأدب عزاء لهم، أما شعراء الجنة فقد نسوا أشعارهم وهم يقتنصون اللذائذ.
وفجأة تنتهي زيارة الجحيم ويعود بنا ابن القارح إلى الجنة. وإلى جانب المسائل الأدبية واللغوية تثير رسالة الغفران قضايا تتعلق بالإيمان. لقد قدم حتى لكثير من شعراء الجاهلية أعذارهم ليدخلهم إلى الجنة، ومن هنا جاء أسم “رسالة الغفران”.
وتحوي رسالة الغفران قدرًا من أخبار الزنادقة وأشعارهم، وكان أدبهم مطويًا ولا تسمع به إلا همسًا وعلى حذر.
ولأبي أبي العلاء نظرية في الزندقة، ويرى أنها بلية خلقت مع الشمس، لا لأن الإلحاد هو الأساس، بل لسلوك الناس وطرائق تعاملهم في الحياة. ويؤكد أبو العلاء أن “التألُّه موجود في الغرائز”. يقول أبو العلاء: “العالم مجبول على الخداع” “والكذب جمٌّ كأنه طود أشم، والصدق لديه كالحصاة توطأ بأقدام عصاة”.
إلى أي لون من ألوان الأدب تنضوي رسالة الغفران؟ يرى طه حسين أنها أول قصة خيالية عند العرب.
وهي ليست ملحمة فللملحمة كلام سنأتي عليه لاحقًا.

المصدر: موقع مجلة “المنافذ الثقافية”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى