تربية وثقافة

رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. “الجزء “10”..

رولا عبد الله/ لبنان

خاص “المدارنت”.

يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “10”، من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”.

صفير

بين الطريق وموعدنا غصّ المساء بالضباب، بالسفوح، بالسحاب، بترانيم الينابيع، بالنيازك، برشق الظلال، بالقمر باسماً، بأقحوانة تدل إلى الطريق وتنحني كالندى تتزحلق على أوراقها، تستقر في قلب العطر روحاً تروي ظمأ التائهين على دروب الأمسيات الضالة، تعلّم نجمة كيف تدوّن تقارير السهر، كيف تكتب أحداثاً وتخفي وجوهاً وتنسج حكايات وتتوهج، ومثل حبّة مسكّن تبتلع الأسرار وتصاب بالدوار وتتنحى إلى ما خلف الأفق، وأتنحى إلى ما خلف موعد حين يأتي مثل ريشة في مهب الوقت يطير وأمسك بالطائر علّه يحمل مزيداً من العطايا، مزيداً من الفرح، مزيداً من ليل مستعجل ولست مستعجلة لكن الوقت يحكم والليل يمون.

وأنصت للمساء كأن لليله حبيباً تلملمه الريح، تضج في الدروب، تناجي شراع السهر، تقارع صدف البحر وزبد الموج وزحف الربى، تزايد على العشق بأهدابه، بالكون في عينيه، بالنبض، بالشفاه، بالأحداق، بهبوب قبلة، بالحب، بسكرة العناق، بالغوى، بالشهوات، بلمع الأنامل تلامس وجهه، بتمتمات الشذى، بالطيف يلون تلاميحه ضاحكاً ملء الصوت، ملء الهمس، ملء الهواء، ملء المدى، ملء الدجى، ملء حناجر تصدح: بين المساء وليله حبيبان يعزفان إيقاع الكون قيامة ورجاء.

وأشترط على الليل أن يقفز عن الإيقاع، أن يحفر فوق جبيني شغاف الليل، أن يشعل نجمة يمتلئ خيالها بخيالي، أن يقدح الشوق في نبيذ روحي، أن يغترفني اليه رغبة تنهض من غفوة الجسد، تلامس البحر مراكب تطفو على دمي، تبحر إلى أن تغيب في مسامه وتفلت من بصمة ضوء بيننا، تعبر إلى نقطة لامرئية، تسافر كالخدر يسري في الأحلام ويقرص بقايا العمر في خفقة عصفور يغرد لروحينا وللّيل الذي يتسع على خد البحر، ومعه يفلت إيقاع الحكايات من بين الضلوع ومن بريق بلون عينيّه ومن نقر على عيدان المطر ومن شمعة تغرد لعصافير أحلامه وتغمض الجسد على جسده في غيابه، وتتهجى ساعات شريدة لا أثر لها في عروقنا، تتلاشى وتتلاشى مثلما نفعل نحن في الليل ونذوب فيه ويذوب فينا ونصير الضباب في عناقه قبة السماء والأرض التي تنام تحت مخدتنا وتعطش.

 -10-

أيبلا

أي شغف يسكنني كلما أبحث في وجوه المارة والحيوات المتداخلة من حولي وعلى المقاعد وفي القاعات عن إشارة منها، مطارداً الفراشات في خط سيرها عساها تكون الدليل. وأسأل: هل تكون الروح؟هل تكون هي؟

وفي الانتظار ليس من مدخل اليها سوى الأوراق ورسومات كل واحدة منها برائحة ولون وأرض، وحجارة تتبدل من الكلسي إلى الغرانيت الأبيض والقرنفلي، الأبيض المنقوط والقرنفلي، الأبيض والأحمر اللذين يميلان إلى السمرة، الغرانيت القرنفلي ذي السطح اللامع والغرانيت القرنفلي ذي الأحمر القليل والرمادي المنقّط بالأسود.

فماذا لديها من جديد؟

 في الرسم الذي يظهر منزلاً مزخرفاً برسومات ملونة من الزهور البرية والأشكال الهندسية وتمساح، يظهر وجه فتاة عالق في قرص القمر، وتوجد إشارة سهم تأخذ إلى ملحوظة مدونة بخط اليد، وفيها: “حين تستعيد مملكة أيبلا توازنها يلفظ القمر صبية عالقة في قرنه”.

في سابق الأيام، حدثتني مايا ليل كنا نراقب القمر المتوهج بدراً، عن صبية كانت تعيش على الأرض بين أهلها، ثم إن رجل الشمس وقع في حبها فأعرضت عنه، قرر الانتقام وقام بإغراق الجميلة في الأرض عند جذور إحدى الأشجار، وباءت جهود أهلها في إنقاذها فلبثوا ينظرون اليها وهي تغيب ببطء في جوف الأرض. ولكنها طمأنتهم عندما بلغ التراب العنق بأنها لن تغيب طويلاً، وأن عليهم أن يرقبوا السماء لأنها ستظهر عند الأفق تدريجيا على شكل جرم منير.

ورحت أربط بين الحكاية القديمة والعبارة المدونة أسفل الرسم، والأخيرة أخذتني إلى أوراق متسلسلة عن مملكة قد تكون “أيبلا”، ويعني اسمها الحجر الكلسي، ومنها تستقي فتاة الرسوم الكثير من محطات ومطارح ومناسبات تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، أمّا المكان فمحدد في الأوراق بأنه الشمال الغربي من سوريا.

وكما بدأت أعتاد وجودها في الأوراق، تعقبت الرسومات التي تظهر حشداً من المشاركين في التوقيع على حلف أو معاهدة سلام برعاية تماثيل آلهة لعلها آلهة إيبلا التي مثلت لتحمي التحالف. وفي ورقة رديفة، إلى الجزء العلوي الأيسر، تنبيه: “إحذر الطبيعة حين تغضب الآلهة”.

وفي الورقة نفسها بنود غير مقروءة داخل إطار مزخرف. وفي أسفل الورقة، خارج الإطار، ملحوظة مدونة بالعربية: الاتفاق بين ملك أيبلا وملك ماري يلزم الأخير إعطاء الأول الحق بالتصرف بمقدرات السكان والممتلكات تحت ضغط وسلطان إله الشمس وإله الطقس اللذين سيقومان بإنزال أشد العقوبات في حال مخالفة شروط المعاهدة.

ولكن كيف ارتضت أن تكون في مثل تلك المعاهدة الجائرة؟

الجواب حاضر في الورقة التالية، والتي توضح: “كان حكم الضرورة في زمن فرضت فيه أيبلا نفوذها على المناطق الواقعة بين هضبة الأناضول شمالاً وشبه جزيرة سيناء جنوبًا، ووادي الفرات شرقًا وساحل المتوسط غربًا، وأقامت علاقات تجارية ودبلوماسية وثيقة مع دول المنطقة والممالك السورية ومصر وبلاد الرافدين‏‏، كما أن نفوذها التجاري الذي امتد حتى صحراء سيناء، شمالاً فلسطين ولبنان وسوريا، وفي الغرب وصلت إلى قبرص، وفي الشمال إلى الأناضول، وفي الشرق حتى مرتفعات مابين النهرين، وكانت حضارتها وثقافتها مهيمنة اقتصادياً وسياسياً على مناطق كثيرة من سورية، تمتد بين جبال لبنان في الغرب وحتى بادية الشام في الشرق، وبين جبال طوروس في الشمال إلى منطقة حمص في الجنوب حتى نهر الفرات وإلى ما بعد جبال إيران حتى الهند..، كل هذا أسهم في تعاظم نفوذها، ما حدا بالتجار إلى مهادنتها وحماية تجارتهم وتوسعتها”.

ينتهي التوضيح، لأنشغل بالسبب الذي حملها إلى مملكة الألف الثالث قبل الميلاد. أفكر في وجودها في حين توقيع المعاهدة في مملكة عرفت نظام حكم فصلت فيه الدين عن السياسة.وكان الملك هو رأس الدولة ، والأخيرة مقسمة الى 14 مقاطعة .

وكان عليها أن تسحبني لأتتبع المزيد من الأوراق عن محفوظات أيبلا و أرشيفها الملكي: 17 ألف رقيم، أول قاموس، معاهدة مكتوبة للسلام بين مدينتي أيبلا وأبرسال، أطول قصيدة شعر مكتوبة بالخط على الطريقة المسمارية من اليسار إلى اليمين وبلغة أيبلا القريبة جداً من اللغة العربية، سجلات لوحة مدرسية تحمل أسماء طلاب وتوقيع أساتذه وعميد معهد.

ومن الأوراق المتناثرة من حولي أتحزّر أيّها كنت تجيد أكثر: الأيبلائية؟ السومرية؟ العربية..، فيما أتهجى مفردات قديمة ألتقطها بشغف المكتشف: كتب، ملك، يد، قمح، تين (وتلفظ تينو)..

ويحيرني السؤال: أيها الأقرب إلى دمها؟ ماري أم حلب أم أيبلا أم أنا الذي أدور في أفلاكها منفياً من زمان إلى حياة أخرى إلى حراشف الأرض إلى عصر برونزي في مكتبة ملوكية وأجزاء من وثائق هي الأقدم في التاريخ.

( عيناي عسليتان ولا أملك قيثارة. كنت في التاسعة من عمري صيّاد أصوات. أجول في الحقول منصتاً لترغلة عصفور أو نقيق ضفدعة أو طنين بعوضة أو نقنقة دجاجة أو نعيق بومة أو هديل حمامة ..أولئك كانوا مجتمعين نوتات قيثارتي)

دثار الأرض

وكنت أعرف أن الشمس لا تصنع ذهباً، وأن عينيك وحدهما تغزلان النور، ومن خيوطهما أصنع وشاحاً يطير بي إلى السماء، إلى غيوم تشكلني أنثى الريح وفوضى الضباب. وفوق الصوت، وفوق النعاس، نسرح بعيداً بعيداً، إلى تلك القطعة اللاّمرئية من الفضاء، إلى نسمة رقيقة بخفة ريشة، نسمة تهمس:

تعال يا الحبيب، ولتحضر طيور القيثارة، تداعب روحينا بغناء عذب حنون، وأنت أيتها الأرض، أيتها الصخور، يا صوان ينابيع المياه، أيتها الغيوث الذارفة، ويا كروم السيل الجارف، إنه ليكفي القليل، ونتربّع على خط الأُفق .

 فليأت الحبيب مثلَ سفينة تلجُ حبل سُرّة السماء، الحبل العريض والمتلألئ، فليحضر قبل أن تسكبني السماء مطراً يجري إلى مياه البحر الداكنة، قبل أن يبتلعني العمق، قبل أن يضمحل القمر، وأزهر في المدينة مثل عشب الأرض.

ليأتِ الذي يخبئ في عينيه صفاء العسل وقطر الندى، وليصعد كسحابة، يصعد كزوبعة مركباتها أسرع من النسور، كنار، كبرد، كثلج، كضباب، ككلمة عشق، كضمة اعتراف: أنت العطر، أنت المطر، أنت السيل، أنت روح الغوى، أنت أنا في ورقة توت، وخيط على لوحة في المغيب.

ما لكِ يا ريح، استيقظي قبل المساء بقليل، تحدي الأنهار وزهر الربيع ووهج الشمس وضوء القمر ودوامات البحر العاصفة، تحدي كل الظواهر، صيري توأماً لروحينا المتعانقين، وهبّي على الأرض حيث حبيبي في غبش المساء، غصن عطر يحتضن البحر على الشطآن المهجورة، وستعرفينه من كلماته الحلوة، تهمس في سمعك، تحدثك عني.

 ناديه ليأتي قافزاً فوق التلال، من هضبة إلى هضبة، ومن ظلال إلى ظلال، قولي له: العالم ملقىً في الصمت. العالم تمثال كما يجب أن يكون الصمت. وفي الأعلى النجم الهائل في انتظارك، والقمر على وشك أن يلد قمراً، والمدى أعطى فضاءاته له، والشموع، وأعمدة النار وعبق البخور كلها مغمورة من الرأسِ حتى القدمين بعلامات، مذ تلاقينا فوق مرتفعات السحاب، في أول نداء.

واغرفيه يا أرض من الأرض، بلا دف، بلا عود، بلا رباب، بلا قانون، بلا ناي، بلا قرع، بلا بزق، بلا طبل وأجراس.

 أنتِ تعرفين… حبيبي صوت الطرب، صوت الفرح ونور السراج، مشعاً يصعد على طرف الشمس، هو الذي تدوّخني الأرض في عينيه، وأنا ما زلت أدوخ به، وأدور، وندور معاً، ونتشابك مثل زوبعة، وأسأله: هل تسمع مزمار السماء، وكيف أنه يلقي بنا في الأبعاد، وتدفعنا النجوم في اضطراب، نتصادم قليلاً ومن ثم نعود ونتصادم، نترنّح ونتذكّر القصب الجميل يوم علّمتني سرّ النفخ فيه، وأنا أجلس على ركبتيك، مضطربة، ودوراً بعد دور كانت شفاهنا تتلاقى على المزمار، كانت أنفاسنا قريبة، وكان درس المزمار الأول: عزف على اهتزازات الشفاه، وتأخر الدرس ونسيت أمي: ماذا أقول لها؟ وأي كذبة أرويها لها؟ وأنا لا أجرؤ على الحقيقة، وكيف أمضينا الوقت معاً، وكنا رقصنا على وقع اللذة، واسترسلنا، واسترسلنا…

 وحين حدثت السماء عنك، كيف أنك تتسلل من صدغي كل مساء، نبضاً وارتباكاً، فتحت مغاليق الأفق وانكسفت خلف الموج، قالت: “تسلل موفق”.

 ورحت أتسلل بين خيوطها والمغيب، من حقل إلى حقل، ومن بستان إلى حاكورة، ومن شاطئ الى مركب إلى لوحة إلى شراع إلى ميناء، إلى السحب الهاربة، إلى الريح التي استدارت مبتلة بالمطر، أبحث في الأنغام الهامسة من البعيد، عن ضوء يطفو ويتوهج وينكسر بنفسجيّاً إلى أبيض إلى ما بين اللونين.

وأخمّن: أتكون هناك على الرمال، ممدداً تعدّ النجوم، وتعد النوارس في تجوالها الصامت، وكم عتمة لفّها الليل بالضباب، وكم نيزكاً لفظته السماء، وكم ريحاً دخلت في حفيف النوافذ، وكم سمكة دخلت في الهواء، وارتعشت، ورقصت ونفضت عنها آخر آثام الماء العالقة في جسدها، وكم عاشقاً دوّخته ظلال النخيل، وكم قمراً فضياً لاح في السماء لابساً تحولاته، وكم عاصفة ذرّت الأفلاك في العيون، وكم رؤية أفسدت العدّ.

 أم تكون على ظهر مركب في الجوار، تسدل الأشرعة وترفع المرساة وترمي ذاك الجسر الخشبي في الماء، تمد يدك وتسحبني إلى دوار البحر، نرسم قوساً من حدود الليل إلى حدودنا العائمة بين الأمواج، نغني مثل البحارة للأرض ولعيون تطل من العتمة وتغرف نجمة.

 أم تكون في أنفاسي، في ضلوعي، في دمي، في أهوار رئتي، في جسدي كله، وفي الإسمنت الرطب الذي نتسكع عليه، نرضيه بدثار عطر مجبول بريحان الجسد ونرجس الروح ومسك نجمة تتلألأ في الأعالي، وتغتسل بعيون ناظريها، وتعود لتسطع أقوى، وأكثر نضارة.

 أم تكون في دورة الزمن، تكسر السنين التي بيننا، كنثرات خضراء تشكّلها تحفاً على طول النهر، تغرسها في التراب اللزج وعلى الأغصان المتراصفة كصف مدرسي، وخلف النهر تهبط لافتة: “ممنوع اللمس، ممنوع الاقتراب”. ونكاشف النهر معاً: منذ متى أنت محاصر؟ منذ متى لم تغيّر حدودك؟ منذ متى تطوقك الأشجار؟ منذ متى لم تعانق فتاتك؟ وبالمناسبة .. هل تسمح لنا؟

 سواكن

 ما خطب الفتيات عاريات الصدور في التفافتهن حول الشمس دورة كاملة؟ أهي عبادة وكل واحدة منهن تلازمها قطة عملاقة بعينين بلوريتين تشبهان حبات الخرز؟ وفي الرسوم مدوّن بالهيروغليفية: “سوّاها الجن”؟ فماذا فعل الجن يا إلينا في تلك الجزيرة الواقعة على الساحل الغربي للبحر الأحمر؟ وما حاجتك لأعرف عنها فيما تحددين ثلاثة أهداف: قصر بمئات الغرف، قطط عملاقة، ومرفأ مهجور.

وانطلقت في بحثي من دلالات استخدام التعبير: “سوّاها الجن”، ليظهر الآتي: تحوّر المصطلح عبر الأزمنة ليصبح “سواجن”، ومن ثمّ “سواكن”، والأخيرة كانت مدينة التجارة والمال على البحر الأحمر، تحكي حجارتها الطاعنة في القدم وقصورها الشامخة التي لا مثيل لها في المنطقة عن جن سجنهم فيها الملك سليمان أيّام كانت مرفأ السودان الوحيد وميناء أفريقيا الأول للحج.

ووجدتني أغوص في مزيد من محاولات البحث عن هوية أحددها لك، كأن تخرجين من الرسوم وتغادرين في ابتسام، وبالشغف نفسه انتظرت لأسابيع ريثما أطأ أرض السودان بحثاً عن تلك الجزيرة التي أثارت فضولي وطالعتني منذ وطأت أرضها ذات الحجارة المرجانية بحكاية شعبية مخبأة بين جدران مبان عتيقة مطلية بالجير الأبيض ذات المشربيّات والأعمدة والشرفات البارزة والنوافذ البابية المغلقة والمزخرفة والأبواب المشرعة على همس الجن، أو هذا ما يتداوله الأهالي الذين يقيمون هناك لزوار الجزيرة المهجورة مستفيضين بالسرد:

ذات يوم أهدى أحد ملوك الحبشة سبعين جارية إلى النبي سليمان، فاستراحت السفن في طريقها من مصوع إلى ميناء العقبة ومن هناك إلى بيت المقدس. ولدى وصولهن إلى القدس، حلت الدهشة على الجميع بعدما ظهرت عوارض الحمل على الجاريات اللواتي اعترفن بأن الجن وطأهن، فأمر سليمان بردّهن إلى الموقع الذي حدثت فيه تلك الفعلة، لتكون إقامتهن أبدية. وأقدم على سجن الجن هناك، وبتواتر الحدث الذي تتناقله الألسن، انتهت عملية تحريف التسمية إلى سواكن التي توسعت لتشمل “القيف” و”كاس الدور” و”الملكية” و”المشيل” و”اندارا” و”الليلي” وغيرها.

ولا يعرف تاريخ محدد تأسست فيه سواكن، ولكن الكثير من الشواهد فيها تدل على أن الجزيرة كانت مأهولة منذ تاريخ موغل في القدم، لربما تزامن مع النشاط البحري والتجاري الذي مارسه اليونانيون والبطالسة إبان العهد البطلمي، أو أنها ترجع إلى زمن الأسرة الخامسة لدى قدماء المصريين الذين استخدموها كمحطة في طريقهم إلى بلاد بونت (الصومال) لجلب الذهب واللبان.

وفي المعطى الأخير لاح في بالي: أتكون وطأت قدماك مدينة التجارة والمال، وكانت مستقلة عن السودان ولها نظامها الإداري الخاص، وفيها سور له خمس بوابات اشتهرت منها بوابة كتشنر (باب شرق السودان). وكان القادمون من “طوكر” و”بورتسودان” و”سنكات” تجذبهم أبنيتها ويدخلونها بقصد شراء الجمال والسمسم والصمغ العربي، وكانت تمون بلاد الحجاز بالحبوب واللحوم والسمن.

وجاء الدليل على ذكر قصر الشناوي باعتباره كان مخصصاً لتخزين المنتجات وغيرها من المواد التي يراد ترحيلها، لكنّ أهل سواكن يرون في القصر مكاناً يليق بحكايات ألف ليلة وليلة، وكان يشغله ملك مغربي معروف بالشناوي متزوج من 365 امرأة، وهو الأمر الذي استوجب أن يخصص العدد نفسه من الغرف في القصر لزوجاته اللواتي يتداور على المبيت عند كل واحدة منهن ليلة في السنة.

ولم أوفّر ساكناً في حرف الدليل من جهة المساكن إلى القصر الذي تعرفت إليه على جدران فتاة الرسوم، كانت مجموعة من القطط العملاقة التي يسمونها بـ”الكداديس” واقفة على بابه، ومن الدليل عرفت أن تلك القطط تعيش في الخرابات والأنقاض وبجوار البحر، ما جعلها تعتاد اصطياد الحيوانات البحرية كلما قذفتها حركة المد والجزر إلى الشاطئ، وهو الأمر الذي ملأ جسدها بالفوسفور والمغذيات البحرية، وفاقم من تكاثر المرويات عن قطط ضخمة مسكونة تصير في العتمة أكبر من حجمها الطبيعي بثلاث مرات.

وأخبرني الدليل أنّ تلك القطط لا تتوانى عن لكز رواد المطاعم لحثهم على منحها الطعام إن لم يبادروا بأنفسهم، وهو الأمر الذي تكرر معي ولم تستجب أكبر القطط لما رميته من طعام، تقدمت بخطوات فيهاغواية الأنثى، ولحقت بها من دون الدليل الذي حذرني من مغامرة غير مأمونة العواقب، ودخلت في رواق طويل مشيت إلى آخره لتتوقّف القطة عند غرفة لا تحمل رقماً خلافاً لبقية الغرف المرقمة، انحنت القطّة وبنواء خافت استغرق نحو دقيقة تبدّلت العتمة إلى خيوط ضوء دافئة تكشّفت محتوياتها عن ملابس نسائية بكل النقوش والألوان والحلي والصنادل ورزم القماش الملفوف في دوائر، وكل ما يثير في الأيدي متعة اللمس والاختبار، لكنّ القطة حالت دون أي تلامس مع قطع الأثاث الفاخر الموزعة في المكان، وبقيت أتملى الأغراض معايناً إلى أن بدأ وجسدها وكبرت حدقتا عينيها وغابت في ما يشبه العتمة.

في تلك الغرفة معروض للسياح ورقة بردى عليها رسم ملوّن ، ورسم آخر لفتاة تدعى ريفال قد أكون لمحتها بين فتيات بعلبك الهاربات، لكنّ ملامحها في الصورة تبدو مرتاحة، فهل تكون لجأت إلى حماية الجن في هذا القصر؟

وإلى جانب ورقة البردى قصاصة صفراء مدونة بحروف هجائية، كأنها جزء من رسالة مختومة بعبارة: “مرسلة من كبيرة التجّار “ريفال” إلى بلقيس ملكة سبأ في اليمن”. وفي الرسالة عبارات شكر على أمر ما توسطت به الأخيرة مع الملك سليمان، واللافت أن الرسالة بقيت في القصر ولم تأخذ وجهتها، وهي موقعة بفارق أيام من الدمار الذي حلّ بالمدينة بفعل غزوة تعرضت لها، تاركة برسم التاريخ بضعة قصور بينها قصر الشناوي ومن ثمّ أضحت  أطلالاً خارج التراث الإنساني الحضاري وداخل كتابات الرحالة من مثل ابن بطوطة الذي رأى فيها أنها: “جزيرة كبيرة بها صهاريج ضخمة لحفظ مياه الأمطار”.

 وخلافا لما رأى ابن بطوطة في الجزيرة ، تلمست فسحة رائعة للاستجمام والتقاط أنفاسي ، وكنت بدأت أرتاب من الطريق المضني الذي أخذتني إليه الأوراق ومنحوتة لا تزال مجهولة النسب. وكان يمكن في لحظة تخل أن تبتلع الأسماك بقية الحكاية لولا أن أيقظني نادل الفندق حيث أقيم ، ليس ليقدم إلي وجبة ثمار البحر التي طلبتها ، وإنما ليخبرني بأن :”هذا الصندوق لك “. ممن؟ أخبرني بأنه لا يعرف .وجد في أمانات الفندق باسمي.

وأكثر ما أثار دهشتي أنه الصندوق نفسه الذي يخصني ، والذي عثرت عليه في البئر ، ثم أني نسيته هناك ولم أعد ألحظه.

ترى هل تكون إلينا ؟ هل تكون عالقة في الحجر؟ ترى كيف تسافر الأرواح؟ أتستقل الطائرات أم تهيم في البحار والمحيطات؟.

فتحت الصندوق ، ورقة في الداخل، وعبارة من ثلاث كلمات: “الحجر يبقى حجرا”.

ماذا تقصد؟ ومن تكون؟

سؤالان وحقيبة أجرها الى المطار، وكنت بدأت بالفعل أرتاب من التواجد في الأماكن المقفرة.

“يُتبع”…

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى