تربية وثقافة

رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. “الجزء “11”..

رولا عبد الله/ لبنان

خاص “المدارنت”.

يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “11”، من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”.

(كنا أيام الاحتفالات المدرسية نتزاحم في الفناء الخارجي لالتقاط صورة آخر العام . وكان الضحية بيننا من تخفي الاضاءة القوية معالم وجهه.كنا نعزيه ونقول: حوت صورتنا ابتلع حوت صورتك. أذكر تلك العبارة جيداً ..)

 ألبوم

كل الصور جامدة، إلا صورتك تقفز فوق الساكن، تحاكي، تغمز، تصفر، تراهن، تشاكس، تبدّل في ألوانها وفي حركة اليد، وفي اتكائها على الساق، وفي رجوعها إلى الخلف، وفي تلويحها: ألقاك في الصورة المقبلة على أحر من الصورة الأولى.

  وما بين الصورة ويدك تورق ألبومات الذاكرة، تزهر على المصاطب تذكارات ليوم كنت أطارد الفراشات، يوم كنت أتعثر بظلالها، يوم بحثت عن زاوية فيء مشغولة بابتسامة، يوم زرعت بين الخدين نصف قمر نبت كائناً صورياً لا يكبر ولا يشيخ ولا يغضب ولا يغادر اللحظة، ولا يتوعد ولا يسقط من التفاصيل سالبَ وموجبَ تقلباتك مع قليل من المونتاج: كأن أؤرشف لك الابتسامة، أطوي ما لا يلزم، أقتطع من الوجه محيط العينين، أعلّق يدك اليمنى في الهواء، وأضبط الأخرى متسللة إلى جهة ما، أضع علامة تعجّب على شفتيك وأسأل: ماذا كنت تقول في حينها؟ ماذا كان يدور في عينيك؟ ماذا قال لك العصفور الذي في الكادر؟ والصخرة التي بجانبك؟ والوردة؟ والضوء الذي لمع في عينيك واعتذر؟ والجبال الممتدة بعيداً؟ والبحر الذي في آخر الصورة؟ والمرافئ البعيدة التي تطل منها؟ وسفينة في آخر اليسار؟

  وليس هذا كل شيء في مرايا الأيام، في بساتين الصور والقمرات السالبة وثمار الضوء الملقاة على شرائط بالأبيض والأسود، تماماّ مثلما تخضع حبّة التين للتجفيف، ومثلما تندس الوردة بين ثنايا كتاب، ومثلما يحدث أن أقصد سلالم الذاكرة، أنزل إلى العلّيات المزدحمة بقصص وصناديق وشخوص، أشعل شمعة وأنبش في حنطة الأيام التي ليست كلّها من زمن جامد، والتي بملامح سابقة على ملامحنا، بخط من العمر لم يكن موجوداً في حينها، وأبتسم للصورة، للموضة، للتسريحة، للحذاء في القدم، للساعة، للهاتف الذي ما كان باللمس، للضوء الأحمر في العينين، وأدخل في التخمين: كانت تلك أوّل صورة لك، أم أول صورة لي معك، أم أول صورة لنا معاً، أم أوّل التفافة يد على الخصر، أم أقصر مسافة بيننا، أم أوّل دردشة مع العدسة ومع مكبر الصورة ومع مسافات تقلّصت مرة بعد مرة إلى أن صرنا وجه الشبه وصرت مرايتك التي تسأل: أهكذا أفضل، أم أعدّل في وضعية الرأس، في استقامة الجسد، في التواء الساق على الساق. وكانت العدسة تضمحل ووجهك يقترب أكثر وأكثر ويبتلع صورتي وتبتسم وتمازحني: حوت صورتي ابتلع حوت صورتك، حوت صورتي مفترس وجوه؟

بلقيس

   ما سر الصندوق الذي سافر معي الى سواكن؟ أسلّم بأني بدأت أفقد الصبر في ترحالي الذي يأخذني من “سواكن” إلى سبأ (مأرب اليمنية ) لأتعرف عن قرب إلى بلقيس، ولأعرف من تكون “ريفال؟

ووطأت أرض الماء والخضرة والوجه الحسن، أو ما يسمونها بلاد العرب السعيدة، اليمن حالياً، وفي خباياها مملكة سبأ الصغيرة التي يكثر فيها الكندر، والمُر، والقشية (خيار شنير)، والقرفة، والصبر، والنردين، والسنا المكّي، والصمغ، والحجارة الكريمة. وقد استطاع أهلها أن يشيّدوا عند مأرب وغيرها من الأماكن مُدناً تزهو بهياكلها، وقصورها، وأروقتها المعمّدة.

وكنت أبحث عن مليكتي في سيرة ملكة في مهد أعرق حضارة قديمة عرفت في جنوب الجزيرة العربية، والتي كانت المرتكز الأساسي للحضارات اليمنية القديمة، إذ اعتبر الحميريون امتداداً متكاملاً لمملكة سبأ التي سادت كامل منطقة جنوب الجزيرة العربية، والبحر الأحمر حتى مناطق اريتريا وأثيوبيا الشرقية في القرن الأفريقي.

  وكانت منطقة مأرب الواقعة على بعد 170 كم شرق العاصمة اليمنية صنعاء عاصمة لمملكة سبأ التي اشتهرت بالتجارة وبالجسارة وفن القتال، وسادت فيها عبادة الشمس لدى قوم بلقيس من أجل أن تحمي أعظم حضارة قامت على الري بعد بنائهم سد مأرب بأحدث الوسائل التقنية، ما سمح لهم بأن ينعموا بالرخاء والازدهار الذي طبع أسلوب حياتهم. وكانت المملكة تسيطر على طرق القوافل التجارية بين جنوب الجزيرة العربية وشمالها وصولاً إلى مصر وغزة وبلاد ما بين النهرين. ويصدّر السبئيون إنتاجهم الخاص من البخور والطيوب والعطور والتوابل في هذه الاتجاهات ويلعبون دور الوسيط مع الهند بفضل مرافئهم على المحيط الهندي وكانت ديانة سبأ قريبة جداً من الديانة البابلية بمجوسها وبعبادة الكواكب، وأما الإلهين الرئيسيين فكانا الإله القمر، والإلهة الشمس، والأخيرة يتجه نحوها السبئيون ليصلوا عند الفجر، والسبئيون مزارعون ماهرون وبناة قلاع وقصور ذات هندسة معمارية متميزة، ومؤلفات فنية. وأبدع السبئيون حضارة خاصة بهم تحميهم من الغزاة على الجبال الشاهقة والصحاري الشاسعة، والمساحات البحرية الواسعة، وعُرفوا بالازدهار إلى درجة أنهم وصلوا إلى مستوى عالٍ جداً.

 وذات يوم عاد هدهد سليمان الحكيم بعدما مر بمملكة سبأ ووجد أهلها يعبدون الشمس، وتحكمهم امرأة هي الملكة بلقيس التي أرسل إليها لتدخل في دين الله، فترددت وأمرت له بهدية علها تكشف حقيقة مقصده، وهل هو فعلاً نبي مرسل أم مجرد طامع في مملكة سبأ التي كانت تعيش أزهى مراحل رقيها وحضارتها، وهي المملكة التي حكمت بالشورى وطبقت الديمقراطية قبل آلاف السنين، حيث إنها لم تقطع في أمر التصرف مع سيدنا سليمان إلاّ بعد أن شاورت قومها فقالت (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون).

هذه مليكتي إذاً، تشبه بلقيس في رقيها وحضارة قومها وخضرة أرضها، لكنّ الذي حدث في “سواكن ” وعمريت ويرموتا وأرتوزيا وغيرها تكرر في الجنة اليمنية، إذ تخبر الحكاية أنّ امرأة من تلك البلاد تنبأت بانهيار سد مأرب الذي كان الأهم بين 80 سداً في المملكة، وذلك من خلال جرذان ستعمل على قضم حجارة السد بأظافرها وأسنانها، وكان السد بين ثلاثة جبال ويصب ماء السيل إلى موضع واحد تجتمع فيه ماء العيون مع ما يختص من مياه السيول فيصير كالبحر، فكانوا إذا أرادوا سقي زروعهم فتحوا من ذلك بقدر حاجتهم بأبواب محكمة وحركات مهندسة فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدونه إذا ارادوا.

وانهار السد بعد ما سمي سيل العرم لتزحف كثبان رمال الصحراء وتدفن المملكة على أعماق مختلفة، وبذلك فقد قوم سبأ أهم مصادر الدخل لديهم مع اختفاء أراضيهم الزراعية، فكان أن هجروها إلى شمالي الجزيرة العربية ومكة وبلاد الشام. ومثلهم أهجر المكان على يقين من أن لعنة الفتيات الهاربات إنما لاحقت المدن الضائعة تلك، وتلاحقني من وادٍ إلى وادٍ بحثاً عنك، فأيّنا ينجو من الغرق؟

***

( لطالما أوليت الكيمياء حصة الأسد في تأطير علاقاتي بالآخرين. وكنت أسأل أي كيمياء تجمعني بمايا ، فألقى الرد الساخر نفسه: ليست كيمياء بل أدرينالين)

                                                   شوق

   وحين تصرخ العيون في لحظة اشتباك الصمت، أقول: الشوق يعلو فوق العين والحاجب أحياناً، الشوق يحق له أن يحتدّ، يصعّد ويرفع من لهجته حد الاصطدام وجهاً لوجه، وعيناً في عين، وقلقاً في قلق، ورغبة في الرغبة، ومفردات في المفردات، وخربشة في الهواء ترسم حروفاً عصية على الكلام، حروف وحده الصمت يفهمها ويردها إلى العينين مثل ضربة ترجيح والكرة قلب.

  وأقول لعينيك: لا تأتي الحكايات هكذا من دون اشتباك، من دون ارتباك، من دون تسلل، من دون جرعة ضوء، ومن دون قصاصات بعادات طفولية تمارس على الورق ونجمع حروفها بالتدريج: حب، أحب، أحبك، ونعود لنفرقها مثل ورق الشدة ونقسّم الأقدار: الملك الشايب أخذ البنت والشاب الجنتلمان مات من غيظه تحت شجرة “السباتي” وأص الكبة يرفع ورقته والرابح بالتدريج: حب، أحب، أحبك أنت.

  وماذا عن صراخ الكيمياء بيننا، وعن الحب الذي موطنه العقل، وعن الحب الذي ملجؤه القلب، وعن خلطة تستجيب وتفعل: خفقان في القلب، توتر، شوق، احمرار في الوجه، انفعال، أرق، سعادة، إشراق، لهفة، طمأنينة والبقية تأتي وتتفاعل: ذهن نشط، جسد خفيف، عرق في اليدين، جنون، رعشة وذلك الأدرينالين المتدفق من الانجذاب إلى الهوى إلى التعلق إلى الحب إلى مهرجان الهرمونات.

  وأصرخ بصمت: تعال مغمض العينيّن إلى احتفالية الحواس، ومن كل بوابة جرّب حظك، الجبال والطيور والبحور والجنان لجهة القلب. البراري والنخيل والصبار والنجمة لجهة القلب أيضاً. القمر والغيم السابح والطائرات المنسحبة لجهة القلب أيضاً وأيضاً، البيارق والطوارق والمروج وحدائق الياسمين لجهة القلب أيضا وأيضاً وأيضاً، ومن كل حاسة جرّب بوابة وتواطأ معي بالإحساس واللمس والنظر والشم والسمع لأية ريح مقبلة، أنت المسافر دوماً من ريح إلى ريح، وفي الأعاصير نلتقي، إنما بصمت وبثنايا قبلة في الروح وعلى الجبين وعلى جدول الأوقات الحلوة.

  وينزف الصمت صراخاً في الأوردة التي في عنقك، وفي يديك، وفي دقات تترنح وأنا أحتمي.

أوشبيتية!

 وجهتي تل العمارنة، وتحديدا أمنحوتب الرابع، المعروف بأخناتون. زوج نفرتيتي. كلاهما حمل فكر العقيدة الشمسية. وكلاهما واجه الرفض لها بين ناسهم في طيبة، انتقلا إلى شمالي صعيد مصر ليؤسسا مدينة جديدة فيها من الفكر السامي القديم في فلسطين ولبنان وسوريا، وفيها من العناصر الكنعانية والفينيقية والأمورية، ومعاً سعيا إلى الحدّ من منافسة الآلهة بتغيير اتجاه المدافن إلى الشرق بدلاً من الغرب على اساس أن الشرق هو المكان الذي يبزغ منه الإله الشمسي آتون، ولا زالت أرض العمارنة تخبر في ذخائرها عن قوانين ونمط حياة ولغة عيش وضعها الملك الشاب في رحلته التي لم تكن تخلو من مكائد الجوار. فهل تكشف هذه الأرض بعضاً من خبايا إلينا التي لابد أنها كانت تتبع العقيدة الشمسية بدليل الوشم على زندها وأساور تحمل نقش قرص الشمس.

ولأجلها تأخذني الريح بحثاً عن أيقونتي التي لم يؤمن بها لا الطب النفسي ولا ناسي وقالوا: مسكين، ومع ذلك أبحث عن هوية أصيغها لها وكل الدلائل تشير إلى أني أقترب وما زال البحث ممكناً فيما أصغي لريح الوديان تحمل صوتاً في مناجاته آتون.

هناك وإلى جوار لوحة تشير إلى مقبرة مري رع الأول الذي كان يشغل وظيفة الكاهن الأعظم لآتون في مدينة أخناتون وحامل المروحة على يمين الملك وحامل أختام الوجه البحري، أوقفتني عجوز فيما كانت تحاول إبعاد ماعزها عن البوابة الحديدية لمتحف المدينة المصمم حديثاً على شكل هرم. وهذه المرة أمسكت قميصي بيدها المشققة والتي تحفظ آثار حناء، وقالت: إجلس.

افترشنا الرمال على مقربة من قطيعها حيث أخبرتني أن جدتها بينما كانت تحفر في الأرض في حدود العام 1885، لاستخراج التربة من أجل صناعة الآجر الطيني وتسميد زراعتها، عثرت على رقم مسمارية ملأت سلتها ببعض منها وعادت إلى منزلها، ولأن السرقات والتزوير كانا رائجين، أحدٌ لم يصدق أن تلك الرقم حقيقية إلا حين وصلت بعثة بعدها بسنوات حيث سلمتها الموجودات التي بقيت في أمانتها، وبحسب البعثة، تروي العجوز أن جدتها علمت لاحقاً أن ما وجدته كان مراسلات مصدرها ملوك أجانب خاضعون لسياسة أخناتون،

ومن الحفريات التي قامت بها البعثة في المكان نفسه، جرى اكتشاف الأرشيف الملكي الذي وصل عدده إلى 379 رقماً، وفيه معلومات عن حلفاء الملك الآسيويين، وكانت تلك الرقم مغلفة ومصنفة بصناديق خشبية تظهر كيف أن الملك في سياسته الخارجية أسهم في دعم الملوك الضعفاء وإضعاف الملوك الأقوياء. وهناك القيمة اللغوية التي بينتها الألواح، ولاسيما لجهة اللغة الكنعانية، وحجم الاتصالات الدولية آنذاك والتي كانت واسعة الأفق، ومسار العمليات الحربية المذكورة وأسماء العواصم والمدن الإقليمية والحصون والمدن الصغيرة والقرى، مع المعسكرات والأماكن المسوّرة، إضافة إلى شرح مفصل عن طرق ري الحدائق ونبات البردى المزروع في جبيل، وكذلك النحاس والقصدير والفضة والعقيق والنقود، والكثير من الأشياء الثمينة، والتوت والزيتون والحنطة والسفن والمركبات.

وعلى الرغم من أن غالبية الرقم نقلت إلى المتاحف العالمية، فإن ما يحتفظ به متحف تل العمارنة يبين ذكراً لقائمة مهر عروس من ميتاني: “زوج من الخيل ومركبة مغشّاة بالذهب والفضة ومزينة بأحجار كريمة، وطاقم الخيل مزين بالطريقة نفسها”، ويظهر بعد ذلك “زوج من صغار الجمال عليهما ثياب مزركشة ومطرّزة بالذهب، وأحزمة وأغطية للرأس مطرزة. ثم قوائم بالأحجار الكريمة وسرج للفرس مزين بنسور من الذهب، وعقد من الذهب الخالص والجواهر، وسوار من الحديد المغشى بالذهب وخلخال من الذهب الخالص وأشياء أخرى من الذهب، وأقمشة وفضيات ومزهريات من النحاس أو البرونز، وأشياء من اليشب وأوراق من الذهب.. ويلي ذلك خمس جواهر مصنوعة من حجر “الضوء العظيم” (لعله الماس)، مع زينات للرأس والأقدام وعدد من الأشياء البرونزية وطاقم للمركبات.

لكن تلك العادات الاجتماعية، على الرغم من أهميتها في التعرف إلى المصريين القدماء، تقدّمها بالنسبة إلي سؤال حملته إلى المسنة العالمة بخفايا الملوك ودفائنهم.

سألتها عن الروح، وفي عشمي أن أسمع حكاية تدلني إلى عالم “إلينا”.

وشرعت المسنّة في التشريح:

الروح الفرعونية غير الروح التي نؤمن بها هذه الأيام، وهي متعددة الأجزاء: الاسم، الظل، الروح، النفس والروح النورانية. وباستثناء الأخيرة تولد بقية الأجزاء مع الإنسان، فالظل يرافقه مدى الحياة، والحال نفسها بالنسبة إلى الاسم، وكذلك الروح التي صورت على هيئة طائر برأس بشري، وهي تطير متنقلة ما بين العالم المادي والعالم الأخروي، وتتماهى مع حركة إله الشمس “رع”، تحلق مع بزوغ الشمس لتتحد مع النفس “كا” ثم تعود إلى القبر والعالم السفلي عند الغروب.

وكنت هذا بالتحديد ما أردت سماعه: إنّها تتحرك قبل الغروب.

وأرخيت السمع للمزيد:

آمن المصريون القدماء بأن الـ”با” لن تستطيع العودة إلى القبر ما لم تتعرف إلى جسد صاحبها، لذلك حرصوا على أن تكون المومياء شبيهة بهيئة الميت حين كان على قيد الحياة. أما الـ”اخ” فهي طاقة نورانية تنتج من اتحاد الروح “با” مع النفس “كا” لتنال الخلود مع الآلهة في السماء، وهي غاية كل مصري قديم، لكن ليصل اليها فهو بحاجة للقيام برحلة مهولة لاجتياز ظلمات العالم السفلي وبواباته المسحورة وصولاً إلى قاعة الحقيقتين: إما الصعود إلى السماء، ولمن ثقلت موازينهم فبانتظارهم وحش مرعب، ولهذا كان المصري  يحرص على حفظ جسده، فهو يرغب في حياة جديدة بعد الموت.

… وللمزيد:

“جنة المصريين القدماء تختلف عن الجنة التي نعرفها، إذ تحتوي على حقول ومزارع سماوية يعيش فيها الموتى الصالحون، وهذه الحقول هي مثل الحقول الأرضية، بحاجة إلى عناية ورعاية دائمة، وهي مهمة توكل إلى الـ”أوشبتي” ليقوم بها بدلاً من سيده الميت. فكانوا يضعون 360 أوشبتياً مع الميت، على عدد أيام السنة الفرعونية، ليقوم كل واحد منهم بعمل يوم واحد من السنة”.

وفي الحكاية الأخيرة، ثمّة قطبة شدّتني: إذا كان “الأوشبتي” يتولى خدمة سيده الميت ثم يرحل مع الغروب ليظهر في اليوم التالي أوشبتي آخر مشابه في الشكل والمهمات الموكلة إليه، فهل تكونين “أوشبتية” تتبدلين كل صباح في خدمة ابنة الملكة المسجاة داخل الناووس في المعبد؟ وهل هذا يفسر إعادة تموضعك اليومي؟ وهل أكون أحببت منحوتة تتبدل بعدد أيام السنة؟

لكنّ المسنّة تعود وتنسف فكرة الخلود من أساسها فيما تقرأ في نسخة قديمة من كتاب الموتى:

“اتبع قلبك الملذات التي ترغب فيها. اصنع ما شئت على الأرض، ولا تخالف قلبك، سيأتيك يوم الحداد، ولن يعيد البكاء أي إنسان من العالم الآخر. اقض يوماً بهيجاًمن غير ملل، واعلم أن المرء لن يستطيع أن يأخذ معه ممتلكاته، ولم يسبق قط أن رجع أي إنسان بعد أن ذهب إلى هناك.

الموت لص بغيض. كنت طفلاً صغيراً عندما خطفت بالعنف، اختصرت سنوات حياتي وأنا وسط زملائي في اللعب. انتزعت فجأة في شبابي، كرجل يروح في سبات عميق. كنت شاباً عندما جرفني الموت إلى المدينة الأبدية، من دون أن أحظى بوقتي، على الأرض، لي كثير من الأصدقاء ولكن لم يستطع أي واحد منهم أن يدافع عني، أقام كل شخص في المدينة مأتماً وعويلاً عندما رأى ما يحدث لي، بكى كل أصحابي. تضرع أبي وأمي وأغشي على أخوتي..، ولكن كل هذا من دون جدوى”.

 أمّا بخصوصك “إلينا”، فلا دليل حسياً في أرض العمارنة سوى أن تكوني إحدى “الأوشباتيات”، وهو ما ينبذه إحساسي المستمر في أخذي إلى مزيد من المحطات، بينها وادي الملوك حيث تعمدت تتبع أثر نفرتيتي التي أعشق جمالها في وجهك.

وها أنا في أرض تلك “الجميلة جمال آتون”، أتنقل من الحي الشرقي إلى وادي الملوك إلى مقابر الأشراف التي تحفظ العديد من المناظر والنقوش الخاصة بها، وفي الغالب تصور الملكة مرتدية ثوباً رقيقاً طويلاً يغطي كتفيها وأعلى ذراعيها، وتلبس مرة التاج ذا الريشتين وتحته قرص الشمس بالقرنين، ومرة ثانية تزين رأسها الباروكة المموجه، ومرة ثالثة تلبس الباروكة النوبية بجانب غطاء الرأس “النمس”.

 وكنا تقابلنا يا نفرتيتي للمرة الأولى وجهاً لتمثال نصفي من الحجر الجيري، ومع ذلك خطفت أنفاسي في متحف “شالوتنبرج” ببرلين، والتقينا ثانية بتمثال من الكوارتز الأحمر والمزين بلمسات من المداد في المتحف المصري، لكن التمثال الأول شدّني أكثر وكان عثر عليه عالم ألماني في ورشة تحتمس النحات في تل العمارنة، فأخذه إلى منزله في حي الزمالك بالقاهرة، ومن هناك هرّبه إلى ألمانيا مخفيّاً ضمن قطع فخار محطمة غير ذات قيمة.

 وإلى الجميلتين نزلت بحثاً عن ذلك الخيط الشفاف بين عالمين، مستغرقاً في الأرض المنحوتة بتقنية مدهشة بدءاً من استخدام نظام تهوئة طبيعي تحت الأرض في المساكن والكهوف والمعابد وعنهم أخذت شعوب الشرق القديم. وكانت المقابر والمساكن جميعها تحت الأرض، وفي أعلى الممر نفق هوائي عمودي يصل إلى سطح الأرض لترشيح رطوبة التربة وإخراج الغازات إلى أعلى، ولإيصال النور إلى داخل البناء لاعتقادهم باستمرار الحياة في العالم الآخر مع ما يستدعي ذلك من تجهيز منزل ابدي ينعم فيه المتوفّى بالخلود.

 ورحت أجوب النظر بين المومياءات، وقد لفتني أن النساء منهن لا زلن يحتفظن بتسريحة الشعر الأخيرة قبل الوفاة، ومنها تلك الجدائل التي تمزج بين خصل الرمادي والأسود، وقد احتفظن بالشعر طيلة هذه السنين بفضل استخدامهن طلاء خاصّاً. وفي التسريحات ما يدل على تفضيل نساء تل العمارنة الشعر المجعّد والمجدول الذي بالكاد يصل إلى منطقة الكتفين. وكنّ يخفين الشيب بالصباغة، إذ استخدمن الحنة لأجل ذلك.

وإلى جانب المومياءات كتاب صغير يذكّر النفس بما ينبغي أن تقوله في العالم الثاني دفاعاً عن نفسها أمام محكمة الإله وفيه: “ما ارتكبت خيانة، وما ارتكبت محرماً، ولا ألفت البطالة، ولا وشيت بالعبد إلى مولاه، ولا حبست الخبز عن المعابد، ولا سرقت عصيبات الموتى، ولا طعامهم ولا طففت مكاييل الحبوب ولا صددت الحيوانات المقدسة، ولا قبضت على الأسماك المقدسة، أطعمت الجوعان وأسقيت العطشان وكسوت العريان وقدمت الضحايا للأرباب وصنعت الولائم للموتى”،

وفي جولة المقابر مزيد من تعرية الغموض الذي لطالما لاحق الفراعنة ولاحقني، ومن خلال الشروحات التوضيحية يسهل الدخول إلى عالم لطالما اعتقد أن الروح تستطيع الدخول في الجسد لتستريح، لذا اقتضى أن يظل الجسد سليماً. ومن اجل ذلك تعلموا التحنيط، فيملأون الجثث عنبراً ويغطسونها في مستحم من النطرون ويعصبونها بعصيبات فتصير مومياء توضع في تابوت من الخشب أو جبس وتوضع في القبر مع ما يقتضي لها من ضروريات الحياة.

كما اعتقدوا أنه باستطاعة المتوفّى الاتصال بالعالم الخارجي الدنيوي، فالإنسان مكون من الجسد والروح التي عبر عنها بـ”البا” وهي شكل طائر برأس بشري والـ”كا” وهي بمثابة نفس الإنسان أو شخصه أو ظله. والمنفذ الذي يستطيع المتوفّى الاتصال به بالعالم الخارجي عن طريق الباب الوهمي الذي كان أساساً مجرد فجوة في الحائط. وتطورت إلى رسم باب يسمح للمتوفّى بالدخول والخروج من المنزل الأبدي وهو المقبرة إلى العالم الخارجي. وفوق الباب الوهمي نحتت لوحة صور فيها المتوفّى وأمامه مائدة القرابين، وصورة أخرى وهو يستقبل طوابير حاملي القرابين. واستكمل المصري القديم اعتقاده بحماية المتوفّى من خلال لف جثته بعد تحنيطها بعدة لفائف كتانية، ووضع التمائم والجعارين والصيغ الدينية الخاصة ثم إدخال الجثة بعد ذلك في عدد من التوابيت الخشبية او الحجرية أو المذهبة حسب أهمية المتوفّى، وكانوا يعتقدون أن لكل إنسان قريناً، فإذا مات يخلفه قرينه في حياته. وكان القبر المصري يدعى بيت القرين، وهو عبارة عن مكان منخفض منظم كالغرفة يزين من أجل القرين بضروب الآثار من كراسي ومناضد وسرر وصناديق وأقمشة وألبسة وروايات.

 وفي المقبرة التي تحمل الرقم 62، لا يزال توت عنخ آمون في مكانه منذ موته المفاجئ، متتبعاً موجوداتها من صقرين من الخشب المذهّب وعقاب من العقيق على سوار من الذهب، وعقاب ناشر جناحيه ومتوج بقرص الشمس من الذهب المرصع بالفيروز واللازورد والعقيق، وثعبان من الخشب، ومقعد العرش مرتكز على أربع قوائم تشبه قوائم الأسد، أما مخالبه التي تنتهي بها القوائم فمن العاج. ولأن الثعابين والسحالى والسلاحف ترمز إلى إعادة الحياة في العالم الآخر، كانوا يكثرون منها في المقابر على اعتبارها تساعد على البعث. فها هو “أوفيس” الثعبان مكرس لتعطيل مركب الشمس، وفي اعتقادهم يمثل الزمن في الساعة الحادية عشرة ليلاً وهو يبتلع النجوم قبل طلوع الفجر وانقضاء الليل، فالساعات تخرج من فم الحية التي تجسد الزمن. أما ربات الساعات الاثنتي عشرة، فيتجمعن على جانبي حية ذات لفات لا تنتهي، تمثل الزمن وتولد من جسمها الساعات كثعابين صغيرة تخرج واحدة بعد أخرى كي تبتلعها تلك الربة في النهاية.

 في طريق العودة إلى الأهرامات الثلاثة، كثير من الرموز التي طالعتني في تل العمارنة، تتشابك أمام ناظري عن حياة أخرى تحكي عنها المقابر، حياة أفكر بأنها قد تحملك إليّ يوماً في بعث استثنائي، ليس بالدلائل والإشارات والقرابين فحسب، وإنما بكامل حيويتك إلى دنيا حيّة وملتهبة مثل الرقصة التي جمعتنا سابقاً، والشغف الذي لاح من عينيك، والعطر الذي فاح من وشاحك..، لكنّ الواقع لا يحمل إليّ سوى رنين هاتف عيادة الطب النفسي، فأي رد أحمله وقد أخذتني الهمسات إلى امرأة أبحث عنها في خصور النساء الدقيقة مفلفشاً بين الوجوه عن تقاسيم لا تزال شاغرة، وعينيّ تراوغ بين الأهرامات الثلاثة بحثاً عن الهرم المفقود لـ”هونستن”، وهي ابنة الفرعون شيوبث، وقد منحت جسدها لكل رجل يبني مدماكاً في ذلك الهرم إلى أن اكتمل بحجارته الملونة والمتعددة الأحجام، مع أنه لم يصمد كثيراً بين رفاقه من الأهرامات، فأخذته الرمول مدحرجة حجارته في كل اتجاه.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى