رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. الجزء “14”..
خاص “المدارنت”..
يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “13” من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”.
مدائن صالح
على عظمة البتراء في قزحية حجارتها، لم أعثر على نسب الحجر الذي في مثل لونها. وها أنذا على الطريق السريع أدخل منفذ الدرة السعودي متجاوزا وادي رَم وتشكيلاته الصخرية وعيون الماء لتطالعني عند أطراف صحراء النفود في شمال شرق المملكة نحو خمسين مجموعة من التشكيلات الصخرية تقف كل خمسة أعمدة منها في شكل عنقود إضافة إلى قطع صخرية منحدرة ومتعرجة بلون الرمال تستحضر في ذهني منطقة احجار ستونهينغ في انكلترا، أما في الأساطير المحلية يقولون بأنها بقايا قبيلة مفقودة عاقبها الله.
تحمل الاحجار المسماة بالرجاجيل في منطقة الجوف، والتي ترجع إلى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد ، نقوشاً تربط بينها وبين الأصنام في فترة ما قبل الاسلام مثل صنم ود، وقد تكون وضعت على أطراف الصحراء بشكل متعمد ربما لعبادة الشمس، إذ ثمة فرضية ترجح بأن تكون عُبدت في شمال شبه الجزيرة العربية كما عُبد القمر في جنوبها، وان العادة جرت على اختيار أماكن مرتفعة للتعبد.
أما في الحكايات الشعبية التي يتناقلها أبناء المنطقة ،فإن قبيلة مسخت الى حجارة لإقدامها على فعل أمور غير جائزة . وقد تعود حجارة الرجاجيل الى الزمن الذي تحولت فيه شبه الجزيرة العربية من أرض بحيرات ونخيل كما رسم في المئات من مواقع النقش على الصخور الى الحالة الجافة الصحراوية التي هي عليها في الوقت الحالي.
ومن الرجاجيل قصدت قصور مدائن صالح المنحوتة، الحجر هو مقصدي، ولربما شيء آخر دفعني إلى الزيارة، بثينة التي قصّت مايا عليّ قصتها، كانت ترددها كثيراً، وكنت أحسب بداية بأنها لا تحسن سواها، عن فتاة عاشت في قصر محفور في صخور المدائن، لم تفلت منه إلا يوم نحرت عند أعلى الجبل، وهي نفسها في الحواديت “الفتاة ذات الشعر الذهبي الطويل”، ومن حكايتها استوحت ديزني أميرة منحتها اسم “Rapunzle”.
يومها حكت مايا أنه في سابق الزمان، في صحراء المملكة السعودية، نادى حبيب بثينة من أسفل البرج الصخري أن أنزلي شعرك المجدول لأصعد إليك. وصعد الأمير، وتعارفا، وتحابّا، لكن الأمور في الصحراء أكثر كآبة من قصص تنتهي بالعيش في ثبات ونبات. ماتت بثينة، أو بالأحرى ذبحت وسالت دماؤها على الصخور من أعلى الجبل إلى حضيض الوديان. وبقي القصر الذي غدا مزاراً، حكاية مخبوءة يجرني إليه، إنما في اتجاه “إلينا” هذه المرة، عسى تحكي الصخور مُعرِّية حكايتي.
ومن الفرضية الأخيرة وجدتني في عداد ثلاثين راكباً على متن حافلة استغرق عبورها سلسلة من الجبال المتشابكة والمنحدرات الصخرية لنحو ثماني ساعات. وكان حداء الرعاة يخترق بين الفينة والأخرى هدأة الطريق حيث لا تزال القصور الحجرية تحفظ بصمات صلدة من تاريخ شرق لم تفلح لا الرمول ولا السيول في تعريته، بقي صامداً يخبر عن ثمود وناقة نبي الله صالح والأنباط، وبثينة العاشقة.
في العُلا ترجّل الركاب الذين بمعظمهم من السيّاح الأجانب للتعرف إلى مدينة تحفظ ما يقارب من أربعمائة نقش من آثار “بني لحيان”، وأغلبها عبارة عن نقوش وقطع صغيرة، ومنها ما يحتوي على بعض أسماء الملوك والآلهة من مثل “هنوس بن شهر”، و”ذو أسفعين تخمى بن لوذان” الذي يرجع حكمه إلى النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد، وفيها تعرفت إلى معبد “يعود”، ويحوي تماثيل بارتفاع المترين لملوك لحيان، تجاري النحت الفرعوني في النصف الأعلى من الجسد، وتحمل الطابع العربي المتمثل في شكل الوجه، وما يوضع على الرأس بما يشبه الكوفية والعقال.
ومن العُلا التي تبعد عن المدينة 320 كيلو متراً، اتبعت الحافلة سكة الحديد التي كانت تنطلق قديماً من اسطنبول حتى المدينة، مروراً بوادي النعام الذي كان بمثابة محمية للنعام، وفيه مقابر منحوت عليها وجوه أسود، إذ كانت الحيوانات قبل افتتاح قناة السويس تعبر الوادي آتية من إفريقيا وشبة جزيرة سيناء إلى الجزيرة العربية.
ووصلت إلى مطل يقسم مدائن صالح إلى أربعة أجزاء: مدينة الموتى التي تحفظ 111 قبراً منحوتًا في الصخور الضخمة، من ضمنها 94 قبراً بواجهات مُزينة ومزخرفة، ونحو ألفيّ قبر ذات الشكل البسيط، وحوالى 30 قبراً من بين هذه القبور تحتوي على نقوش نبطية تؤرخها.
وهناك المجمع الديني، ويقع في الجزء الشمالي الشرقي من مدائن صالح، والوصول إليه عبر ممر ضيق بطول 40 متراً يشبه الممر الموجود في البتراء الأردنية. ويحتوي المجمع الديني على العديد من الخزائن والنقوش المُخصصة لآلهة الأنباط القديمة.
ويمتد المجمع السكني على مساحة 600 دونم في مركز مدائن صالح، وقد بنيت البيوت من الطوب الأحمر الذي جعلها تندثر مع مرور الوقت عكس المباني التي حُفرت في الصُخور. وتُحيط التحصينات بالمجمع السكني كما جرت العادة قديماً.
وأخيراً منطقة الحقول الزراعية في الجزء الشمالي والشمالي الغربي من المدائن، وتحتوي هذه المنطقة على أكثر من مئة بئر، بعضها يصل قطره إلى سبعة أمتار وعمق 20 مترًا.
وبحثت بعينيّ المشبعتين بحرارة الرمال عن طريق تفضي إلى حيث لافتة مغروزة في الأرض: “هنا مدائن صالح”، في الاتجاه الذي حددته بوصلة المعدن الملتهبة بين يدي على أنه غرب المملكة العربية السعودية -وتحديدًا بين تبوك والمدينة المنورة. كانت الهضاب تبدو ذهبية، مليئة بصخور تتنوع ألوانها ما بين الأحمر والأصفر والأبيض، ولربما يفوق عددها الـ150 واجهة صخرية منحوتة، إضافة إلى عدد من الآثار التي تتمثل في القلاع وبقايا خط سكة حديد الحجاز.
إنها حقاً مدائن مضمخة بالرهبة، يقول السائح الأجنبي في جواري، وهو يجرب النفخ في مزمار من خشب الورد مصدراً تراكيب لحنية حادة، وأحياناً ما يشبه نواح كأنه يرتد من حضن الجبل الذي ندنو منه. واقتربنا على مسافة أمتار من واجهة مدفن، وهي منحوتة نحتاً بارزاً ومرتفعة عن سطح الأرض، تعلوها شرفات مدرجة أسفلها كورنيش، وعلى جانبي الواجهة نحت لعمودين يحيط تيجانهما إطار بارز، وفي الأعلى نقش يعرف باسم صاحب المقبرة وإخوته، مرفق بعبارتين هما: “ومن سلام إلى أبد الآبدين” و”يلعن ذو الشرى (إله الأنباط) كل من يبيع هذه المقبرة أو يشتريها أو يرهنها.. “، وفي ما خص الكتابات على تلك الصخور، فإنها تتفاوت ما بين العربية الجنوبية، واللحيانية، والثمودية، والنبطية، واللاتينية، والإسلامية.
وبمواصلة السير على الأقدام متنقلاً بين القصور الحجرية، بلغت قصراً يسمونه “الصانع”، مبني على الطراز النبطي للقبور، ويتمثّل بواجهة عظيمة، وشكلين مكونين من خمس درجات، ونقوش في أعلى الباب. وفي الداخل حيث وطأت لفحتني الرطوبة ورائحة خاصة تصدرها حجارة المكان. كانت عيناي مصوبتين إلى فتحات عرفت أنها مخصصة لاحتواء الجثث، وإلى جانبها نقوش لجسم أسد ورؤوس بشرية وأجنحة، وأشكال تشبه الورود مرسومة على زبدية تستخدم ضمن طقوس مصاحبة للجنائز.
ومن قصر الصانع الذي يقول أهل الجوار إنه كان يعمل في الحدادة، أخذت طريقي إلى “قصر الملك”، ويعرف بـالقصر الفريد لانفراده بكتلة صخرية مستقلة، وكذلك لاختلاف واجهته الكبيرة عن المقابر الأخرى في مدائن صالح. لفتني فيه دقة النحت وجماله في الواجهة، وعلى الرغم من هذا الجمال إلا أن القصر الفريد غير مكتمل النحت، حيث إن العمل لم يكتمل في أسفل الثلث الأخير، وعلى ذمة معرّف المكان فإنه بني لرجل اسمه حيان بن كوزا..
وفي محطة الاستكشاف الثالثة في المكان، أعلن المعرّف ما دفع قلبي للمزيد من الخفقان وعينيّ للتوثّب: وصلنا قصر بثينة وهو معروف بـ”قصر البنت”، لم يكن قصراً واحداً، وإنما عبارة عن مجموعة قصور منحوته في أعلى جبل كبير، فيه العديد من المقابر، إلا أنه مثل حال قصر “الصانع” بقي غير مكتمل، ما يدل على أن تقنيات البناء التي كانت متبعة قديماً في تلك الجبال هي من الأعلى إلى الأسفل. أمّا لماذا لم يكتمل؟ فلأن مايا حملت إليّ يوماً حكاية بثينة المفجعة، وأسترجعها بعد سنوات طويلة على لسان واحد من أبناء المكان الذي شرع في القص على مسامع الزائرين:
“البنت” هي فتاة مدفونة فيه بعد أن قتلها والدها الذي رفض أن تربطها علاقة بأحد النحاتين في عهد الأنباط الذين سكنوا المدائن في العام 150 قبل الميلاد. كان الوالد شيخاً حدري النسب اختار أن يحبس ابنته التي كانت في غاية الحسن والجمال بعيداً عن نظرات الرجل، وضعها في قمة الجبل الذي يعرف اليوم بـ”قصر البنت”، ومن السفح كان يحرس الجبل بنفسه.
وعلى الرغم من الاجراءات التي اتخذها الشيخ المسن في الحفاظ على ابنته، نجح “الصانع” الحرفي في الوصول إلى الفتاة والتحدث إليها.. ثم ما لبث أن أحبها وبحث معها عن وسيلة توصله إلى مسكنها. ونجحت الفتاة في إحدى الليالي بأن تدلي من الجبل بحبل مجدول من شعرها، وهكذا استطاعت أن تسحب الحرفي إليها.. وأخذ الصانع يتردد على بثينة كل مساء تحت جنح الليل المظلم، ليهرب عند أول خيط من أشعة الصباح. وما لبثت بثينة طويلاً حتى افتضح أمرها.
وما إن بلغت حكايتهما الشيخ الحدري، حتى سحبهما إلى قمة جبل قريب، ثم ما لبث أن قام بذبحها والصانع معاً. وساح دم العاشقين من أعلى الجبل الذي لا يزال يُشار إليه إلى الآن من قبل أهل المنطقة بأن هذا الدم يعود للصانع و”بثينة”، دم لم تفلح معه كل السيول في أن تفقده حمرته.
بعد قصر بثينة فقدت حماستي في استكمال الجولة الميدانية، عدت أدراجي إلى الحافلة بكثير من الخيبة التي حالت دون استكمال مهمتي في استقراء الحجارة، وكأن لسان حال بثينة ينده في الصدى الذي من خلفي بأن لا قصص حب تدوم على هذه الأراضي العربية، لا حجارة تنطق ولا عيون تشعّ بالبهجة.
وأومئ لـ”بثينة” برأسي أنك كنت فدية حب..
وأومئ لذكرى “مايا” في قلبي: أين تكونين بعد كل هذه السنين التي سرقت منا.
وكم فات يا “مايا” على آخر جولات الصخب التي جبلتنا بالوديان والحقول وخلف أدراج معبد اخترنا له أن يبقى لغزنا المفتوح على طول السنين الراكضة.. أحسبها سنوات طويلة لم أعرف بعدك أن أحب الحياة، غرقت في السفر والدراسة والنبش في الأرض وردم ذكرياتنا معاً منذ بلغني أنّك سافرت بعدي بسنوات.
ومن ذلك الحين أخاف السؤال عنك. وأخاف أن أعرف عن ذلك السفر المفاجئ في حياتك، وفي انقطاع أخبارك عني، فهل تكونين عرفت الحب من بعدي؟ وأي حياة شكّلتها؟.
وكان هذا السؤال قابلاً لمزيد من الايضاحات يوم طالعتني دعوة منك في بطاقة يتيمة على مكتبي الجامعي، وفيها دعوة إلى افتتاح معرضك التشكيلي الثاني، وخلاله كان من المفترض أن توقعي ديوانك الأول. كان رقم هاتفك موجوداً على البطاقة، ولم أتصل، ولم أوافِك إلى أي مكان، خفت وعرفت أني جبان في مواجهة محتملة لطارئ لا أعرفه في حياتك.
وغرقت في حب “إلينا”، غريمتك، وما زلت أبحث في أصقاع الشرق عن هوية أشكّلها لامرأة ، وأنت الملتهبة في حياتي أخاف أن أطرق بابك ثانية، وأسأل: لم تلحّين كثيراً في اختراق أيامي؟هل تكونين عدت؟ وأي ملامح يحفظها وجهك من التي أعرفها؟
وكنا ببساطة افترقنا، ولسبب تافه مرده كبريائي أو ارتباكي الذي لخبط كياني كلما جاء أحدهم على ذكرنا معا.
وهكذا حدث الأمر، سألني الرفاق:
-تحبها أم تتسلى..؟
خجلت ، تلعثمت ثم خطرت في بالي إجابة:
-تروقني..ولا يروقني جنونها
وكان أن أخبروها .فرقتنا العطلة الصيفية وخيار والديها بالهجرة الى بلد لم أعرف وجهته ولم أسأل ولم تعطني حتى فرصة لأعتذر.
(بين الصاد والضاد نلتقي..لأخمّن أين؟)
سؤال
وأسأل ما إيقاع الكلمات، قيمتها، دلالاتها وتراكيبها حين تخجل الحروف منك، تتورد وتلملم حياءها في حضورك وفي اشتياقك وفي السؤال عنك وفي امتداد اللهفة وفي مدارات الصوت وفي انفعال الداخل وفي اسم وإشارة وإصبع يومئ أن: هذا غرامي بين الصاد والضاد نلتقي، بين الميم والنون نغني، بين الهاء والواو والياء نتهامس، ومن الشين ننطلق، ومن الراء ترتعد قلوبنا، ومن اللام ننعطف لجهة القلب، ومن الياء الساكنة بعد الفتح نحبس نفساً ومن القاف والجيم نضطرب، ومن بقية الحروف نشكل ذائقة اللغة المفتوحة على صودا النفس وخمائر الروح.
ومن اللغة أفتح باب الاستثناء خارج قواعد الرفع والنصب والجزم والجر، أقول: سلاماً للغة تلوح بين جملتين مثل فاصلة منقوطة، سلاماً لهمزة الوصل بيننا، لواو العطف ولكل اقتباسات الحب الجاهزة بين مزدوجين، لكسرة في عينيك، لعقدة الضم بين حاجبيك، للسكون في مدن تدخلها فاتحاً، لضمير متصل أشتاق إليه، لاسمك المهيمن أولاً على اللغات وعلى الأسماء وعلى الحروف التي يصير لها محلٌّ من الإعراب، وتصير أنت حروفي وجملتي التي أبدأها باسمك وأختمها بعينيك.
وسجّل:
كل خاطرة وأنت تاج أبجديتها، ملكها، ورونق الحرف في اندماجه بالحرف في مدارات الضاد المشكلة جهراً وهمساً وشدة وقلقلة وتناغماً وتشذيباً في قصيدة تولد من محورك وردية تلوّن الشفاه وتزهر في يديك حروفاً كفواصل اعتراف، كحلو الكلام، كالحلم المندلق من عينيّ مثل فراشة ترفل في حقول الورد والياسمين، تغزل ألوانها وتصنع من اللغة أرضاً لسيمفونية ربيع: أزرق، أصفر، أحمر.