تربية وثقافة

رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. “الجزء “8”..

رولا عبد الله/ لبنان

 

خاص “المدارنت”..

يتابع موقع “المدارنت” اليوم، نشر الحلقة “8”، من رواية الزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله: “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”..

(الورقة السادسة فيها عطر لم أجربه بتوليفة الأرض
والأعشاب بعد المطر..أخال )

 عطر

يليق بك عطر الأرض بعد المطر، يسكن زجاجة بتوليفة أوّلية: البرغموت والمندرين والنعناع والريحان والقرنفل والسرو، ومنها أدخل عنق مختبرات العطارين في مناقصة على رائحة لها فعل العشق في الجسد الخصب وفي الأنفاس الحالمة والمشاكسة، وفي نوتات بذكريات وخصوصية واختبارات تبدأ من حقل الخزامى مثلاً.

وحين يُسأل العطار: ما رأيك؟ ويبسّط في السؤال مفككاً الرائحة لثلاثمئة جزيء هي مجموع روائح الخزامى، ويبدأ من الجزيء الأول، وتكرّ السبحة بين: يشبهه أو لا يشبهه، ويبقى من الخزامى الباقي من وجه الشبه، أعقّد في مكونات الخلطة مشترطة أن تجمع من كل شيء: ذكر وأنثى وبداية تكوين لحكاية على حصيرة عليها طفلان بعيون ساهية وأنفان يشرقان الأحداث من باب: “كان يا ما كان في قديم الزمان..”.

وأطلب بأن تفوح روائح العطر بالتوازي، ولا يهم إن ناهزت الألف مادة، طالما أن لا رائحة تستبيح الأخرى، لا زهرة تفترس جارتها، ولا لون يطغى على لون، فقط عطر غامض يكتب بالإحساس فصل الرائحة الأول من ملامسة الجسد والالتفاف حوله طبقات في طبقات.

وأسجّل أيضاً، وأربك العطار: أريده غامضاً، بسيولة المياه، وفيه ذلك التوازي بين الرجل والطبيعة، بين الجسد والعناصر، بين النفس العطشى للاكتشاف وبهجة الروح. عطر فيه الطبيعة، الطريق الأقصر إلى الحياة، فيه الانتعاش المتأتي من النور، وفيه ارتعاش الهواء النقي، وعصف الريح وطراوة البحر، وفيه المسك مثبتاً للرائحة وذلك الضباب الهابط فوق المحيط إلى حركة القوارب تتمايل في الميناء.

وأبحث لك عن عطر في البدء أتخيله وأحلم به، يدور برائحة غير مأهولة، فيها بحيرات أكثر من الناس، وفيها أشجار عملاقة وسماء ترتسم في خطوط عريضة من الضوء المتلألئ.

عطر يجمع التضاد بعلامة فارقة، يكافح ليغطّي على رائحة السجائر الملتصقة بقميصك، لا تهزمه رائحة قويّة مثل الكوكاكولا، يكون ببراءة الرائحة الأولى، ينفع حين النبش في الأرض، وحين التجوال في المتاحف، وحين استعراض الفرح وحين استعراض الرغبة، عطر بهذا السحر وبهذا الجمع وبكل هذه المناسبات بالتوازي. عطر ينفع لي ولك، له شخصيّة المطر وجذور الأرض في أفضل حالاتها. طقوسيّ، ممتع ومنعش ومفعم بالذكريات.

عطر صعب وسهل، لاذع وخفيف، صامت وثرثار، عطر الأسرار والتجليات وتجريد النفس من رغائبها، عطر العشرة آلاف مادة، عطر الدروب الخفية والغامضة والحاضرة أبداً، عطر المرأة والرجل، وروح الوادي والأنثى الغامضة، عطر العمق والمودة والصدق والنظام والبراعة ودقة الهدف، عطر مرآة الذات والأغوار الداخلية، عطر أصنع منه أبواباً ونوافذ وغرفة وأسرّة، عطر اللاشيء واكتساب الشيء، عطر الألوان الخمسة والمقامات الموسيقية، عطر صور في البال تتبعه وتسبقه وتتجاوزه في الخيال والحقيقة، دمث كضيف وليّن كالثلج، وصلب كجلمود وفارغ كالوادي، عطر العودة إلى الأصول، إلى ابن سينا والكندي، عطر زفة الملوكية إلى السماء، عطر الفوضى والرغبات ونزهات الربيع، عطر لا يتفاخر ولا يتبجح ولا يباري، ومع ذلك هو ليس من عامة العطر، عطر اليمين واليسار الذي بلا شكل، عطر عقدة السر، عطر الذكر الذي يلعب دور الأنثى وعطر الأنثى التي تلعب دور الذكر، عطر القوة والضعف، وكل هذا في العطر، وفي الخلطة التي أبحث عنها، رائقة وساكنة ومثيرة في آن.

وفي آخر القائمة أريد عطراً يحفظ رائحتك على جسدي لساعات، ولا يفقد عناصره حين احتكاك الجسد بالجسد،، عطر يصدح بأعلى الرائحة، أنا خلطة خاصة لا تقاوم، خلطة مضافاً إليها المسك من بلاد دارين، واللبان من بلاد الحبشة، والصندل من الهند، والعنبر من ساحل اليمن، خلطة بتلميحات من هنا وهناك، بخربشات، ببساطة.

وأي خلطة لأي عطر لأي حبيب هذه؟ يسأل العطار ولم يفهم بعد طبيعة العطر: “الأرض بعد المطر”، لنسمّه كذلك.

-7-

ماري

  ما أدراها بأني كنت أبحث عن عطر بالمواصفات التي حملتها الأوراق إلي. هل تكون قارئة أفكاري، أم فنجان قهوتي المسائية، وما عادت تحلو إلا بذكريات لا أعرف من أين تهب ولا كيف تدثرني بها؟

 وها أنا لا زلت أحتفي بها وألحق برسومها بين الواحات وبين الخرب المهجورة مطارداً فصلاً جديداً من أوراقها وتستهلها برسم لتمثال على شكل نسر برأس سبع، وبجانبه عبارة:”من ملك أور في منطقة الفرات الأوسط الى ملك ماري على الفرات الأوسط”.

وفي الأسفل رسم ملون يمثّلها في مملكة ماري،والتي تعني الربة أو السيدة، مبرزا عقدا من أحجار كروية مخرزة من اللازورد بأضلاع ثمانية ومن أحجار متطاولة من العقيق الأحمر، وبجانب الرسم تاريخ مدون باللاتينية:2650 قبل الميلاد.

   ولم تكن المملكة التي تسترجعها أوراق إلينا بغريبة عني ، إذ كنت قرأت كيف أنها أسست لقيام سلطة الدولة في تاريخ البشرية ، لكنّ حمورابي البابلي أسقطها في العام 1759 قبل الميلاد ، وقام بإحراق قصورها وهدم أجزاء كبيرة منها بحيث لم تخرج الى الضوء إلا عام 1933 عندما انتزع أحد سكان تل حريري جنوب شرق سوريا، وهي البلدة التي أقيمت فوق أنقاض المملكة ، حجرا كبيرا ليضعه كشاهد فوق قبر قريب ،تبين بأنه تمثال ضخم لإله الشمس “شمش” ، وعلى التمثال كتابه: “يسمخ أدد ابن الملك شمشي أدد ملك آشور الذي نصب هذا التمثال، أدعو الإله “شمش” أن يسحق كل من يزيل اسمي ليكتب اسمه بدلا منه”. وكنت عاينت هذا التمثال عن قرب في زيارة الى متحف اللوفر بجانب تمثال للملك “لونجي ماري”، وعلى كتفه هو الآخر تهجّيت وثيقة من حاكم المدينة إلى ابنه يخبره فيها: “الكلبة من عجلتها ولدت جراءً عمياناً”. وأين ولدت الكلبة؟ قد يكون في تلك البقعة الممتازة من حضارة نمت مثل العشب بين أوغاريت وحلب ودمشق وغيرها من المدن.

   وفي الرسوم تمثال ربة الينبوع المحطم إلى جزءين. تبدو السيدة بوضعية الوقوف، بين يديها جرة مائلة إلى الأمام تسكب الماء، وبيدها ترفع أطراف ثوب طويل تزينه سمكات صغيرة صاعدة وهابطة، وعلى الظهر والكتف تنساب ضفائر و قرنان يلتفان إلى الأمام رمز الألوهية.

 وتظهر “أورنينا” بجوار ربة التمثال في الرسم، وهي عازفة معبد ماري، مشغولة بأوتار قيثارتها التسعة، مستسلمة لأصابعها تمددها ملامسة صندوق الصوت المصنوع من خشب الصندل وبعض منه مغطى بالذهب، والآخر مكسو بجلد منقوع باللبن والحليب والقطران، وعلى يمينها دزينة عازفين، وعلى يسارها العدد نفسه من المغنين المخصيين بغرض أن يبقى الصوت عذباً لإرضاء الآلهة.

      وفي ماري تكشّفت المزيد من الخيوط بخصوص إلينا، أو هذا ما تظهره الرسوم موضحة: “الشريفة التي أوجدت أول غرفة تجارة عرفت بـ”كاروم”، ومعها جمعيات للفقراء أطلق عليها اسم “الموشكينوم”، وهي تعانق روائح مملكة العطور في ورشات كان يصنع فيها نحو600 ليتر شهريًا، و تصدّر إلى مختلف البلدان، ومعها 26 نوعًا من الحلي والمجوهرات، و31 نوعًا من أواني الشرب، و21 نوعًا من الألبسة الداخلية، كما صممت الستائر والبطانيات وأغطية الأسرّة”.

 تاجرة هي إذا .. تحية، وماذا تخفي بعد؟.

-7-

(الورقة السابعة  تستحضر في بالي عمراً  كنا ندور فيه من حول الخروبة العملاقة سبع لفات ونغني..كنا في حدود الثمانية أولاد نقطن الحي نفسه ونتشارك الألعاب الصبيانية ونحل مشكلاتنا بالاحتكام الى الأشجار العملاقة في البلدة )

الشيخة

حين ناديتُ: “يا فاتنتي”، وسحبتُ يدك بأطراف أصابعي، وسحبت جسدك تلحق به أنفاسنا، وأخذنا ندور سبع لفات حول شيخة الأشجار، نلتف حول ساقها، وتلتف حولنا بظلال أوراقها، ثمارها، ليفها، سعفها، خوصها، كنا مثل شاردين نطوف، ونملأ كأس الندى، ثم نملأ، ثم نملأ، ونشرب في صحة الذين عبروا وداروا وتمنوا وصلوا وخشعوا وحملوا جرار الفخار وتطهروا بالماء وتعروا وتركوا على الجذع بعضاً من أشيائهم الحميمة، وكنا مثل وشاحين فالتين في الريح في رفرفتهما العبثية حول الساق المحنّاة بألف وشم وبقلوب وبسهام وبكلام في الحب وبكلام في الانتظار وبكلام في الوجع وبكلام في انفلات الحروف على العشب المجبول بصمت اثنين وببقايا كلمات تحفر في جوف الشجرة، وفي الأرض: أعطنا يا غيم أبدية اللحظة العابرة، ولتشق السماء السحب، ولتتلامح النجوم، ولتبارك الشجرة فينا موسيقى الروح، ولتبتهل: طوبى للساكنين في سر شجرة.

وما سرك يا كبيرة يا شجرة؟ علمينا كيف تكون العناقات في ظلك. ما لونها؟ ما شكلها؟ ما صوت الرغبة حين تتأوه في الصدى، علمينا أين تراكمين حكمة الأرض الملقاة بعهدتك؟ أفي النواة؟ أم في دوائر عمرك، أم في الجزء غير المرئي منك؟ نسأل ونطوف في الدورة الخامسة، وبعدها السادسة، والسابعة، وتغمزين وتكوّرين الفم وترفعين الحاجب ونصف ابتسامة وجزء من إجابة: هل شاهدتم نخلة تتساقط أوراقها؟ ونهز بالرأس للأعلى، وتهزين بسعفك للأسفل: “إذا كيف أفشي بدهر من الأسرار، وأنا تموت أوراقي واقفة”.

وما الغوى يا شجرة؟ ما الفتنة؟ ما الحب؟ ما الشغف؟ ما الاشتهاء؟ ما الرغبة؟ ما القبلة على الجذع؟ ما عناق الساق للساق؟ ما الأصابع تحفر في الجسد أرقاماً ورموزاً وطقوساً؟ ما الكعب يدوس على الجذع ويتمدد إلى الأعلى، ما النواة وما الكحل وما الثمر وما لون العطش وما المخاض وما الولادة وما العمر وتجاعيده والشاب ورائحة الذكر فيك والأنثى وعريك؟ وما استراحة القلب بين جفناتك؟ ما كل ما تخبئين وتحفظين وتنصتين وتغرفين؟ وما سرك عندما من أجلك تتعرى الأنثى وتستحم على جذعك وتدهن شفتيها بزيت العنبر وتضع كحلك حول عينيّها وتضغط يداها الدافئتان على خاصرتك وتغفو بقربك؟ وعندما من أجلك يتعرى الرجل، ويستحم على جذعك وتغسلينه بماء طهور وتضمّخينه بالعطر وتلبسينه عباءتك وتعزفين له على ناي أغصانك وتغوينه بالفتاة النائمة بالقرب منك، وبالقرب منه، ومنك ومنه ينقل الحياة اليها وتفيق على وجهه ويفتنها بسكرة عينيّه وبجفنيه وبخديه وباستدارة وجهه وببسمته وبلمساته، ويضع يده على يدها وقلبه على قلبها، على جذورها، وتعلن الشجرة: أعطيتكما شهوة قلبي، وملتمس شفتي لم أمنع، التصقا بسلام، التصقا بقوة على جذع حضني، ولتصفق الأنهار ولترنم الجبال: سرّي في المسرات، سرّي في بهجة الروح، سرّي في دغدغة الجسد والحب الذي يلوي ضلوعي.

“يُتبع”..

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى