سوريا بين الأمس واليوم..

خاص “المدارنت”..
أكتب هذه المشهَدِيّة التاريخيّة المختَصَرَة، من على متن الطائرة المصريّة، وأنا في طريقي من كندا إلى لبنان عبر القاهرة، على علُوّ أكثر من عشرة كيلومترات في سماء العرب الصافية، فوق أرضِهِم التي تعجّ بالاضطرابات واللاستقرار والغموض وضبابيّة الرؤى..
يعود تاريخ سوريا إلى آلاف السنين قبل الأمويّين، لكنّها لم تشهد حضورًا عالميًّا فاعلًا وفعّالًا، إلّا في ظلّ الأمبراطوريّة الامويّة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس من سنة 662 م. .إلى سنة 750 م.
إنتهى الحكم الأمويّ لسوريا عام 750 م. لينتقِل إلى الأندلس (إسبانيا والبرتغال) وأجزاء من شمال أفريقيا، عندما استولى العبّاسيّون على السلطة، وقضوا على بني أميّة، ما عدا عبد الرحمن الداخل المعروف بِصَقر قرَيش، وليستمِرَّ لثَمانمئة سنة تَلَت..
تحوّلت سوريا خلال الأمبراطوريّة العبّاسيّة إلى ولاية تابعة لبغداد، مثلها مثل باقي الأرض الممتَدّة من الصين شرقًا إلى الأطلسيّ غربًا، ومن القوقاز شمالًا إلى جنوب آسيا وأواسِط أفريقيا جنوبًا، إلى أن أصبحت في عهد هارون الرشيد أمبراطوريّة عربيّة إسلاميّة لا تغيب عنها الشمس!
بعد انحطاط الدولة العبّاسيّة، ثمّ فيما بعد، هزيمتها أمام جحافل المغول والتتار، عام 1258، تفكّّكت وآلت إلى مقاطعات متناثرة لا حضور لأيّ سلطة عربيّة فيها .
بعدما انهزم التتار أمام المماليك، في معركة “عين جالوت” عام 1260، انضمّت سوريا إلى السلطة المصريّة، التي كان قد أسّسها صلاح الدين الأيّوبيّ، أثناء تحرير البلاد من الفرنجة (الصليبيّين)، ثمّ المماليك في القاهرة حتى عام 1516، عندما هزمهم الأتراك في معركة “مرج دابق” قرب حلب، الذين نقلوا عاصمة “الخلافة” إلى تركيّا، واستبدلوا لغة الدولة، العربيّة، باللغة التركيّة لحوالي 400 سنة.
عند انتهاء الحرب العالميّة الأولى عام 1918، تمّ تقسيم العرب إلى كيانات إقليميّة، تحت الانتداب الفرنسيّ والبريطانيّ، فكان نصيب سوريا، بحدودها الحاليّة، أن تكون تحت الحكم الفرنسيّ، حتّى نالت استقلالها، بعد ثورة كبرى وتضحيات جسيمة، عام 1946.
لم يستطِع أبناء البلاد إنجاز صيغة عصريّة للحكم، فشِهدت الدولة الجديدة تخبُّطًا واضطرابات، كانت نتيجتُها حدوث أوّل انقلاب عسكريّ قام به حسني الزعيم، لتتوالى بعده الانقلابات العسكريّة التي كرّست حكم الجيش للمؤسّسات الدستوريّة والدولة.
على أثر ذلك، قام السوريّون، بمن فيهم الجيش والشعب، بمطالبة جمال عبد الناصر، الذي كان نجمه يتصاعد في مصر والوطن العربيّ والعالم، بالوحدة الفوريّة من أجل الحفاظ على سوريا، وتطبيق التوجُّه نحو الوحدة العربيّة التي كان ينشُدُها معظم الشعب السوريّ منذ زمن..
إستمرّت الوحدة المصريّة السوريّة لثلاث سنوات، من 1958 إلى 1961، حيث أطاح بها انقلاب عسكريّ ممَوّلًا وموَجّهًا من أميركا وأدواتها في المنطقة العربيّة، فدخلت سوريا، مرّة أخرى، في دوّامة الانقلابات حتّى عام 1970، إلى أن استولى على الحكم حافظ الأسد تحت ستار “حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ”.
حكَمَ حافظ الأسد، بالحديد والنار، وأفرغَ حزب البعث من مضامينِه المبدئيّة وأطُرِه الفكريّة، إلى أن تحوّل إلى هياكل تنظيميّة هشّة، تتحكّم بها المصالح الشخصيّة والمحسوبيّات، وينخرها الفساد من رأسها حتّى أقدامها.
سلّط حافظ الأسد، ومن ثمّ ابنُهُ بشّار الأسد، الذي خلفَهُ بطريقة مخالفة للدستور والأعراف، على الناس أجهزة الاستخبارات المتعدِّدة التي عاثت في الأرض فسادًا، أتى على كلّ ما حقّقته الدولة من إنجازات على الصعيد الاقتصاديّ والإنمائيّ والسلم والأهليّ والعلاقات المناطقيّة والدوليّة، وكلّ البنى التحتيّة لسوريا الوطن والشعب والمؤسّسات.
إنتهى حكم آل الأسد، بعد حرب أهليّة دامية، وهروب بشّار الأسد وأخيه ماهر، حيث تمّ إصدار الأمر بحلّ الجيش العربيّ السوريّ، وإخلاء ثكناتِهِ ومواقِعِه، والتخلّي عن اسلحته والانصراف إلى البيوت، في 8 كانون الأوّل عام 2024، لتأتي بعده الفصائل المسلّحة التي ثارت عليه لحوالي 14 سنة.
لا أحد يدري اليوم، ما ستكون عليه طبيعة الحكم في سوريا، بسبب الفوضى والاضطرابات التي سادت البلاد، بعد صعود أحمد الشرع إلى سُدّة الرئاسة.
من الطبيعيّ أن تأخذ عمليّة إعادة تشكيل السلطة والدولة في سوريا، شهورًا طويلة وسنوات، لكنّها تحصل بإرادة صلبة وثبات ورعاية عربيّة وإقليميّة ودوليّة، واضحة التوَجُّه، لكنّها ضبابِيّة المَعالِم.
برأيي المتواضع: سوريا، بعدما تحرّرت من الخوف والقهر، لن تكون دولة تابعة، ولا دولة ضعيفة، ولن يطول بها الزمن أكثر من بضع سنوات، حتّى تعود، بشعبها الأصيل وقِواها الحيّة، أحد جناحَي الأمّة العربيّة والدولة المحوَريّة التي يتطلّع إليها أحرار العرب في التحرُّر والنهوض، والأمل بمستقبل يليق بأجيال قادمة مليئة بالحيويّة والعلم وحُبّ الحياة..