تربية وثقافة

“سوق الملح” للروائي عمر سعيد.. إبداع منطلقه الحبّ..!

كتبت الناقدة خديجة بعلبكي…
ما إن تبدأ بقراءة الرِّواية حتَّى يتناهى إلى فكرك رمزيَّة هذا العنوان لتجد أنَّ الحياة سوق ملح؛ مضرٌّ لا بدَّ منه. هو الضَّرورة التي لكلِّ أحد منه حفنة أو رشَّة، فلا يسلم كلُّ من في سوق الملح من همٍّ أو ألم. وحين تنتهي من قراءة الرِّواية تجد أنَّها بحدِّ ذاتها هي سوق الملح. فالكاتب لم يدع شيئاً إلَّا وذكره؛ الحبّ، الدًّين، الحياة، الرُّوح ، الوطن، الانتماء، الذَّات، الهويَّة، الموسيقى، الكتابة، الفنّ، التَّاريخ، الفلسفة وحتَّى الشِّعر.
تنتقل إلى الإهداء لتستوقفك أربع كلمات: الفرار، الهروب، التَّهجُّر، التَّشرُّد. نصفها يكون بإرادتك ونصفها الآخر قسريّ. وفي كِلا الحالين، هو انتقال؛ من زمان إلى زمان، من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال. وهذا الانتقال لا يوحي بالرَّاحة في الجهة المقصودة، بل ألم آخر ينتظر ومتاعب تتراصف؛ كحال علي الذي سنجده في خاتمة الرِّواية.
تبدأ الرِّواية بصيغة النِّداء التي تُدخِل القارئ إلى عمق المشهد دون تكلُّف، ينجذب بقوَّة كي ينصت وبكلِّيَّته حتَّى دون أن يفسح هذا النِّداء المجال للتَّفكير، هل أكمل أم لا؟ تشعر بقُرب المتحدِّث منك رغم أنَّك لم تعرفه بعد، لكن يجذبك النِّداء وعبق كلامه وارف الحكمة والعمق، فتنصت، تقرأ، تتأمَّل، تسافر وتجول إلى ما لا نهاية. لا يفوتك تفصيل دون أن تتألَّم، أو بشكل أدقّ، دون أن تشعر أنَّك تحمل الألم والمعاناة مع الشَّخصيات، وتعيش معهم أحوالهم المختلفة وكأنَّك أنت من يكتبك الرِّوائيّ. وإنَّك لا ترى تفاصيل وجوههم، مظهرهم، المكان الذي يعيشون فيه والظُّروف المحيطة بهم فقط، بل وتدخل إلى أعماقهم لتنصت إلى صوت فكرهم وهمس أرواحهم وحديث قلوبهم، وما يرافق ذلك من اختلاف وفرادة تجدهما فيهم. تتألَّم معهم وتختنق؛ تكاد تضيق ذرعاً بضيق الفتحة التي تمنحها الحياة تحت مسمَّى الأمل، وهو ملازم لهم كالألم. لتجد بعد ذلك أنَّ هذا الألم بهذه الحدَّة يليق بقضيَّة منسيَّة لكن الألم لا ينساها أبداً، ألا وهي البدون. ليدهشك كاتب الرِّواية أنَّه تناول هذا الموضوع الذي هو بعيد كلَّ البعد عن بيئته والجغرافيا التي يعيش فيها وعن البلد المكتظ بآلاف المشاكل، فتكاد تبدو قضيَّة البدون غير مهمَّة. لكن كعمل روائيٍّ، فإنَّها في غاية الأهمِّيَّة لتكون نقطة انطلاق للذَّهاب في عوالم فكريَّة تتعدَّى فكرة الهويَّة نفسها. ثمَّ إنَّك تجد نفسك تحكم على الرِّواية قبل أن تكمل قراءتها أنَّها تستحقُّ أن تكون ضمن عمل دراميٍّ تمثيليٍّ وإخراجه يشبه نمط أعمال المخرج عبَّاس كياروستامي.
إنَّها قضيَّة تلازم الإنسان طوال حياته وفي كلِّ جوانبها، وكأنَّ الانتماء بات محصوراً بمجموعة أوراق ثبوتيَّة مختومة. لكن أثناء قرائتك للرِّواية، تجد أنَّ الكاتب انطلق من مفهوم الإنسان دون هويَّة إلى فضاء آخر من الهويَّة الحقيقيَّة تتجاوز فكرة ورقة مختومة، كما أنَّنا نجده يعيد لمفاهيم كثيرة هويَّتها كالدِّين، الحبِّ، الوطن والهويَّة نفسها. حتَّى أنَّ القارئ سيجد ذاته يفكِّر في صنع هويَّة أسمى له أو يعيد تشكيل هويَّته وفق أفكار لا أوراق.
تتعدَّد الشَّخصيَّات والأسلوب واحد؛ واضح، صادق، حازم كنقش على أحد صخور البقاع وشاعري يرشَح بالحكمة والعمق. فكر صارخ لأنَّه يعيد للمفاهيم هويَّتها الحقيقيَّة ويُجلي عنها ما علق عليها من مغالطات وتشوُّهات، فلا مجال لنفيها أو معارضتها. يتنوَّع ما بين الحوار، الحكمة، الشِّعر، التَّأمُّل ، المراسلات، السَّرد، ذكر الوقائع التَّاريخيَّة، حديث النَّفس، بالإضافة لوجود سلاسة زمنيَّة وجغرافيَّة مُتقنة. هذا التَّنوُّع موازٍ لتنوُّع آخر على مستوى الشَّخصيَّات، فتجد أنَّ لها ترتيباً تصاعديّاً ضمنيّاً من حيث العمق الفكريِّ والرُّوحيّ الذي لديهم؛ علي وماجد، جو ولامبير، الرَّقاش والعود. عدا أنَّ فكرة تلازمك وأنت تقرأ عنهم وتقرأهم أنَّ الفكر، العمق والتَّفرُّد في جوهر الذَّات لا يتعلَّق بالمظهر أو الهويَّة أو الحال الفيزيائيّ. الحال المهترئ على أيِّ صورة كان يؤتي بفكر يتجوهر وروح تنصقل، وقلب يسمو ويرقى في سماوات الحبِّ. يشبه في ذلك الألماس، إذ أنَّه لا يصبح ألماساً إلَّا بعد طمر خانق واحتراق صامت طويل الأمد. وتذهب إلى أبعد من ذلك أنَّ هذا نابع من ذات الإنسان لا تحدِّده مظاهر اعتادت الحياة أن تحكم على الأشخاص من خلالها.
وينعكس ذلك بقوَّة على المواضيع التي يعالجها الكاتب، فتجد أنَّ الكاتب لا يفوته تفصيل ظاهريٌّ إلَّا ويجعله يرشح بالحكمة البالغة والأبعاد الفكريَّة الصَّحيحة والتَّأمُّلات العميقة التي تخدم أفكار الكاتب. الجدير بالذِّكر أنَّ إدخال السَّرد التَّاريخي لذكر وقائع وأصول يزيد من ميثاقيَّة الرِّواية لتشعر أنّك لا تقرأ رواية تمَّ تأليفها من نسج الخيال. ثمَّ إنَّ هذا يخلق تنوُّعاً فريداً إلى جانب التَّأمُّل الفلسفيِّ العميق الذي ينبت من بين صخور المعاني والتَّفاصيل بدقّة لا متناهية. كما إنَّ ذكر تاريخ سوق الملح وتفاصيله وسبب ذكره أساسيّ للعنوان، لنجد أنَّ البدون هم في سوق الملح يبحثون عن سوار الهويَّة، التَّاريخ والمجد ليثبتوا انتماءهم ويتغيَّر مجرى حياتهم.. هذه الرَّمزيَّة تجعل مشاهد الرِّواية مترابطة إلى حدٍّ بعيد وجميعها تعود إلى نفس النُّقطة وإن اختلفت في ظواهرها.
الرِّواية لا تملك ديناً محدَّداً، فتارةً تذكر تفاصيل تتعلَّق بالدِّين الإسلاميّ؛ والجدير بالذِّكر أنَّ الكاتب صوَّر الغلوَّ الذي تحمله بعض التَّيَّارات وصوَّر الجانب الرُّوحاني الذي يعزِّز تطوير الذَّات وتهذيبها وذلك لا يكون إلَّا بملامسة جوهر الدِّين ألا وهو الحبّ، فما دونه شكليَّات وسلوكيَّات جافَّة لا تغني الرُّوح؛ وتارةً تتداخل فيها صور وتشابيه لها مدلولات مسيحيَّة، وكأنَّ بهذا التَّنوُّع أمام قضيَّة البدون لا مجال سوى للإنسانيَّة، للحبِّ. دين الرِّواية الحبّ. هو كلُّ شيء ولأجله يكون كلُّ شيء. تتطرَّق الرِّواية إلى نقطة هامَّة تعاني منها المجتمعات إلى اليوم ألا وهي مواجهة الدِّين للإبداع. لتأتي صور عديدة في الرِّواية تعطي نموذجاً آخر يصوِّر الدِّين إيمان وحبّ؛ الارتقاء الرُّوحي والفكري وسموِّ الذَّات. والإبداع أليس منطلقه الحبّ، فكيف لا يتلاقيان؟
تحمل الرِّواية عبق الأدباء القدماء من الرَّابطة القلميَّة، ويتفرَّد بأسلوب شيِّق يغرقنا في الفكرة وجوهرها دون أن نهتمَّ لمن يقولها، فنرى الاسترسال في الحديث عن القضايا المذكورة على تنوُّعها وما تواجه الشَّخصيَّات من معاناة لا تؤدًّي إلى الوصول المنشود، ليأتي بعد ذلك ذكر قائل الكلام؛ الأولويَّة للمضمون. هذا إن لم نجد أنَّ الأساس مشترك لمعظم الشَّخصيَّات وكأنَّهم يعزفون على ذات الآلة أو يردِّدون الموَّال نفسه.
المداخلات الشِّعريَّة تصوِّر المعاني في نطاق اللّا زمان واللَّا مكان، بل حالة ربَّما القارئ وجد أنَّها تنطبق عليه تماماً مهما كان هناك من اختلاف. الوطن، الحرب والثَّورة؛ الانتماء والحبّ… فما يكتبه الرِّوائي عن شخص في بلد آخر وزمان آخر يطابق زمن القارئ ومكانه في كثير من الأمور. وهذا يعطي الرِّواية بُعداً عالميّاً إذ أنَّ مفاهيمها ليست محصورة في شأن معيّن، بل تلامس الجميع. وذلك في الأصل يعود لمعالجة موضوع أساسه الحبّ والألم، وهما قاعدة مشتركة للجميع.
إنَّ الرِّواية بحدِّ ذاتها تعالج قضايا في قضيَّة بطريقة غير مألوفة لمشكلات لا زالت موجودة إلى اليوم ويبدو أنَّها لن تغيب طالما أنَّ الحبَّ ليس هو الدًّين. لا تنتهي من قرائتها إلَّا وقد غيَّرت في هويَّتك، أي في ذاتك وفكرك، لتعيد النَّظر فيما أنت عليه وتواصل المسير. إنَّ هكذا رواية لا يمكن لك أن تعطي رأيك فيها، بل تعطيك هي رأيك في نفسك.
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى