سويسرا مَخبأ مَسروقات الطّغاة.. هل تُعيد للعرب أموالهم؟!
“المدارنت”..
قليلون من العرب سمعوا عن (المنتدى العربي لاسترداد الأموال المنهوبة) ولذلك سأعرف به بداية:
تجمع يضمّ بعض دول الربيع العربي التي أسقط حكامها الديكتاتوريين كتونس ومصر وليبيا, وتشارك فيه دول عربية داعمة ومنظمات اقليمية ودولية, هدفه العمل القانوني والديبلوماسي المنظم لاسترداد الأموال التي اختلسها الحكام الفاسدون من شعوبهم وخبؤوها في مصارف وحسابات في الغرب. وعقد المنتدى ثلاث دورات سنوية حتى الآن, في الدوحة عام 2012 ومراكش 2013 وفي جنيف الاسبوع الماضي. وشارك في الدورة الأخيرة مائتا خبير قانوني ومصرفي من ستين دولة وممثلين من منظمات حقوقية معنية بمكافحة الفساد.
ولمن لا يدع فرصة تفوت دون كيل الاتهامات لأمريكا نقول إنها هي التي اقترحت انشاء المنتدى دعما للعرب وما تزال المساند الأقوى في مهمتهم العسيرة. والدعم الامريكي هنا متعدد الطرق فهي تتابع وتراقب وترسل خبراءها ومنظماتها بل ورجال شرطتها, وهذا الدور يحمل أكثر من تحذير للدول التي تخبىء منهوبات مبارك وبن علي والقذافي وهي بعشرات مليارات الدولارات.
الدورة الاخيرة التي انعقدت في جنيف الاسبوع الماضي [2 – 3 نوفمبر/ت2] افتتحها رئيس الاتحاد السويسري ديدييه بوركهالتر شخصيا وألقى فيها كلمة الافتتاح, وهو سلوك غير رسمي ومفاجىء لأن المنتدى ليس منظمة دولية والمشاركون فيه شخصيات لا تزيد عن مستوى الوزراء, ولا تفسير للحفاوة السويسرية سوى محاولة دفع الشبهات التي تحيط بدولته كمستفيدة أولى في إخفاء الاموال العربية المسروقة, والاستيلاء عليها! وما يدعم هذا التفسير ما قاله سيادته في كلمته: إن إرادة سويسرا السياسية الراسخة هي إعادة الأموال غير الشرعية إلى بلدان المصدر معربا عن الرغبة في التعاون مع جميع الدول العربية ومثيلاتها كأوكرانيا وهايتي للتوصل لحلول مرضية للجانبين.
وللأسف فإن من يعرف تاريخ هذه الدولة ”الراقية!” ويعلم الاسس التي يقوم عليها نظامها المصرفي السري يعلم بلا شك أن هذا الكلام الاخلاقي لا ينطبق على الواقع ولا يعدو أن يكون ذرا للرماد في الأعين, وأشبه بحلف الأيمان من طرف مراب شهير!.
وزيرا العدل في مصر وتونس اللذان شاركا في الدورة أعربا عن الأسف لفشل جهود دولتيهما حتى اليوم, وكشف الوزير المصري محفوظ عبد القادر، إن سويسرا لم تعد سوى 650 مليون فرنك سويسري من أموال حسني مبارك وبعض حاشيته, وكشف نظيره التونسي حافظ بن صالح أن بلاده لم تسترد سوى 60 مليون فرنك من اموال بن علي المودعة في مصارف سويسرا. وفي مقابلة مع الرئيس السويسري، طالب المطالبين بأموالهم بالتحلي بالواقعية, معترفا بأن المسألة مخيبة للآمال وتحتاج وقتا طويلا حتى تسوى!
الكلمة الأقوى والتي تستحق الاشادة فعلا هي كلمة ممثل قطر الذي اتهم جميع الدول الغربية بمساعدة الحكام الطغاة على اخفاء ثرواتهم, وطالبها بتعديل نظمها وتشريعاتها واجراءاتها لوقف هذا السلوك الدولي المشين.
لقد اعاد الرجل وكل المشاركين في المنتدى طرح قضية الأنظمة الغربية المصرفية والسياسية التي تحمي عن عمد مسروقات الحكام المستبدين الذين يسرقون ثروات شعوبهم ويودعونها في مستودعات ومخابىء تتوفر لها أعلى درجات الأمان والسرية الفنية والتشريعية, ثم تتباهى حكومات الغرب بعد ذلك بأنها تكافح الفساد. وهي صادقة بلا شك وكاذبة في أن واحد, لأنها تكافح الفساد في بلدانها بينما تشجع عليه في بلدان العالم الثالث الفقيرة, مثلما تتمسك بنظمها الديموقراطية, بينما تدعم الطغاة والديكتاتوريين في الوصول الى حكم الدول الفقيرة وتدعم بقاءهم في الحكم ما شاء لهم أن يبقوا طالما أنهم يقمعون شعوبهم وينهبون بلدانهم وينقلون ما ينهبون الى الغرب ليستثمر هناك.
سويسرا هي الأولى والنموذج الأشهر لهذه الازدواجية الصارخة. تتمتع من ناحية أولى بسمعة مثالية كدولة متحضرة ومحايدة بعيدة عن الصراعات الدولية. ولكنها من ناحية ثانية مثل الكاهن الفاسد الذي لا يتورع عن الاعتداء الجنسي على الأطفال. دولة احترفت المراباة, وسخرت مصارفها ونظمها لمساعدة اللصوص الذين ينهبون دولهم وشعوبهم لإخفاء مسروقاتهم وحمايتها وحمايتهم من أي ملاحقة, وصدق من وصفها بأنها (مستودع مسروقات العالم الثالث).. بل وغير الثالث!. إذ يستطيع كل وزير أو رئيس أو تاجر مخدرات أو سلاح في العالم إيداع ثروته في أحد المصارف السويسرية المشهورة، وهو مطمئن إلى أنه لا يوجد ما يهدد أو يفضح ما أخفاه في هذا المخبأ الآمن, لا أحكام القضاء ولا قرارات الحكومات, ولا نشاط التجسّس الاستخباري, فكل ما يدخل ويخرج في مصارف سويسرا، مضمون ومشمول بحماية شديدة الإحكام مجربة على مدى مئات السنين. وبإمكان اللصوص المودعين استعمال اسماء سرية, كما يستطيع من يرغب تغيير رقم حسابه أن يفعل ذلك باتصال هاتفي حيثما كان, هذا هو معنى سرية النظام المصرفي السويسري.
وربما يسأل سائل ماذا تستفيد سويسرا من نظامها المصرفي..؟! سؤال ساذج ولكن غالبية سكان الارض مخدوعون بشهرة سويسرا المثالية ولا يعرفون الاجابة على السؤال متصورين أنها تفعل ذلك هبة في سبيل الله وحسب! لكن سويسرا تجني الكثير جدا من هذا النظام الذي يشكل اساس اقتصادها القوي, إذ تستقبل مئات مليارات الدولارات كودائع تجبي منها فوائد عالية, وفي كثير من الاحيان تستولي على الودائع الطائلة, لأن مودعيها قد يموتون أو يقتلون أو يسجنون في أي لحظة من دون أن يستطيع ورثتهم استرداد المال الحرام فيتحول كسبا حلالا للمصرف وحكومة سويسرا! وهذا الاحتمال يحدث بكثرة فتكسب سويسرا عشرات المليارات بلا تعب ولا نصب من لصوص وطغاة قتلوا أو ماتوا أو سجنوا كحال القذافي ومبارك وبن علي. وتتشدد السلطات السويسرية إلى درجة التطرف في كشف ملفات واسرار زبائنها لا حماية لهم فقط بل طمعا في سرقة ودائعهم بكاملها كأنها تطبق مثلنا المأثور: السارق من السارق كالوارث من أبيه!
لم يستطع أحد أو جهة كسر ارادة النظام السويسري الماكر سوى مرة واحدة قامت بها القوة الوحيدة ذات النفوذ العالمي القاهر التي لا قدرة لسويسرا على مجابهتها, أعني اللوبي اليهودي العالمي بقيادة اسرائيل. قبل عشرين سنة فتح اليهود ملف ودائع ملايين اليهود الذين قتلوا في المانيا وغير المانيا خلال الحرب العالمية الثانية تاركين في بنوك الدولة الراقية ودائع مالية وذهبية فلكية.. وتذرعت سويسرا باستحالة العودة للتاريخ, واستحالة تسليم المال لغير الشخص نفسه أو ورثته, ولكن “اسرائيل” تتقن المراباة والابتزاز أكثر من السويسريين، فاستعانت بخبرتها وبسيف الولايات المتحدة، وكسرت أنف السويسريين، وأرغمتهم على فتح الملفات صاغرين ودفع مليارات الدولارات لـ”اسرائيل”!
أعتقد أن أمريكا التي اقترحت على عرب الربيع إنشاء المنتدى العربي لاسترداد الاموال التي اودعها الديكتاتوريون السابقون في سويسرا يشيرون عليهم بالاقتداء بالمثل اليهودي المذكور والبناء عليه.. فهل يستطيعون يا ترى؟! والاهم من هذا: هل يبدأ العالم بتغيير سلوكه وتشريعاته ونظمه لحرمان اللصوص الكبار من المخابىء والملاذات الآمنة لهم ولمسروقاتهم؟!