شمال غزة.. كان فلسطينياً عاد إلى أهله فلسطينياً
“المدارنت”..
بعض لقطات “الفيديو”، التي اختارتها «القدس العربي» لتمثيل عودة عشرات الآلاف من الفلسطينيين إلى شمال قطاع غزّة، تحتوي على عبارات مثل «لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية» و«ثبّتْ جذورك في التراب فأنت باقٍ هاهنا» كما تصوّر طفلة بجسد نحيل تخطو حافية القدمين وتحمل شقيقتها على ظهرها، أو تلتقط شباباً يرفعون علم فلسطين على طريق الرشيد في محور نتساريم ضمن المنطقة التي حرّم الاحتلال دخولها على الفلسطينيين طيلة شهور وشهور.
هي مشاهد ملحمية بامتياز تبدأ أولاً من طبيعة الحشود المصممة على العودة إلى الديار بعد 15 شهراً من التشبث بأرض غزة، جنوباً وشمالاً وفي كلّ شبر، كما تشمل النوم في العراء وتحدّي قرار الاحتلال بمنع العبور إلى الشمال خلال الساعات الأولى من سريان مفعول اتفاق التبادل ووقف إطلاق النار. ولا تنتهي عند أهازيج الفرح والكبرياء والروح الوطنية العالية التي تسامت على جراح غائرة وعذابات شديدة، وحرب إبادة جماعية وجرائم حرب لم يعرف التاريخ البشري مثيلاً لوحشيتها.
وهذه ملحمة انتصار لأبناء القطاع الذين صمدوا أمام قصف همجي دأب عليه الاحتلال منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وشمل المشافي والملاجئ والمخيمات ومراكز اللجوء والمدارس والمساجد والكنائس، فقضى منهم نحو 64,269 شهيداً حسب إحصاء مجلة «لانسيت» الطبية البريطانية عالية المصداقية. وأياً كانت نقاط الاتفاق والاختلاف مع خيارات المقاومة الفلسطينية في القطاع، فإنّ ملحمة العودة هذه تشكل إضافة نوعية كبرى ليس من الإنصاف التشكيك في قيمتها حاضراً ومستقبلاً.
وهي استطراداً هزيمة لأهداف حرب الإبادة التي أعلنها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وعلى رأسها تهجير أهالي غزة خارج القطاع وإطلاق نكبة جديدة وشتات مضاعف، وضمنها أيضاً ممارسة تطهير عرقي لا تخفى مراميه العنصرية والفاشية، بل لا يكترث الاحتلال أصلاً بتمويهها تحت هذه اللافتة أو تلك، ولم يغبْ عنها تعطش الكيان إلى الاستيطان والتوسع والعودة بالقطاع إلى ما قبل اضطرار أرييل شارون إلى الانسحاب نحو الغلاف.
وليس من دون مغزى أن يطلق إيتمار بن غفير تصريحات ندب وهجاء وتحريض إزاء مشاهد عودة الغزيين إلى الشمال، معتبراً أنها «جزء مهين آخر» من صفقة التبادل «الطائشة» وليس هذا هو «النصر التام» الذي قاتل من أجله جنود الاحتلال، بل هو «الاستسلام التام». صحيح أن بن غفير عوّد العالم على الترهات والخزعبلات، لكنه هذه المرة لم يجد مفراً من تسمية الأمور بمسمياتها الفعلية، كارهاً ذلك أغلب الظن.
كذلك فإنّ المشهد الملحمي لمسير مئات آلاف الفلسطينيين نحو ديارهم، التي هُجّروا منها قسراً مراراً وتكراراً، هو ردّ بليغ مبكر على تخرصات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول ترحيل سكان غزة إلى مصر والأردن، ليس فقط لأنّ المشروع أقرب إلى هذيان معلن على طريقة ضمّ كندا إلى الاتحاد الأمريكي، بل كذلك لأن شمال غزة كان يسمى فلسطين، وصار وسيظلّ يسمى فلسطين، على وتيرة اقتباس شهير من محمود درويش.