شهيق الحروف..!
خاص “المدارنت”..
بمحاذاة محكمة المدينة؛ يجْلسُ العمّ “عبد الله” على كُرْسيّ مُهْترئ، تآكلتْ أطرافه، وغاب لوْنُ قصَبِهِ الأصْفر…. المِخدّةُ الرّخْوَةُ في قعر الكُرْسِيّ؛ يستخدمها العمّ “عبد الله ” كقطعة طريّة، ترفع عنه آلام طول الجلوس أوْ آلامَ “البواسير”…سيّان…! أمَامَهُ توجد طاولة صغيرة؛ تشرّبَها الصّدأ… فتبرْقع لونُها وبدأتْ مادّتُها الأصلية؛ تتحوّلُ إلى قشور بُنّيةٍ؛ كثيراً ما تعْلَقُ بالأوراق المتواجدة على يمين وعلى شِمالِ الآلة الراقنة. تحت الطاولة؛ توجد مؤونة العمّ “عبد الله”: وِعاءُ كاظم الحرارة؛ يحفظ قهوة اليومِ كلِّهِ… عُلْبة بلاستيكية؛ متوسّطة الحَجْم، تحْرصُ زوْجتُهُ على مَلئِها بمَا تيسّر من الأكْلِ الخفيف… حبّاتُ بيْض مسلوق، حفنة زيتون، وقد تستبدل الوجبة بشيء من الأرز اللذيذ الذي تُزَيّنُهُ دائما بأوراق الغار… دُونَ أن تنْسى إضافة فطيرة أو فطيرتيْن – حسب الموجود – تلفُّهُما بعنايةٍ؛ في قطعة قماشٍ صغيرة، ناعمة.
عشرون عاماً والعمّ “عبد الله” يتعاطى هذه الحِرْفة… يُدبّرُ بها قوت عائلته على امتداد الأسبوع… يظلُّ يوم الرّاحة لديْهِ؛ هو يوم “الجمعة” أو فترات الأعياد الدينية والوطنية؛ حيث تكون المحكمة مُغْلَقة.
تعوّدَ النّاسُ عليْه… وتعوّد هو على هموم النّاس… وضعَ لهُمْ كُرْسِيّاً أحسَن حالاً من كُرْسيّه، إقتناه منْ محلٍّ لِبيْعِ الأثاثِ المُسْتَعْمَل…. يتناوَبُونَ على الكرْسيّ كُلّما قصَدهُ أحدهُمْ؛ من أجلِ كتابة طلَبٍ أو تحْرير رِسالة، أو تقْديم شكوى… وما أكثر أنواع الطّلَبَات…! أمّا الشكاوى فقد فاقت كلّ التّصوّرات…! دعاوى الطلاق والحضانة ومُنازعات الإرْث واعتداءات شباب المخدّرات وسط الأحياء الشعبية والسرقات وغير هذا كثير…
على أنغام الآلة الراقنة…
أصابعُ طويلة، نحيلة، حفظتْ أماكن الحروف… فكأنّها تتراقص فوق الخانات بانسيابية لافتة، صوتُ ضغط الأصابع على الآلة الراقنة؛ يسكنُ أذُنَيْ العمّ “عبدالله”؛ يسْتَشْعِرُهُ نغَماً فريداً؛ يُلازِمه حتّى وهو في البيت…يَفْرِكُ أُذُنَيْهِ وكأنّه يأْبى أن يختلط ذلك النغم بضجيج أهل الدّار… العلاقة الوشيجة التي ترْبطه بهذه الآلة؛ جعلتْهُ مُدْركاً لِخباياها، عالِماً بمُكوّناتها الدقيقة وجزئياتها؛ حتّى أصبح هو منْ يُصْلِحُها كلّما أصابها عُطْلٌ ما؛ مهما كلّفَهُ ذلك من السّاعات… يتفقّدُ خانات الحروف حرْفاً حرْفاً، يمسح ما علق بيْنَها من الغبار بريشة ناعمة؛ يحتفظ بها منذ سنوات مع أشيائه الأخرى داخل محفظة جلدية قديمة؛ تعود لأكبر أبنائه الذي توفي عرض البحر في قوارب الهجرة؛ صُحبة جماعة مِنْ شباب الحيّ.
نحيبُ الورق…
كانا خارجيْنِ من المحكمة؛ بعد أصبوحة ضاجّة، قضَيَاها بيْن المُرَافعات وبيْن مكاتب الإجْراءات؛ حين سمعا صوتَ ارتطامٍ قويٍّ، مصدره الشارع… هرْولا إلى المكان ووراءَهُما جمعٌ كبير ممن سمعوا الصوت… عقدَ المشْهَدُ الألْسِنة… أوراق متطايرة في الهواء.. بقايا آلة راقنة مُبَعْثرة هُنا وهناك…قهوة جارية على الطريق بعد أن تحطّم وعاء كاظم الحرارة… رغيف خبز اختلط بالتراب… طاولة عجنها الارتطام… مِخَدّة تناثر صوفها فوق شُجيْراتٍ تُحيط بالمحكة…. أصواتُ المارّة تعلو: “يا لطيف! يا لطيف! يا الله.. أين العمّ عبد الله…أين…؟” عيونٌ زائِغة، لا تستقرُّ على شيْء… ينْظر “هاشم” إلى “عبد الودود” وكأنهما يتساءلان عن مصير الرّجل… يلحق بهما القاضي “معاذ ” ثم القاضية “حكيمة” ومساعِدتها السّيدة “نجاة”…. تتدخل الشرطة لِفكِّ الاخْتِناق المروري بعد أن وصَل الإسْعاف. سائق ُمتهوّر في حال سُكْر؛ يتسبّبُ في كل هذا الهلع… يحكي شهود عيان؛ أنّهم رأوا السائق يسوق بسرعة جنونية، ثمّ انفلت منه التّحكّم في السيارة فقفز فوق الرّصيف وارتطم بالحائط الخلفي ِلمُلْحَق المحْكمَة. ويحْكي شاهدٌ أنه رأى العمّ “عبد الله” قبل الحادث ببضع دقائق؛ يُساعدُ مكفوفاً على اجتياز الطريق؛ بعد أن ترك أحد زبائنه إلى جانب طاولة الكتابة، وأوصاه بالانتظار قليلاً ريثما يوصِلُ المكفوف إلى الوِجْهة الآِمنة…
ومع القدَر…لا ينْفعُ الحَذرُ…
عندما رأى الزّبونُ انزلاق السيارة فوق الرصيف؛ جرى – دون تفكير- في اتّجاه الحائط؛ لكن قبل أن يصل؛ دهستْهُ السيارة وارتطمت بالحائط، ولم يعُدْ بالإمْكان رؤية شيء؛ سوى الدماء المرشوشة هنا وهناك… صُرِعَ الزّبون… ونجا العمّ “عبد الله”…! إلّا أنّهُ ورغم نجاته؛ سيظلُّ أيّاماً تحت وقْعِ الصّدْمة.. كان يبكي حظَّ الزّبون “رشيد” الذي تعرّف عليْه منذ سنة؛ حين قصده لكتابة شكوى من أجل مُلاحَقة حقٍّ مسلوب.. جمعتْهُما أُلْفة جميلة؛ جعلتْهما يتشاركان قهوة العمّ “عبد الله” كلما سنحت الفرصة باللقاء. “رشيد” عامل بسيط في ورشة تلحيم الأنابيب لدى أحد الخواصّ، قضى أكثر من نصف عمره في جمْع النفايات والمُخلَّفات داخل أكياس كبيرة، ثم حمْلها إلى داخل شاحنة الورشة؛ حيث يتولى السائق توصيلها إلى ورشة أخرى للرّسْكَلة. تمضي السنوات و”رشيد” بين النفايات؛ سعيدٌ بعمله؛ إلى أن توفي الحاج “صالح”؛ صاحب الورشة…. خلَفَهُ أحد أبنائه مِنْ زوْجَتِه الأولى… تغيّرَالنّظامُ القديم… وتغيرتِ المُعاملة مع العُمّال…. وكأنّ الوافد الجديد؛ أراد أن يتخلّص من كل الوجوه القديمة؛ فبدأ يفتعل الأسباب ويُمارس ما تنوّعَ من الضغوطات؛ حتّى وصل الحال بالعمال إلى المُجابَهة؛ ثم الاحتجاج؛ وهو ما سيزيد من عناد صاحب الورشة؛ فيبدأ في اقتطاع أجرة أيامٍ من الرّواتب…. وقدْ يلجأ إلى درجة الطرد من العمل؛ دون تقديم تعويضات؛ في الوقت الذي كان فيه الحاج “صالح” يربت على كتف العامل المريض؛ ولا يمسُّ فِلْساً من راتبه؛ بلْ يُرْسِل إليْه ما تيسّرَ من المُساعَدَات…. فِعْلاً…. شتّان بين هذا وذاك…! غادر “رشيد” الورشة بعد أن اشتدّت العداوة بيْنه وبيْن مرْؤوسِه؛ ولسُوءِ حظه؛ كانت المُغادَرة خِلالَ فترة صَبِّ الرّواتب. طالبَ بحَقّه، تشاجر مع المُحاسِب، بلغ صُراخُه الطابقَ العُلْوي حيْث المكتب الرئيسي لصاحب الورشة، ليجد نفسَهُ في الأخير بين أيدي حَارِسيْ أمْنٍ؛ يجُرّانِه خارج المكان… عاد في اليوم الثاني للمطالَبة بحقّه، أبْلغَه الحارس – وهو يتأسّف – أن صاحبَ الورْشة غادر لقضاء العطلة مع أولاده في بلاد أجنبية. اكتفى “رشيد” بالتعليق: ” لن أترُكَ حَقّي للُّصوص…” يومَها تعرّف على العمّ “عبد الله” ؛ أشهَرُ كاتب على الآلة الرّاقنة في المدينة….. أفْضى إليْه بما يشْغَلُهُ…. طمْأنَهُ العمّ “عبد الله” بِاسْتعراضِ تجاربَ مُماثلة، طال على أصْحابها الأمَد؛ ولكنهم في الأخير؛ رَبِحوا حُقوقهمْ فارْتاحتْ قلوبُهُمْ…
نورُ الجبّة السوداء…
عندما نصحه العمّ “عبد الله” بتوكيلِ المحامي “هاشم”؛ تردّد “رشيد” في البداية، ثم رضخ في الأخير خاصة لمّا عَلِم بأنّ هذا المحامي؛ يُنْعَتُ بأنّه “مُحامِي المُسْتضعَفين” وأنه يكتفي بمبلغ زهيد تّجاهَ أتْعابه؛ بلْ وقدْ يستغني عن أخذ الأتعاب تماماً؛ حسب أحْوال ُموَكّلِه. عُرِف في المدينة كلّها بالسِّيرة العَطِرة…. كان نبيلاً، شهْماً، مُحْسِناً، مُسْتَجيباً لِمنْ دعاه، متواضعا تحْت جُبّته السَّوْداء، لا يهُمُّهُ سوى تأدية الرّسالة التي اعْتبرَها دوْماً نُوراً يُثَبّتُ ميزان العدالة في دهاليز الظلم الإنْساني بعديد أشكاله…. شاركَهُ زميله في المهنة؛ وصديقُه في الآنِ ذاته؛ نفس الأخلاق العالية؛ إنّه “عبْد الودود” الذي أحبّهُ كلُّ مَنْ تعرّف عليْه… يدْخُلانِ تِباعاً؛ قاعة المرافعات بالجُبّتيْن السّوْدَاوَتيْنِ وفي ضَميرِ كلٍّ واحدٍ منْهما؛ نُصْرة المظلوم ليْس إلّا. كانا يُلْقِيان التحية على العمّ “عبد الله” وهما في طريقهما إلى مرآب السيارات ويستغلّ العمّ “عبد الله” اللحظة القصيرة؛ للسؤال عن قضايا بعض زبائنِه المُقرّبين – فهُوَ مَنْ كتَبَ الشكاوى لهمْ – أصْبح يحْمِلُ همّهُمْ؛ ويستعْجلُ أنْباء الفرَج وتباشير الفرح… إنها أنوار الإنسانية الأخرى… تشِعُّ مهْما كانت الدّهاليزُ مُظْلِمة…. يكتفيان بابتسامة الواثق ويُتابعان سيْرهما…
مثْلَما كان العمّ “عبد الله” يبكي حظ الزبون والصّديق “رشيد ” الذي لمْ يمُرْ وقتٌ طويل على فوْزه بالقضية… كان يبكي حظه العاثر الذي أفقدَه مصدر رزقه: الآلة الراقنة… الخسارة كبيرة… يُضافُ إلى ذلك الشعور بالذّنْب؛ وهو ما أتْلف ما تبقّى منْ أعصابه… فكثيرا ما كان يُردّد جهْرا وسرّاً: ” لماذا طلبتُ من الرّجل أن يظلّ إلى جانب الطاولة… لماذا…؟ لماذا…؟ ساعدتُ إنسانا وتسبّبْتُ في موْتِ آخر…!! ” تُحاولُ زوْجتُهُ ُموَاساته فتُكرّر: ” لا تلُمْ نفسَكَ يا رَجُل… أجلُهُ أخذَهُ…. لا دخْلَ لكَ في تحْديد ساعة موْته…”.
ينْتبهُ المُحاِميانِ الشّابّانِ إلى طولِ غياب العمّ “عبد الله”، فيلْجآنِ إلى الاسْتفْسار عن أمْرهِ… يعْلمانِ سُوءَ حاله، فيهْرعانِ لتقْديمِ ما ُيمْكِنُ من المُساعَدة : يُحْضِرانِ آلةً راقنةً جديدة، وطاولةً وكُرْسييْن رَفيعيْنِ، وحُزْمة أوراق بيضاء، ثمّ يمْنَحانِهِ مبْلَغاً مالياً؛ لسَدِّ بعض حاجاته. يدبُّ الأملُ من جديد… تبدأ الأصابع الطويلة في ُمداعبَة الحُروف… يسْتبشرُ أصْحابُ الشكاوى بعوْدةِ العمّ “عبد الله” إلى حِرْفتِه….
شكوى النّزيف…
تفاجأ العمّ “عبد الله” هذا الصباح ِمنْ تواجُدِ زبونٍ صَغير؛ ينْتظرُ دوْرهُ مع المُنْتظِرين… “عدنان”، التلميذ النجيب بإحدى المدارس الحكومية الرائدة؛ يتقدّم بخطواتٍ واثقة بعد أن حان دورُهُ… يُقَدّمُ دَفْتَراً أنيقاً مكتوباً بخطّ اليد إلى العمّ، يطلُبُ منه إعادة كتابة مُحْتَواهُ بالآلة الرّاقنة…. قبل أن يتصفّحَ العمُّ “عبد الله” الدّفتر؛ يسْأل بِاسْتغرابٍ الزبونَ الصّغيرَ: ” ما هذا يا بنيّ؟ ” يُمرِّرُ “عدنان” أصابعه الرّقيقة على جبينِهِ؛ يتأمّلُ الدّفترَ وهو بيْن يديْ العمّ؛ ثمَّ يجيبُ بصوتٍ مُنْخفض؛ وكأنّه لا يودُّ أن يسمَعَهُ أحدٌ من المُتواجِدين:” كلّفَتْنا أستاذتُنا “نصيرة” بضرورة عرْضِ نشاطٍ إبْداعي جماعي؛ تزامُناً مع اقتراب نهاية الموسم الدّراسي، فاتفقْتُ مع بعْضٍ مِنْ زُملائي على أن يكون نشاطُنا عبارة عن نصٍّ مكتوب بالآلة الرّاقنة، وبعد كتابته؛ سنُصوّرُ نُسَخاً منه؛ نُوزِّعُها على الحاضرين يوم عرْض نشاطاتِنا…” ابْتَسَمَ العمّ “عبد الله” وهو يُعَقِّبُ على طلبِ الزّبونِ الصّغير:” إعادة كتابة كل هذه الصفحات؛ يتطلّبُ الكثير من الوقت… ها أنت ترى طابور أصحاب الشكاوى… لا أستطيع تلبية طلبِكَ يا بُنيّ.” بِرَجاءٍ عظيمٍ وحمَاسٍ كبير؛ أوْضحَ الزَّبونُ الصّغير؛ أنه سيترُك الدّفترَ للعمّ لمُدّة أسبوعٍ أو أكثرَ، وأنّهُ باستطاعتِهِ أن يكتبَ وهو في بيْته أثناءَ العوْدة مَساءً… هزَّ العمُّ “عبدالله” رأْسَهُ اسْتِحْساناً للفِكرة وهو يُقلّبُ صفحات الدّفتر دون أن يُركِّزَ على المكتوب، ثمَّ اقترح على الصّغير أنْ يتفقّدَهُ بعْد أسْبوعٍ كاملٍ. ابْتهَج “عدْنان” وغادرَ المكانَ وفي مُخيِّلتِه أشْياء وأشيَاء….
ليْلاً؛ يحْتسي العمّ “عبْد الله” شايَهُ المُعْتاد، ويُجَهِّزُ آلتَهُ لنقْلِ ما في الدّفْتر… تعْظُمُ دَهْشَتُهُ وهو يقرأ الخطوط الأولى…. يُبْعِد أصابعَه ُعن الآلة، ويُتابعُ القراءة… يتملّكُهُ شعور مُفاجئ، يتصاعدُ التّشويق… يتزايَدُ الانْبِهار… يُغادِرُ الكُرْسِي ويَتمدّدُ على لِحَافٍ صُوفِي وأمامَ عيْنَيْه؛ تشهَقُ الحُروف شهْقَتَها الأخرى… يقرأ…. ويقرأ….:
بينَ ذرّاتِ التُّراب وحُبيْباتِ الحصى البيْضاء، بيْن توْقيعاتِ الرّياح وتجاوِيفِ الصّخْر، بيْن تسبيحات النُّجوم وهُتافاتِ النّسَمات…. على كل ورَقة شجَر، ومع كلِّ حكاية فجْر، أبُثُّكَ شكوايَ جدّي..! أعْرِفُ أنّ رُوحَكَ الطاهرة كانتْ تُحلِّق في سماءِ بيْتنا القديم؛ يوْمَ أنْ كان لنا بيْت…! نحنُ في العَراء جدّي… ومع ذلك؛ نسْتشعِرُ رُوحَكَ في هذا العَراء تطوفُ بِرُؤوسِنا، تُقَوِّينا، ترْحلُ معنا فوق ألواحِ الشّتات؛ لِتنْقشَ لحظات الموت بعطر الدّم المهراق… أبُثُّكَ شكْواي يا جدّي بعد أن ضاقتْ بيَّ السُّبُل…. بعْد أن ضاع منّي كل شيء في الوقت الذي أصبحْتُ فيه “أنا” كلّ شيء…! في كل زاوية يا جدّي؛ تتناسَلُ مُوسيقى جنائزِية؛ تعْبُرُ إلى تُخومِ الروح الهاربة مِنْ شظايا المشهَد الرّهيب….. أتْرابي… يا جدّي؛ نهشتْ أجسادَهُم الطرية مخالبُ كلابٍ مسعورة… أتْرابي قطّعَ أوْصالَهُمْ منْشارُ الحِقْد الأعْمى… فقدوا الرِّجْل، فقدوا اليَد، الوُجوهُ مُشوّهة…. الأضلاعُ مُهشّمة، الحروقُ شبِعَتْ من الجلود، النّدوبُ أوْجعتِ القلوب…. أبُثُّـــكَ شكواي يا جدّي… منذ مدّة؛ قتلوا والدي، اعْتقلوا إخوتي، اليوم؛ فجّروا رأس أمّي وهي تسِيرُ بيْن الخراب، كانتْ تحْمل كيساً من الرَّغيف لِنِسْوَةٍ ثكالى؛ احترقتْ أكبادُهُنّ أمام أغلفة بلاستيكية؛ حَوتْ جثامينَ أبْنائِهِنّ…. لم تعدْ لهُنّ رغبة لا في الطعام ولا في الحياة…. اكتفيْنَ بالإنزواء والشكوى إلى:”الله” … الأنقاضُ يا جدّي؛ تسْتغيث…. تصْرخ… حُبْلى بأشلاء العِباد، المَخاضُ يشتدّ…. رِفاقٌ فوق الأرض؛ يُحاولون الدخول تحْت الأرْض، يعلو الصراخ، تلفظُ الأنقاضُ بعْضا من الأشْلاء، ويظلُّ المَخاضُ يأكلُ الأنقاض….! ويظلُّ الرّفاقُ في بحْثٍ مُتعاقب عنْ بقايا… رفاق….!
أبُثـكَ شكواي جدّي…. مساميرُ الغصّة تنْدكُّ في حلْقي…. أبْحَثُ عن بلدي داخل بلدي…أبْحث عن رائحة أمّي، عن مِسْبحة أبي، عنْ أحلام إخْوتي…. أبحث عن شجرة الزيتون يا جدّي…نهبوا ميراثي… صادروا طفولتي… طمسوا بريق الحياة في صدري… ولكنّهمْ لا يعلمون يا جدّي؛ أنَّهُمْ لن يتخلّصوا منّي…! أنا الصغير…. سأرْميهم بالطّوب، بالرّمل، بِلَعْنَة الأنْقاض، بهدير الرّعْدِ، بأشباح الليل، سأسْكُنُهُم ولن يعرفوا مكاني… سأعيش بداخِلِهِمْ؛ أزْرَعُ بذور الخوف في جُبٍّ أوْهامِهِمْ… أجدّدُ فتيلَ الحريق في عُقْر صدورِهِمْ… أُطْفئُ السّراج في أدْغال أحلامِهِم…
قتلوني ألف مرّة؛ يا جدّي…. ولم يهْزِموني… أتمسّكُ بأرْضي… بصوامعي… بقداسة المكان… بشهادة التاريخ… بحَكايا الثوار البواسل، بأهازيج ليالي النصر القادم…. أبثُّكَ شكواي يا جدّي…. أجفِّفُ دمْعي بين قبور أحِبّائي، وعلى كلّ شاهدة قبر؛ أكتب كلمتي الأخيرة: ” أنا على العهْد… باقٍ … يا جدّي…”.
إمضاء: عدنان الجزائري على لسان “طارق” الغزاوي.
لم يكنْ بالمُسْتطاع نسيان هذه الشكوى؛ فقد أثّرتْ في العمّ “عبد الله”؛ إلى درجة أنّه احتفظ بنسخة منها بعد أن سلّم النسخة الأصلية للزبون الصّغير…. كان الحفل بهيجاً؛ تعانقت فيه الأعْلام…. واتّحدتْ فيه الأحلام…. ونجحت الأستاذة “نصيرة” في غرس القضية الفلسطينية في عقول تلاميذها وهي تُعْلِنُ الفوز الكامل لفريق “عدنان” بالميدالية الشرفية أمام جمهور غفير؛ كان من بين الحاضرين فيه؛ القاضية؛ “حكيمة” باعتبارها الصديقة المقرّبةُ للأستاذة “نصيرة.” وكانتِ المفاجأة الأكبر؛ دخول العمّ “عبد الله” ومعه المحاميان: “هاشم” و”عبد الودود” بعد أن دعاهُما العمُّ لمُرافقتِه؛ إثْر حصوله على إذْنٍ خاص من مديرة المؤسّسة التّرْبوية…. تكلّفَ ثلاثتهم؛ بإلصاق مجموعة من نُسخِ “شكوى النّزيف” على جدران القاعة والساحة… ووزّعوا قُمْصاناً بألوان وطنية وأخرى فلسطينية على الفريق الفائز…