تربية وثقافة

ظاهرة الأضداد في اللغة العربية..

فاروق حمّود/ لبنان

خاص “المدارنت”..

ألـِفنا منذ سنوات الدّراسة الاولى، الإبتدائيّة (الأساسيّة)، سؤالا يطرحهُ اساتذتنا في الامتحانات يقول: ما هي أضّداد الكلمات الآتية؟. سؤال تعلق بمفردات تتعاكس في اللفظ والمعنى، كالخير والشر، الظلمة والنور، قصير وطويل، فوق وتحت وغيرها، لكن ما يجب معرفته أن علماءنا تداولوا معنىً آخر للأضداد، وهو اللفظ الواحد المستعمل في معنيين متضادين، أيّ  كلمة واحدة تستعمل في معنيين متعاكسين، ككلمة “الظن” الـّتي تستعمل لليقين أو للشكّ .

تـُعتبر ظاهرة الأضّداد لونـًا منْ ألوان المشترك اللفظي، الـّذي يسهم في إثراء اللغة العربيّة بالمعاني. وقد تناول هذه الظاهرة، الموجودة في أغلب اللغات، عددٌ غير قليل ٍمن القدماء والمحدثين، وافق بعضهم على وجود هذه الظاهرة ورفضها الآخر، منهم ابن الأنباري (328 هـ)، وابن درستويه (374 هـ)، والأصمعي (216 هـ)، وتاج الدين الأرموي (653 هـ) وغيرهم. فما هي هذه الظاهرة وأسباب ظهورها؟ وما هي أدلة المنكرين والمثبتين لوجودها؟ وهل وردت في القرآن الكريم؟

اختلف العلماءُ في وجود هذا النوع من المشترك اللفظي، كما هو الحال في مجمل أنواع المشترك. فابن درستويه الذي ألف كتابا في اِبطال الأضداد، يرى أن “اللغة موضوعة للإبانة عن المعاني، فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على معنيين مختلفين، أو احدهما ضد الآخر لما كان إبانة، بل تعمية وتغطية، فالمعنى يحمل نقيضه، ولكن قد يجيء الشيء النادر من هذه العلل”.

كما يرى الأرموي: “إن النقيضين لا يوضع لهما لفظ واحد، لأن المشترك يجب فيه إفادة التردد بين معنييه، والتردد في النقيضين حاصل بالذات لا من اللفظ”، وعدَّ وجود هذه الظاهرة نقصًا في العرب ولغتهم. خلاصة ذلك، أنّ الاضّداد الناتجة عن معنيين متعاكسين في قوالب لفظية مختلفة، لا جدال فيه، أما أن يحمل اللفظ الواحد بذاته معنيين متناقضين فهو المرفوض، وهذا موقف المنكرين.

أما ابن الأنباري، فيرى “إن كلام العرب يُصححُ بعضه بعضًا، ويرتبط أوله بآخره، فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين، لأنه يتقدمها ويأتي بعدها  ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر “. وأكد ذلك السيوطي في “المزهر”، فقال: “مفهوما اللفظ المشترك، إما أن يتباينا، بأن لا يمكن اجتماعهما على شيء واحد كالحيض والطهر، مدلولا القرء، ولا يجوز اجتماعهما على الشيء في زمن واحد”. وخلاصة ذلك، أن اللفظ يحمل معنيين متناقضين وفاق السّياق النّصي الوارد قبله وبعده، والذي يسهم في إبانة المعنى المطلوب، شرط أن لا يجتمع المعنيين في زمن واحد .

يمكننا أن نرد هذا الإختلاف بين المنكرين والمثبتين، إلى أسباب نشوء هذه الظاهرة، فأورد بعض العلماء اسبابا منها:

– اختلاف لهجات العرب  فكلمة “الجون” تدل على الأبيض في حي من أحياء العرب، وتدل على الأسود في حيّ آخر .

– اقتراض العرب لبعض ألفاظهم من اللغات المجاورة، فكلمة “جلل” المأخوذة من العبرية، ومعناها “دحرج”، والمدحرج يكون ثقيلا أو خفيفا، فاعتمدت العرب على هذين الإيحاءين، وأعطت اللفظ معنيين متضادين هما: عظيم وحقير.

– الإبهام الذي يعدّه البعض سببا في التضاد، فكلمة “الصريم” التي تطلق على الليل والنهار، لانصرام كل منهما عن صاحبه. أو كلمة “حلـَّق” بمعنى انخفض وارتفع، فيرى ألو حاتم أن “العرب تقول: حلَّق الماء في البئر أي غار وسفل”. ونقول حلَّق الطائر أي ارتفع، فأصل المعنى هو الابتعاد، وسياق النص هو الذي منح اللفظ المعنى المختلف في كل جملة .

– أضف إلى ذلك، أسباب اجتماعية ارتبطت بالتفاؤل كتسمية الجماعة المسافرة بـ”القافلة” تفاؤلا بعودتها، أو التشاؤم، كتسمية “الأسود بالأبيض” تشاؤما من النطق بالأسود.

من هنا، نجد أن نشوء الإختلاف في ظاهرة الأضداد في اللغة العربية، يرتبط أساسا في الأسباب التي أدت إلى ظهورها، من اختلاف اللهجات، أو الاقتراض من اللغات المجاورة، أو لأسباب إجتماعية وغيرها.

بما أن  القرآن الكريم، المُعجِزُ في صياغته، هو مصدر أساسي لإستقراء تحولات الألفاظ وتراكيبها، وبما أنه جاء بلهجات العرب، فيكون السؤال هل وردت الأضداد في النص القرآني؟

كان الدافع الذي حفز اللغويين على الإهتمام في ظاهرة الأضداد، هو ورود بعضها في النص القرآني، لاسيما “الظن” بمعنى الشك واليقين، فقد يظن من لا يعرف العربية، أن الله تعالى يمدح الشاكّين به في قوله عزّ وجلّ، “إِنّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعينَ الذينَ يظنونَ…”، (البقرة 46)، فالمعنى هنا المستيقنون، أو في استعمال الفعل “أسرّ” في معنيين: الأول، في قوله تعالى “وأسَرُّوا الندَامَةَ لمّا رَأوا العذابَ “(يونس 54)، أي أظهروا، والثاني، في قوله “سواءُ منكم، منْ أسرَّ القولَ، أوْ جهرَ بهِ”، (الرعد 10)، بمعنى أخفى. وغيرها من الألفاظ، مثال “عسعس”، و”أشترى”، وقد أورد ابن الأنباري مئات الألفاظ، منها في ( كتاب الأضداد).

إن ورود الأضداد في النص القرآني المعجز بلغته، المنزل بلهجات العرب، خير دليل على وجود هذه الظاهرة، واختلاف المعاني في اللفظ الواحد، مفهوم من خلال سياق النص، الذي يبيّن المعنى في كل موقع.

خلاصة القول، إن اللغة العربية حفلت بالكلمات الأضداد: الناهل للشارب والعطشان، الصارخ للمغيث والمستغيث، البين للفراق والوصل، الطرب للفرح والحزن، الفأل للخير والشر، وغيرها. واختلف العلماء في انكارها واثباتها، فأخرجوا النفائس من مخابئ هذه اللغة، ما زادها روعة واتساعا ومرونة، وأكثر من ذلك، لقد أظهرت هذه الدقة اللغوية، اتصالها بواقع الحياة والمجتمع، وجاءت مطواعة للتعبير عن مواقف الحياة، في حين تعجز أغلب اللغات، إن لم يكن كلّها عن هذا.

=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى