مقالات

عام على “الطوفان”.. معجزة “المقاومة”..!

د. مخلص الصيادي/ دُبيّ

“المدارنت”.. مضى عام بالتمام على إطلاق عملية “طوفان الأقصى” المباركة”، واستحقت العملية اسمها الذي أطلق عليها، وكأن من أطلق هذا الاسم وأراده عنوانًا لها، كان يقرأ المستقبل، لقد غيرت العملية وجه المنطقة، وأحدثت تفاعلات جذرية لن تتوقف حتى يكون لمنطقة المشرق العربي وجه جديد، ليس فقط فيما يتصل بالكيان الصهيوني فحسب وإنما لكل معالم المنطقة، ونظمها، وأفكارها، وقيمها.
ولست متيقنا ما إذا كان العقل المجاهد الذي أطلق هذه العملية، كان يدرك أبعادها على النحو الذي اتضحت خلال عام من المعارك المستمرة، أو كان يدرك مداها وإمكانية أن تستمر حتى تجتاز عامها الأول، فهذا أمر غير مسبوق في عالم الحروب التي يقابل فيها نفر قليل من المجاهدين، حشدًا من القوى العظمى والقوى الإقليمية، من دون أن يكون له ظهير من دول أو تحالف دولي أو إقليمي يشاركه، أو يمده بمدد لا ينقطع من الدعم المادي والتسليحي والإنساني، ومن دون أن يكون له منفذ حرّ يستطيع من خلاله أن يتواصل مع العالم الخارجي، بل إن ما كان حينه من حسابات توفر الدعم الإقليمي من خلال شعار “وحدة الساحات”، الذي يفترض أن يجمع ما عرف بـ”محور المقاومة” في سلك عملياتي واحد، ظهر أنه كان “مجرد شعار”، وأنه حين أراد أن يكشف عن فاعليته بعد حين من الزمن، تحول إلى “ساحات إسناد”، كان أثرها ضعيفا، ولم تستطع أن تغير من الاتجاه الرئيسي للعمليات العسكرية للعدو الصهيوني.
لكن مما لا شك فيه أن هذا العقل المجاهد أعد للمعركة عدتها، رجالا وتسليحا وأمنا وخططا وساحة عمليات، وأعطاها مدى قد يتجاوز الشهور الثمانية، ويمكن اعتبار هذا تصورا وتخطيطا وإعدادا كافيا، بل وأكثر من ذلك، لكن في إطار ومعاني شعار “وحدة الساحات”، وهو ما لم يتحقق، ومع ذلك حقق المجاهدون في خضم عملية “طوفان الأقصى”، معجزات لم تكن في الحسبان، ويكفي منها هذا الصمود الأسطوري، وهذه الخسائر في قوات العدو التي لم تتوقف، وهذا العجز الذي بدت عليه قوات العدو حينما لم تستطع أن تحقق أيا من الأهداف الثلاثة التي أعلنتها في بداية عدوانها وجعلتها مبررا لهذا العدوان وهي:
1/ الوصول إلى “الأسرى” وتحريرهم.
2/ القضاء على “حماس” وتصفية المقاومة وقتل وأسر رجالاتها.
3/ ضمان ألا يمثل القطاع مستقبلا تهديدا للكيان.
بل إن قوات العدوان بكل ما تلقاه من دعم، عجزت عن الوصول إلى أيّ من الأسرى، أو إلى أي من قادة المجاهدين، ووقفت عاجزة أمام معجزة “الأنفاق” التي كشفت عن عبقرية عسكرية، وعمل دؤوب ومستمر لسنوات طويلة، وعن عجز بين وفضيحة لمخابرات العدو وحلفائه الذين لم يستطيعوا أن يستشعروا شيئا مما كان يعد لهذه العملية في مختلف أنحاء غزة، فوق الأرض وتحت الأرض، على مدى سنوات متتالية.
وجاء الفشل رباعي الأبعاد، الفشل في اكتشاف الإعداد للعملية، والفشل في تحقيق أي من الأغراض المعلنة للعدوان، والفشل في التغطية على الجرائم التي ارتكبتها قواته، وأثارت الضمير العالمي حتى باتت الصهيونية وكيانها وللمرة الأولى في موقع المدان، وبات قادتها متهمين أما المحاكم الدولية بارتكاب جرائم حرب، ومطلوب القبض عليهم. والفشل في السيطرة الأمنية والعسكرية الحقيقية على القطاع.
إن هذا الصورة العامة لعملية “طوفان الأقصى” تستدعي منا الوقوف على بعض تفاصيلها المهمة، والتي تزيدنا تفهما وتقديرا لمسار عام من الجهاد والصراع غير مسبوق:
1/ في موازين القوى لا مجال للمقارنة بين ما كانت تملكه القوى المجاهدة من سلاح وذخيرة وإمكانات، ومن دعم سياسي ومعنوي، وبين ما كان يملكه العدو، وما ملكه من خلال عمليات الدعم السريع التي لم تتوقف للأسلحة والذخائر العادية والنوعية، والمعلومات الاستخبارية متعددة المصادر، وسيل المرتزقة الذين حضروا من كل حدب وصوب، إضافة إلى الجيوش البحرية الجرارة التي وقفت تحرس شواطئ الكيان موفرة كل أنواع الدعم والحماية، فيما كانت “ديبلوماسية” دول الغرب الصهيوني تعطل كل محاولات المنظمات الدولية لمواجهة ما يرتكبه هذا العدو من جرائم ومذابح وعمليات إبادة وتهجير وتدمير يدينها القانون الدولي.
وكانت هذه الدول المعتدية تحاصر بكل قوة وجهد كل مظاهر الدعم الإنساني والمعنوي التي تحركت في مختلف دول العالم تدين الجرائم التي يرتكبها العدو الصهيوني، بل وعملت هذه الدول والدول الإقليمية التابعة لها في منطقتنا على تحريم أي تعاطف، أو تفاعل، مع الشعب الفلسطيني في محنته الراهنة، ووصل الأمر إلى تجريم إظهار هذا التعاطف، ومنع كل مظاهره، حتى ولو اقتصرت هذه المظاهر على ارتداء “الكوفية” الفلسطينية، في مدرجات الجامعة، أو في مدرجات الملاعب الرياضية، أو حتى في الشارع العام. ووصل حدود القمع إلى حد الاعتقال والفصل من العمل، وسحب الجنسية، بل إن دولا بعينها مثل المانيا جعلت الاعتراف بالكيان الصهيوني شرطا من شروط الحصول على الجنسية لطالبيها. ولم يقتصر هذا العسف تجاه التحرك الجماهيري على بلدان الغرب الاستعماري الصهيوني، وإنما امتد إلى العديد من الدول العربية.
2/ على مدى العام المنصرم وبدعوى الرد على طوفان الأقصى وما نتج عنه من قتل 1538 إسرائيليا وأجنبيا، من بينهم 286 ضابطا وجنديا و764 مدنيا وأسر 248 تلقى قطاع غزة، الذي لا تزيد مساحته عن 365 كيلو متر مربع بطول 41 كيلو متر وعرض يتراوح بين 6 ـ 12 كيلو متر. ويسكنه 2،3 مليون نسمة، تلقى هجوما من قوات العدو بمختلف أنواع الأسلحة جوا وبحرا وبرا، ومنذ اللحظة الأولى تبين أن العدو لا يقصد الوصول إلى “الأسرى”، ولا مجرد مواجهة المجاهدين، وإنما كان يهدف إلى تحقيق ثلاثة أغراض تمثل مجتمعة رؤية العدو للقطاع وللمنطقة في الأيام المقبلة:
فقد كان يستهدف تدمير القطاع باعتباره وجودا حضريا، وقتل وإبادة الشعب الفلسطيني في غزة طريقا لتهجير الفلسطينيين وإخلاء القطاع من أهله. وتعطيل التوصل الى أي اتفاق لوقف القتال، إلى حين انجاز الهدفين الأولين.
لذلك وعلى خلاف ما كان يُعلن إعلاميا لم يكن يعنيه بكثير أو قليل موضوع الأسرى، فالتوراة وهي مرجع “الصهيونية الدينية” تقدم من خلال ” توجيه أو بروتوكول هانيبال” الذي ينص على أن ” جندي قتيل خير من جندي أسير” تبريرا للتخلي عن الأسرى.
وشهدت الضفة الغربية ـ حيث من المفروض أن هناك سلطة فلسطينيةـ، والقدس المحتلة فصلا من العتو الصهيوني غير مسبوق أيضا، حيث استشهد برصاص قوات العدو، وقطعان المستوطنين، خلال عام من طوفان الأقصى أكثر من 550 فلسطينيا، تسعون في المئة منهم مدنيون، وربع الشهداء من الأطفال، وأصيب أكثر من 5200 فلسطيني، واعتقلت قوات الاحتلال 9 آلاف فلسطيني، وشن المستوطنون الصهاينة نحو 950 هجوما على الفلسطينيين، وهدمت سلطات العدو وصادرت نحو 900 مبنى 40% منها مأهولة ما أدى إلى تهجير أكثر من الفي شخص.
3/ سنة كاملة، والعدو بكل قواته وما يلقاه من دعم لم يستطع تحقيق أي من الأهداف المعلنة لعدوانه، لكنه دمر قطاع غزة تدميرا منهجيا فأزال نحوا من 80% مما في القطاع من عمران، وهجر قرابة مليونين من السكان من ديارهم بهدف دفعهم للهجرة من القطاع إلى سيناء أو أي مكان آخر، وهو لهذا الهدف ارتكب خلال هذه الفترة التي بدأت في الثامن من أكتوبر 2023 ما لا يمكن احصاؤه من جرائم الحرب، ضد كل مظاهر الحياة في القطاع، ضد المدنيين، بكل أصنافهم، وضد البنية السكانية، وضد الشجر والحجر، مستخدما كل أنواع الأسلحة من طائرات ودبابات وصواريخ، وقوات برية نظامية وخاصة، واستعانت قواته في عدوانها بكل الحلفاء، الولايات المتحدة والغرب الصهيوني، والقوى الإقليمية المتصهينة، والمرتزقة الذين وصلوا إليها بالآلاف من عشرات الدول، حتى باتت معركة غزة وكأنها حرب عالمية من طرف واحد فقط.
وحتى الآن ارتقى 41,700 شهيد، وهناك عشرة آلاف مفقود في القطاع، ومعظم الشهداء مدنيون، منهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 11 ألف امرأة، وأيضا 200 موظف من العاملين في القطاع الصحي والإغاثي، إضافة إلى 172 صحافيا، كما أن هناك أكثر من 97 ألف مصاب، إضافة إلى خمسة آلاف أسير، أخذتهم قوات الاحتلال من المدنيين.
وعلى مسار هذا العدوان ارتكبت القوات الصهيونية وبدعم مباشر من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، 4,650 مجزرة بحق المدنيين في بيوتهم، وأماكن الايواء، والمستشفيات، وتم تدمير 24 مستشفى من أصل 36 مستشفى في عموم القطاع.
4/ وعلى مدى عام ظهرت محطات وقنوات تلفزة عربية، فاقت تلك المتحدثة باسم الغرب الصهيوني في تبنيها لمنطق العدو، وفي تشفيها بعدد القتلى والاصابات بين الفلسطينيين، وفي تحميلها قوى المقاومة والجهاد المسؤولية عما يجري، وفي إظهار الكثير من التعاطف والشغف والمتابعة لأوضاع الأسرى الصهاينة، وفي تجاوز أو التعمية على فضائح الكذب والتزوير التي أشاعها العدو مدعيا ارتكاب المجاهدين عمليات ” الاغتصاب الجنسي، والتعذيب، والاعتداءات الجسدية” بحق الأسرى، وحينما كذب الأسرى الذين أطلقت المقاومة سراحهم جاءت تغطية هذه المنصات الإعلامية لهذه الحقائق تغطية خجولة ، عابرة، وتم تجاوزها بسرعة.
وفي الاتجاه نفسه من وسائط الإعلام هذه، تفجرت وسائل التواصل الاجتماعي بفتاوى، وبرامج، ومحاضرات، وآراء، تحاول كلها أن تظهر أن كل ما يجري كان بسبب عملية “طوفان الأقصى”، وأن العقل والتبصر وفهم طبائع الصراع، وشروطه الشرعية، كان يقتضي ألا تتم هذه العملية بداية، أو أن يستأذن لأجلها “الولي الشرعي للمسلمين”، ولكل من هؤلاء المتفيهقين ولي شرعي يتوجه شطره.
إن المصيبة مع هؤلاء جميعا أنهم يطوعون آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول الكريم على النحو الذي يخدم مهامهم، ويقابلون طهارة الدم الزكي للشهداء بأهوائهم وتخرصاتهم. وحين لا تكون هناك حرمة لدم الشهداء، فلن تكون هناك حرمة لكتاب الله، ولا للمقدس من توجيهات رسوله الكريم.
والمصيبة مع هؤلاء أيضا أنهم حولوا أو عملوا على تحويل القرآن الكريم من أداة لجمع الأمة على محجة بيضاء، لا تخفى، ولا يضيع من توخاها، إلى أداة تفرقة بين المسلمين أنفسهم، في معركة من أشرف المعارك، وفي مواجهة عدو يملك مشروعا عدوانيا ضدنا جميعا لا مثيل ولا سابق له.
ومما يلفت الانتباه هنا ـ وليس هذا غريبا البتة ـ أن هذه القنوات هي نفسها التي رعت وما تزال ترعى كل الأصوات النشاز التي تطعن تحت مسميات متعددة بمقدسات المسلمين: بالقرآن الكريم، وبالسنة المطهرة، وبقادة وأعلام الحضارة العربية الإسلامية، بدءا من الصحابة الكرام وقادة الفتح ودون استثناء حتى عصرنا الراهن، بل إن وظيفة بعض هؤلاء باتت التشكيك بقدسية مسرى رسول الله، وراحوا يروجون أن “القدس” المذكورة في القرآن الكريم هي شيء آخر غير هذه التي نعرفها، وأن هذه “القدس” ليس لها أي قدسية، وليست هي مسرى رسول الله، وأنها لا تستأهل أن تقع لأجلها الحروب، وتحدث حولها كل هذه الصراعات.
5/ ومن هذه الصورة العامة نطل على الساحة اللبنانية، وهي الساحة الأهم بعد غزة التي ظهرت في مسار عملية طوفان الأقصى، والتي كان يعول عليها دورا مباشرا حاسما في إطار شعار “وحدة الساحات”، ونقدر تقديرا عاليا ما قامت به من جهود عبر مقاتلي حزب الله وحلفائهم، ونقدر أيضا حجم التضحيات التي قدمتها الساحة اللبنانية، وفي طليعتها العدد الوفير من الشهداء والقتلى الذين سقطوا خلال الاعتداءات المستمرة على لبنان، وخلال الاعتداءات النوعية الإسرائيلية التي استهدفت الطبقة القيادية في حزب الله، وعلى رأسها الأمين العام حسن نصر الله.
وقد يكون من السابق لأوانه أن نقف لنحلل دور حزب الله في مجمل هذا الصراع والمعارك، ولكن ونحن نتحدث من زاوية “طوفان الأقصى” يصبح ضروريا الإشارة إلى أن تحول الحزب من مفهوم “وحدة الساحات” إلى مفهوم “الجبهة المساندة” كان خطأ كبيرا، سمح للعدو بأن يستفرد كل ساحة على حدة، بل كان خطيئة دفع الفلسطينيون في غزة وفي عموم فلسطين ثمنا باهظا لها، وكذلك دفع حزب الله ثمنا مماثلا، ولا نظن أن هذا التحول كان نتيجة رؤية الحزب لساحة المعركة، ولكن كان نتيجة مباشرة لانصياعه لأوامر ورؤية إيران للعملية كلها.
أمام “حزب الله”، كانت ساحة المعركة واضحة، هكذا نفترض، وكانت فلسطين تطل من كل جنبات هذه الساحة، لكن أمام القيادة الإيرانية لم يكن الأمر كذلك، كانت إيران ترى أن الهدف والغاية هي حماية “رؤية الولي الفقيه”، ومشروعه للوضع كله، وللآفاق العملية لهذا المشروع، وليس حول فلسطين، واحتياجات فلسطين.
إن مشروع “محور المقاومة” مبني إيرانيا حول “طهران”، وتأتي فلسطين هنا محطة في مسار ذلك المشروع، لكن قوى الجهاد بنت مشروعها حول “فلسطين” ولأجل فلسطين، ويأتي الدور الإيراني في الدعم والمشاركة في مسار هذا الهدف، والرؤيتان وإن التقتا في نقطة أو مرحلة فإنهما ـ من وجهة النظر الاستراتيجية ـ مختلفتان جذريا، وأرجح أن حزب الله تاه بين الرؤيتين، ولم يكن له بد من اتباع مسار المشروع الإيرانية، فسقط سريعا في شرك هذا الوضع.
كان المطلوب فلسطينيا أن يتم تنفيذ “وحدة الساحات” منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي، أي منذ الثامن من أكتوبر 2023، فيتشتت الجهد الإسرائيلي وتضيع فعاليته.
وكان الاهتمام الإيراني الذي فوجئ بطوفان الأقصى، وفوجئ كذلك بالاندفاع الغربي العسكري والسياسي لساحة المعركة، أن تبقى إيران ومشروعها بعيدا عن ساحة المواجهة، وبالتالي أن تضبط أذرعها وما يمكن أن تقوم به هذه الأذرع، في هذا الإطار فقط، بحيث تستثمر عملية “طوفان الأقصى” لصالحها من دون دفع أثمان باهظة، لكن مكانتها وفق نظرية “وحدة الساحات” مكانة طليعية ريادية لا تسمح بمثل هذا القصور في الأداء. إيران دولة إقليمية كبرى، وهي في محور المقاومة الأساس الذي أقيم عليه هذا المحور، وحين تنكفئ هي، ستنكفئ الأذرع كلها. وستتغير المعادلات المتحكمة بساحة الصراع.
عوامل عديدة جعلت حزب الله يدفع هذه الأثمان الباهظة، أحدها، وقد يكون أهمها، أنه جعل من نفسه صدى لممارسات ورؤية إيران لنظرية “ولاية الفقيه”.
ولقد سبق للحزب أن دفع أثمانا باهظة حينما التزم رؤية “ولاية الفقيه” الإيرانية في سوريا، فدخل إليها حماية لنظام فاسد طائفي قاتل ومستبد. وارتكب فيها من الجرائم مالا يمكن تغطيته أو التغاضي عنه، وما أدى إلى انكشاف ستره، وتخلخل بنيانه، واختراق جسمه التنظيمي والأخلاقي. ويكفي لإدراك جوانب من هذا الثمن المقارنة بين ما كان عليه الحزب وأمينه العام في الشارع العربي حتى مطلع العام 2011، وما صار إليه بعد ذلك.
ولعل الحزب اليوم أمام الامتحان الأقسى حيث لا مخرج أمامه إلا “قتال العدو باستخدام ترسانة الأسلحة التي يملكها، أو الاستسلام وتسليم هذه الترسانة الى هذا الطرف أو ذاك”.
وتعلمنا التجارب أن المقاتلين الذين تربوا بصدق على فكرة مواجهة العدو الغاصب لا يقبلون الاستسلام، ونتطلع ونتمنى أن يقف مقاتلو حزب الله هذا الموقف، وأن يستخدموا ما تراكم عندهم من سلاح وقوة تدميرية وفكر مقاوم في مواجهة العدو الصهيوني، وفي منعه من تحقيق أهدافه في لبنان، وفي هذا ـ وبحدود ما هو متاح ـ انتصار حقيقي لغزة ومجاهديها.
5/ هذا الصمود الإعجازي للمجاهدين أوقع خللا كبيرا في مسيرة بناء الشرق الأوسط الجديد، التي كانت تتهيأ لقفزة نهائية بعقد اتفاقات صلح مع المملكة العربية السعودية، بعد تلك التي عقدت في كامب ديفيد، ووادي عربة، وأوسلو، وبعد الاتفاقات الإبراهيمية، ولتختتم بإشهار قيام حلف عسكري عربي ـ غربي” ناتو ـ عربي” يتربع الكيان الصهيوني على قمته.
وبمثل هذا الإنجاز ـ إن تحقق ـ يكون الاستثمار الغربي في الكيان الصهيوني ـ الذي انعقد مطلع القرن العشرين ـ قد أعطى ثماره، ونكون قد شهدنا بحق ولادة “شرق أوسط جديد” يشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “كونداليزا رايس”، ورفعه رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو شعارا لهدفه الذي يتطلع إلى إنجازه من هذا العدوان المستمر.
وهذا المولود سيكون مرحلة أولى تتبعه مراحل لاحقة تقوم على استكمال تقسيم الأقاليم العربية إلى كيانات أصغر قوامها عرقي وطائفي وحتى قبلي، فالحجج هنا ليست مهمة، وإنما الهدف، وهو التقسيم المؤدي إلى ضعف وتقاتل بين هذه الكيانات، والمؤدي بالتبعية إلى الاستعانة واللجوء إلى الكيان الصهيوني طلبا للأمن والاستقرار، وليكون هذا الكيان حكما بين الجميع.
طوفان الأقصى أوقع الخلل الكبير في هذا المسار، ويبدو أن الهلع الذي بدا واضحا في عواصم الغرب الاستعماري عقب الطوفان، والذي دفع بقادتهم وأسلحتهم وأموالهم ومرتزقتهم وإعلامهم للإسراع إلى ساحة المعركة، نابع من المعنى السابق للعملية الفلسطينية العظيمة، لقد وصلت “اللقمة إلى الفم”، وتهيأ الغرب الصهيوني لابتلاعها، وفجأة جاء الطوفان، فأجبرهم على التراجع خطوة أو أكثر إلى الوراء، وفرض واقعا جديدا.
وبهذا المعنى فإن طوفان الأقصى جاء دفاعا عن الأمة العربية كلها، وعن المقدسات الإسلامية، وغير الإسلامية، في فلسطين المحتلة، وعن التاريخ والحضارة العربية الإسلامية، وما قدمه ويقدمه الفلسطينيون في غزة، وفي الضفة الغربية، والقدس المحتلة، إنما يقدمونه نيابة عن الأمة كلها، بوجهيها القومي العربي، والديني الإسلامي، وهو بالحتم متضمن لوجهها المسيحي المشرقي الذي له في الطابع الإسلامي لمجتمعنا وحضارتنا إشراقته الخاصة.
وحين نرى الأمر على هذا النحو نقدر أكثر ما قام ويقوم به أهل غزة وفلسطين، ونستشعر أكثر حجم المسؤولية التي تقع على عاتق كل عربي ومسلم تجاه ما يجري في غزة وفلسطين، وندرك أكثر فظاعة ما يرتكبه عموم النظام العربي، والدول الإسلامية كل بموقعه وقدرته حين يتهاون إزاء هذا العدوان، وحين يستهين بتضحيات المجاهدين، وحين يساهم في منع وصول الامدادات الانسانية والمالية والجهادية إلى أهلنا في فلسطين وقطاعه، وإلى ساحات المواجهة هناك.
6/ ومن هذه الصورة العامة نطل على الساحة اللبنانية، وهي الساحة الأهم بعد غزة التي ظهرت في مسار عملية طوفان الأقصى، والتي كان يعول عليها دورا مباشرا حاسما في إطار شعار “وحدة الساحات”، ونقدر تقديرا عاليا ما قامت به من جهود عبر مقاتلي حزب الله، ونقدر أيضا حجم التضحيات التي قدمتها هذه الساحة وفي طليعتها العدد الوفير من الشهداء والقتلى الذين سقطوا خلال الاعتداءات المستمرة على لبنان، وخلال عمليات الاغتيال والقتل النوعية التي نفذها العدو الصهيوني مستهدفا الطبقة القيادية العليا السياسية والعسكرية في الحزب، وعلى رأسها الأمين العام حسن نصر الله. وقد سجلت المصادر الطبية اللبنانية سقوط أكثر من ألفي شهيد. إضافة إلى أكثر من مليون ومئتي الف مواطن لبناني نازح من مختلف مكونات الشعب اللبناني، اضطرهم القصف لترك منازلهم، والتشرد في الشوارع بعد أن عجزت مراكز الايواء القليلة والشحيحة عن استيعابهم أو تقديم الحد الأدنى من المساعدة لهم، وهم في أمس الحاجة لها، ولعل تعطل أركان الدولة اللبنانية من رئاسة، وحكومة، ومجلس نيابي نتيجة السياسات الداخلية التي اتبعها حزب الله وحلفائه، واتبعتها الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، ساهمت مجتمعة في هذا الوضع المأساوي للنازحين المتصاعد نوعا وكما، نتيجة استمرار العدوان والذي تحت أي اعتبار لا يجوز أن يستمر، ويجب أن يستدعي تحركا شعبيا عاما لدرء مخاطره على تماسك المجتمع اللبناني كله.
وقد يكون من السابق لأوانه أن نقف لنحلل دور حزب الله في مجمل هذا الصراع والمعارك، ولكن ونحن نتحدث من زاوية “طوفان الأقصى” يصبح ضروريا الإشارة إلى أن قبول الحزب التحول من مفهوم ” وحدة الساحات” إلى مفهوم” الجبهة المساندة” كان خطأ كبيرا، بل كان خطيئة دفع الفلسطينيون في غزة وفي عموم فلسطين ثمنا باهظا لها، وكذلك دفع حزب الله ثمنا مماثلا، ولا نظن أن هذا التحول كان نتيجة رؤية الحزب لساحة المعركة، ولكن كان نتيجة مباشرة لانصياع الحزب لأوامر ورؤية إيران للعملية كلها.
نحن نقدر أن ساحة المعركة كانت واضحة أمام قيادة حزب الله، وكانت فلسطين تطل من كل جنبات هذه الساحة، لكن أمام إيران لم يكن الأمر كذلك، كانت إيران ترى أن الهدف والغاية هي إنفاذ “رؤية القيادة الايرانية” للوضع كله، وهي رؤية تتمحور حول “ولاية الفقيه”، وليس حول فلسطين.
إن مشروع المقاومة، أو “محور المقاومة” يقوم إيرانيا حول طهران، وتأتي فلسطين هنا محطة في مسار ذلك المشروع. فيما يقوم “محور المقاومة” فلسطينيا حول فلسطين، وعند هؤلاء المجاهدين والمقاومين يأتي الدول الإيراني في الدعم والمشاركة في هذا المسار وليس في غيره، والرؤيتان وإن التقتا في نقطة، أو مرحلة، فإنهما من وجهة النظر الاستراتيجية مختلفتان جذريا، وأرجح أن حزب الله تاه بين الرؤيتين، ولم يكن له بد من اتباع الخطوات الإيرانية ـ التي يتبعها عقديا ـ، فسقط سريعا في شرك هذا الوضع.
كان المطلوب فلسطينيا أن يتم تنفيذ “وحدة الساحات” منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي، فيتشتت الجهد الإسرائيلي وتضيع فعاليته، وكان الاهتمام الإيراني الذي فوجئ بـ”طوفان الأقصى”، وفوجئ بالاندفاع الغربي العسكري والسياسي لساحة المعركة، أن تبقى إيران ويبقى مشروعها بعيدا عن ساحة المواجهة التي فجرتها عملية “طوفان الأقصى”، وبالتالي أن تضبط أذرعتها في هذا الإطار فقط، بحيث تستثمر عملية “طوفان الأقصى” لصالحها دون دفع أثمان باهظة، وظن النظام الإيراني أن هذا ممكنا، وبدأ الترويج والتبرير لهذا الموقف بعدم الرغبة في جعل لبنان يدفع الثمن، وفي الترويج لفكرة أن الغرب يقدر انضباط إيران وضبطها لأذرعها في هذه المرحلة، وأن هذا التقدير سينعكس لاحقا إلى اتفاقات تفيد ايران وبرنامجها النووي.
لكن مكانة إيران وفق نظرية “وحدة الساحات” مكانة طليعية ريادية لا تسمح بمثل هذا القصور في الرؤية والأداء…. إيران دولة إقليمية كبرى، وهي في محور المقاومة الأساس الذي أقيم عليه كل شيء، وحين تنكفئ هي ستنكفئ الأذرع كلها. وجاءت الأحداث في لبنان، وفي إيران، لتؤكد أن أداء متواضعا محدودا لإيران ومحورها لن يؤدي إلى جعل العدوان “الإسرائيلي” محصورا في حدود غزة أو فلسطين، وهكذا كان.
عوامل عديدة جعلت “حزب الله” يدفع هذه الأثمان الباهظة، أحدها، وقد يكون أهمها أنه جعل من نفسه صدى لرؤية وممارسة إيران لنظرية “ولاية الفقيه”. وكان الحزب قد دفع أثمانا أكثر حينما أسهم في تنفيذ الرؤية الإيرانية لنظرية “ولاية الفقيه” في سوريا، فأرسل مقاتليه وقادته العسكريين ـ ومنهم من قتل في الغارات الإسرائيلية الأخيرة ـ لحماية نظام فاسد طائفي قاتل ومستبد. وفيها ارتكب هؤلاء من الجرائم مالا يمكن تغطيته أو التغاضي عنه، أو درء مخاطره، وهو ما أدى إلى انكشاف ستره، وتخلخل بنيانه، واختراق جسمه التنظيمي أمنيا، وأشاع الفساد المالي والأخلاقي بين أعضائه.
وامتد هذا الضرر الناجم عن دور حزب الله في سوريا إلى تخريب العلاقة بين الشعبين السوري واللبناني، وهي العلاقة التي كانت دائما نموذجية، وفي أصعب الأوقات وجد اللبنانيون في المجتمع السوري ملاذا لهم، كما وجد السوريون ذلك في المجتمع اللبناني، لكن مع “حزب الله” تغير الأمر.
ولعل الحزب اليوم أمام الامتحان الأقسى حيث لا مخرج إلا قتال العدو، أو الاستسلام، وتعلمنا التجارب في ساحات عدة أن المقاتلين الذين تربوا على فكرة مواجهة العدو الغاصب لن يقبلوا الاستسلام، ونتطلع ونتمنى أن يستخدم مقاتلو حزب الله ما تراكم عندهم من سلاح وقوة تدميرية وفكر مقاوم في مواجهة العدو الصهيوني، وفي منعه من تحقيق أهدافه في لبنان، وفي هذا ـ وبحدود ما هو متاح ـ انتصار حقيقي لغزة ومجاهديها.
7/ وعلى وقع طوفان الأقصى وعلى صدى هذه النظرة القاصرة لطهران ومحورها بدأ العدوان الإسرائيلي يتمدد لبنانيا وإيرانيا، وقد نال لبنان ما ناله من تدمير ممنهج للضاحية الجنوبية، واغتيالات وقتل وتهجير، ويكفي أن مربعا واحدا في الضاحية الجنوبية تلقى في يومين مختلفين أكثر من سبعة وثلاثين طنا من القذائف المتفجرة، تلك التي استهدفت قتل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، ومن بعده من اعتبر خليفة له هاشم صفي الدين وعددا من قياديي الحزب.
وكانت يد العدو الصهيوني قد امتدت إلى القنصلية الإيرانية في دمشق، ومن ثم إلى عمق طهران حين اغتالت في 31 يوليو “اسماعيل هنية” رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الذي كان ضيفا على الرئاسة الإيرانية الجديدة في احتفالية تسلم الرئيس الإيراني الجديد “مسعود بزشكيان” منصبه.
ومن الغريب أن القيادة الإيرانية لم تفهم المعنى الحقيقي لاغتيال هنية في طهران، ولم تستشعر الخطوط الحمر التي تجاوزتها حكومة نتنياهو وهي تعطي الإذن باغتيال هنية، كما لم تستشعر مقدار الخرق الاستخباراتي الذي سمح بتنفيذ هذه الجريمة، وسمحت بان تصل يد العدو الى كل الأماكن التي وصلت اليها، واستمرت تتعامل مع الأمر باعتباره صفعة، سترد عليها بصفعة مماثلة، كما حدث حين ردت على مهاجمة قنصليتها في دمشق. في الاول من إبريل 2024 بهجوم شكلي للمسيرات الانتحارية على الكيان يوم 13 من الشهر نفسه.
وحين قامت ليل الثلاثاء، الأول من اكتوبر بمهاجمة مواقع عسكرية ومطارات وأهدافا محددة في الكيان واعتبرت الهجوم الذي أطلقت خلاله نحو 200 صاروخ ردا على اغتيال هنية، ونصر الله، حسبت الأمور في الاتجاه نفسه، وقالت حينها أن انتقامها قد اكتمل، لكن يبدو أن حساباتها جانبها الصواب أيضا، وليس هناك من يتضمن ألا يطال رد الفعل الإسرائيلي على تلك الهجمات المواقع النووية والنفطية والطاقوية الإيرانية، واذا تم ذلك، ومؤشراته كثيرة، فلن يتم بدون موافقة واشنطن، وبالتالي فإن الإدارة الامريكية تكون قد خدعت طهران، مرة أخرى، وغلبت وجهة نظر تل ابيب في حدود هذا الصراع التنافسي على المنطقة، وتكون طهران متجهة لدفع أثمان حاولت تجنبها يوم أن انطلقت عملية طوفان الأقصى، ويوم أن ارتضت ترك المقاومة في غزة تواجه منفردة العدوان الصهيوني العالمي عليها، ونقدر أنها لو فعلت ذلك في حينه، ودخلت المعركة، وفق ما تفرضه نظرية “وحدة الساحات” لاختلف المشهد كثيرا، ولتم توفير الكثير من الدماء والدمار والمخاطر. في فلسطين ولبنان وإيران، وفي ساحات أخرى.
وللأسف حين تدفع إيران هذا الثمن تكون قد دفعته خارج ساحة المعركة من أجل فلسطين، وخارج مفهوم “وحدة الساحات”…. تكون دفعته في إطار رؤيتها لآفاق دورها وفق نظرية “ولاية الفقيه”، وهذه نظرية امبراطورية بغلاف ديني مستبد، لا علاقة حقيقية لها بفلسطين.
8/ ما تزال المعركة مستمرة، وكُلها من تداعيات “طوفان ألأقصى”، ومهم في ختام هذه المطالعة أن نؤكد على الموقف الواجب تجاه هذا الحدث، وما استدعاه من أفعال وردود أفعال، وما يمكن أن نتوقعه مستقبلا.
يجب أن نظهر اليقين بأن موقف العداء من الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني، جزء من عقيدتنا، سواء استندت هذه العقيدة إلى البعد الديني أو القومي أو الوطني، نحن هنا نرد العدوان عن أهلنا وأرضنا ومقدساتنا ومستقبلنا، بما نملك وبما هو متاح لنا من قوة، وهذه العقيدة غير قابلة للتجزئة، ولا للمراجعة أو إعادة الصياغة.
ومن هذا المنظور فإن المعركة الأساسية والأهم الآن هي المعركة مع هذا العدو، وإن الوقوف إلى جانب قوى المقاومة والجهاد كلٌ بما يملك ويستطيع، جزء من هذه العقيدة. نطالب بها الأفراد والمنظمات والدول المنتمية إلى المجتمع الإنساني على تنوعه، وعلى تباين قربه أو بعده عن هذه القضية.
ومن منظور الأولويات فإن هذه العقيدة تفرض علينا الترحيب بكل قوة وبكل جهد يمكن أن يسهم إيجابيا في هذه المعركة، لا نضع شروطا لذلك، ولا نقبل تشتيت الجهود بعيدا عن هذه المعركة. ومن منظور الأولويات فإن علينا جميعا كل بما يملك ويستطيع أن نقدم يد المساعدة الإنسانية والطبية والنفسية لإخواننا اللبنانيين المهجرين والنازحين في محنتهم الراهنة.
نحن قد نستطيع، وقد لا نستطيع، أن نصنع النصر، لكننا مطالبون بأن نقدم ما يقربنا ويقرب أمتنا منه، ونستطيع ذلك، وهذا هو المعنى الحقيقي لمبدأ” وأعدو لهم”، وبعد ذلك نوكِل الأمر كله إلى الله الجبار العزيز.. 

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى