عرب الداخل “الإسرائيلي”..*

“المدارنت”..
لا يملك أي مراقب مهتم بالوضع الفلسطيني، إلا أن يلحظ نهوضا لافتا فى الحركة الوطنية لعرب الداخل، وهم الفلسطينيون المقيمون لا يزالون على أرضهم المحتلة فى نكبة 1948، ومن وراء ما يسمى “الخط الأخضر”، أى خط الهدنة التالية لحرب النكبة، فى مدن وقرى وبلدات مناطق “الجليل” و”المثلث” وصحراء النقب بالأساس، وقد تجاوز عددهم اليوم ضعف عدد الفلسطينيين المطرودين من ديارهم فى مجازر النكبة السبعين وما تلاها، ويمثلون حاليا أكثر من خمس سكان الكيان الإسرائيلى ، وقد صاروا قوة سياسية كبرى فى الكنيست الإسرائيلى ، وأحرزوا فى الانتخابات الأخيرة 15 مقعدا ، فى الكنيست المكون من 120 عضوا ، برغم أن نسبة لا يستهان بها من فلسطينيى الداخل ، لا يصوتون عادة فى الانتخابات الإسرائيلية.
وقد سادت لفترة طويلة، نظرة عربية مريضة إلى هؤلاء الفلسطينيين الراسخين فوق أرضهم ، وتواتر الابتذال ضدهم بتسميتهم “عرب إسرائيل” ، والقفز على التسمية المحايدة التى تجعلهم “عرب 48 ” ، بينما هم عرب كل الأوقات ، فلم تنجح سنوات الاحتلال والعزل الطويلة فى محو هويتهم ، ولا تذويبهم فى هوية كيان الاغتصاب الإسرائيلى ، ولا تزال الأحزاب الصهيونية تصفهم بأنهم “الطابور الخامس” ، وحصان طروادة ، الأكثر خطورة وعداء لوجود دولة إسرائيل ، ومن قلبها .
وباستثناءات “الدروز” محدودة النسبة، فلا يخدم عرب الداخل فى جيش الاحتلال الإسرائيلى كما هو معروف ، وهو مكسب وطنى يحرصون عليه ، ويسعون لاستزادة من معناه ، بالسعى لإلغاء ما يسمى واجب “الخدمة المدنية” البديل عن التجنيد العسكرى ، أى العمل بالسخرة فى وظائف دنيا بلا عائد نقدى ، ولا تربطهم بدولة الكيان سوى أوراق تعريف رسمية ، فرضت عليهم قضاء وقدرا ، بعد عشرات المجازر التى صمدوا برغمها ، وبعد اضطهاد متصل خانق على مدى جاوز السبعين سنة ، يحرمهم من حقوق المساواة المدنية فى السكن والعمل والتعليم ، بل ويتنكر لوجودهم من الأصل ، على طريقة قانون القومية العنصرى ، الذى لايعترف بالحق فى فلسطين المحتلة سوى لليهود حصرا ، ويزيد ويكثف القيود على حياة السكان الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين ، الذين يواصلون عيشهم بإباء وإرادة وتصميم على إثبات الذات والحقوق ، واقتناص فرص التعليم والترقية الاجتماعية والعلمية والوطنية ، برغم تعمد السلطة الصهيونية الفاشية نشر المخدرات والجرائم فى أوساط عرب الداخل ، ومحاولة دفعهم إلى هجرة وطنهم ، وهو ما لا ولن يحدث غالبا ، فهم يكافحون ويحلمون جيلا فجيل ، وبلغ عددهم اليوم ما يزيد على المليون وسبعمائة ألف فلسطينى ، بينهم نخبة متعلمة ومهنية متزايدة التأثير ، وطلائع من قادة الكفاح ، تواصل سيرة “حركة الأرض” الأولى التى نشأت مواكبة لسنوات المد القومى العربى فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين ، وقمعتها سلطات كيان الاغتصاب الإسرائيلى ، لكنها ـ أى حركة الأرض ـ عادت لتتناسل فى مراحل تالية ، وصولا إلى حركة “القائمة العربية المشتركة” التى تقود اليوم حركة كفاح فلسطينيى الداخل ، وفى نسق سياسى جامع ، يربط السعى لاكتساب الحقوق المدنية المتساوية مع بلورة الهوية الوطنية الجامعة ، وهو ما تخشاه إسرائيل التى تتفتت نخبها الصهيونية ، وتدخل فى مرحلة اضطراب سياسى غير مسبوق منذ إقامة كيان الاغتصاب .
وبالطبع، لا يصح افتراض وجود فصل، ولا عزلة سياسية لحركة الفلسطينيين الوطنية فى الداخل “الإسرائيلى”، تفصلها عن التطورات الفلسطينية فى الضفة وغزة والقدس المحتلة فى حرب 1967، ولا عن تجمعات الفلسطينيين فى اللجوء والشتات، فثمة ارتباط محسوس متزايد على ما نزعم ، حتى وإن اختلفت الأساليب وصيغ التعبير، وثمة شعور غريزى يتنامى بقوة وجود الشعب الفلسطينى، خصوصا مع تضاعف الثقل السكانى وتضاعف وزن النخب المتعلمة، فعدد الفلسطينيين اليوم يزيد على 13 مليونا ، أكثر من نصفهم فى الداخل الفلسطينى المحتل عام 1948 وعام 1967 ، وهو ما يزيد على عدد اليهود المجلوبين لاستيطان فلسطين ، مع تداعى فرص جلب مستوطنين جدد ، بينما مدد الفلسطينيين لا ينفد ، وهو ما يفاقم الأزمة الوجودية لكيان الاحتلال ، فقد تفرض القوة أحكامها لوقت ، لكنها لا تصمد كل الوقت أمام صلابة الحقائق على الأرض ، وكل مشروع استعمارى استيطانى إحلالى ، لا يفوز فى النهاية ، إلا إذا نجح فى إفناء السكان الأصليين ، أوتفكيك تماسك وجودهم وشعورهم القومى ، وهو ما يجرى عكسه بالضبط فى الحالة الفلسطينية ، وعلى طريقة عناد وجسارة وصمود فلسطينيى الداخل المحتل منذ نكبة 1948.
ودعونا نتوقف قليلا عند ماجرى، وعند التحولات فى المزاج السياسى لعرب الداخل “الإسرائيلى”، فبعد ما جرى من أهوال النكبة ، ومن عشرات المجازر، وتدمير عشرات تلو العشرات من البلدات والقرى، بدا فلسطينيو الداخل فى محنة فريدة، بعضهم ظل بمكانه، أو انتقل قسرا إلى أماكن أخرى من الوطن المحتل عام 1948، وبدا فى القصة كلها طعم النفى والبتر، وإن سرى التعويل أحيانا على إنقاذ عربى لفلسطين من خارجها ، وكانت هزيمة 1967 نهاية لانتظار المنقذ العربى الخارجى، وقبلها وبعدها أكثر ، نمت تصورات سياسية فى أوساط عرب الداخل ، ركزت فى الغالب على طلب المساواة فى الحقوق المدنية ، وعلى العمل مع فئات صهيونية يسارية الهوى، وكان حزب “راكاح” الشيوعي الإسرائيلى فى قلب الصورة السياسية، وكان أغلب قادة فلسطينيى الداخل من “راكاح” بقيادته اليهودية، وكان فى الأمر نوعا من الاندماج أو “الأسرلة” المشروطة ، وأفرزت هذه الفترة جيلا من القادة والمبدعين الفلسطينيين بالداخل ، أثمر تراكم كفاحهم فى انتقال لاحق، كان فى جوهره انفصالا قوميا عن الحركة السياسية الإسرائيلية كلها ، ولعبت انتفاضات القدس وغزة والضفة دورا فى التحول ، فما قبل انتفاضة 1987 ليس كما بعدها ، وبالتوازى مع ارتباط عضوى أقرب ، وبعضه شبه ميدانى ، تصاعد شعور جديد عند عرب الداخل ، خلاصته الخلاص من فكرة “الأسرلة” المشروطة أو غير المشروطة ، وزيادة وزن حركات قومية عربية وإسلامية ووطنية عامة بالداخل ، ترفض تماما فكرة التداخل العضوى مع أحزاب صهيونية ، وتتجه إلى تعبيرات سياسية قومية خالصة ، أى صناعة أحزاب ، يكونها العرب ويقودها العرب وتخاطب الوسط العربى أساسا ، تطورت تشكيلاتها ، وصولا إلى ما يعرف اليوم باسم “القائمة العربية المشتركة”، التى تضم أربعة أحزاب عربية ، إضافة لمجموعات عربية أخرى ، ترفض مبدأ المشاركة أصلا فى الانتخابات الإسرائيلية ، وكذا مجموعات ثقافية ومدنية وجماهيرية الطابع ، تبذل غاية جهدها فى ميادين الحفاظ على اللغة وتكريس الهوية ، فلم تعد قضية المساواة المدنية هى المطلب الوحيد ، بل بلورة وتعزيز وجود قومى معتز بهويته وجمهوره وأرضه ، ورافض بإطراد لإغواءات التذويب والأسرلة ، وذاهب إلى هدف التعبير الفلسطينى النقى عن جمهور فلسطينى خالص التكوين والمعنى.
أكثر من ذلك، بدت الحركة السياسية لفلسطينيى الداخل فى وضع أفضل، إذا قيست لوضع الحركة الوطنية فى الضفة وغزة والقدس تحت الاحتلال ، وهو وضع ينطوى على مفارقة محسوسة، فبينما تفشل محاولات مصالحة “فتح” و”حماس” على مدى 13 سنة مضت، ويستمر الانقسام المدمر الذى لايخدم سوى مصالح الاحتلال، ويعيق تصورات إعادة بناء منظمة التحرير، ويغيب الإطار الوطنى الجامع، بينما يحدث كل هذا التدهور ، تنحو حركة الفلسطينيين بالداخل إلى توحد ظاهر ناضج، حتى وإن وجدت متاعب هنا أو هناك ، وتجدد قياداتها بسلاسة وكفاءة أكثر ، وإلى حد بدت معه ، كأنها خط الجبهة الأمامى فى حركة المجموع الفلسطينى ، المثير لإلهام مفتقد فى القيادة الفلسطينية الرسمية ، المترددة لا تزال فى الخروج من متاهات ونكبات اتفاق أوسلو ، وهو ما يبدو ظاهرا بشهادة العدو نفسه ، الذى صار يخشى من قيادة الداخل بأكثر مما يفعل إزاء ما تبقى من منظمة التحرير، برغم أن قيادة الداخل لا تستخدم سلاحا بطبائع الظروف ، بل تعبئ أهلها بطرق سلمية حصرا، وتبنى جسور ارتباط ، خاصة فى المعركة المتصلة حول مصير القدس ومسجدها الأقصى، ولها شهداؤها وأسراها فى سجون الاحتلال ، منذ انتفاضة أكتوبر 2000 وما بعدها ، التى مثلت تواصلا مباشرا مع انتفاضة 28 سبتمبر 2000 فى غزة والضفة والقدس، وبوسع حركة الداخل أن تطور صور المقاومة الشعبية الفلسطينية ، وبزاد فريد من خبرات، كونتها على مدى عقود ، فهى الأكثر دراية بسبل المغالبة ونقاط الضعف فى تكوين دولة الاحتلال، ثم أنها تبدو متجردة إلا من الولاء للحق الفلسطينى غير قابل للتصرف ، وناجية أكثر من موبقات المحاور العربية والإقليمية، التى لا دور لها اليوم غير خدمة إسرائيل، وإفساد أى مسعى لتوحيد الحركة الوطنية الفلسطينية فى أراضى 1967.
* المصدر: القدس العربي.