عـنــدمــا تـتـبـعْـثــرُ الأشْـيــاء..
خاص “المدارنت”..
استيقظتْ “صفية” وهي تشعر بدوار شديد، حاولت أن تعتدل في جلستها على السرير.. مدّتْ يدها إلى الطاولة الصغيرة المحاذية لفراشها، أخذت كوب الماء المُغطّى بعناية، شربتْ بعْضَه ثم أعادتْه إلى مكانه، تملْملتْ وهي تجذب الوسادة لتسند ظهرها؛ جرّتْ غطاء خفيفاً حول صدرها وكتفيْها، تاهتْ عيناها وهما تمْسحانِ كلّ زوايا الغرفة، تتأملُ الستائر البنفسجية وقد بهت لونها.. تنظر إلى خزانة الملابس، تشعر بثقل في الأهداب، تفرك إحدى عينيْها ثم تعودُ لتتأمّل كرْسِياً خشبياً يشْغلُ إحْدى زوايا الغرفة.. ورَاءَهُ توجَدُ شمّاعَة خشبِية قديمَة؛ مغطّاةٌ بقطعة قماش أبيض؛ وكأن القطعة تحمي ما تحتها من غبار السّنواتِ المُتآكلة على طول الشماعة الواقفة بشموخ في وجْه أزْمنة النّواح… تحامَلت “صفية” على نفسها وقامتْ ببُطءٍ شديد نحْوَ المطبخ؛ ستُعِدُّ فطور الصباح لِشمْس الدّين، ستتّجِهُ إلى الغُرْفة المقابلة لغرفتها؛ ستوقظه، سيطلب منها أن تُمْهِلهُ بعض الدّقائق… تنْزَع عنْهُ الغطاء، وهي تمسح على شعْره بيدٍ ترْتجِف… يتثاءبُ “شمس الدين”؛ يحاول أن يجر الغطاء على وجهه؛ وكأنه يُعانِدُها… تخرج من الغرفة وهي تعْلمُ أنُّهُ سيقومُ بعد ثوانٍ وسيخرج ورَاءَها، سيُقبِّلُ رأسها ويطلب دُعاءَها…
“شمس الدين” طالبُ الطبّ، تخصُّص جراحة الأعْصاب، في سنَتِهِ الأخيرَة… يُكرِّسُ ما أوتِي من طاقة؛ حتى يُحقّق رغْبةَ “صفية”.. تريده أن يُصْبِح جرّاحاً كبيراً، وتتمنى أن يُحقّقَ حلمها؛ بينما يعيش هو على ضفاف حلم مكبوت… يكتفي بين الفينة والأخرى بالتحليق في ملكوت خياله، دُرْجُ مكتبه في البيْت، مليءٌ بالقُصاصات… يُقْفِلُ عليْها كلما انتهى من كِتابتِها أوْمُرَاجَعتِها.هي َمرْساهُ الوحيد حين تضيق نفسه، حين يعْصرهُ ألمُ الذاكرة.. “شمس الدين” يغلق على أحلامه حتى لا يقهر قلبَ والدته…
معزوفة الزمن الجميل..
وهما يتناولان فطور الصباح؛ ينشغل “شمس الدين” بمكالمة هاتفية من إحدى زميلاته؛ تُخبرُه بتغييرٍ في جدولِ الالتحاق بالمُناوبات الأسْبوعية لِمُنْتسِبي جراحة الأعصاب. يشكرها على المعلومة، ويتفقان على اللقاء صبيحة الغد. يرتشف شمس الدين قهوته وعيناه تطلان من نافذة المطبخ على الحوش المُربّع والمُهْمَل منذ سنين… ينتبه على وقْعِ السّؤال: “ألنْ تذهب إلى المُسْتشفى اليوْم..؟” يكتَفي بِهَزِّ رأسه نفْياً.. ثمّ يُعقّب وهو ينْهض: “سأذهب إلى المكتبة المركزية؛ لِأعيدَ الكتُبَ التي اسْتعرْتُها مُنْذ أيّام..”يُقبّلُ رأسها وينصرف وقد حمل محفظته الجلدية على ظهره؛ محشوة بنفحات الجواهري والرّصَافي، وبعذابات بدر شاكر السياب وأحزان صلاح عبد الصبور( الناس في بلادي، شجر الليل) وهواجس خليل مطران في رائعتيْهِ: المساء، الأسد الباكي. أحبّ الأدب بجميع ألوانه، قرأ للمنفلوطي ولتيمور وللعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وكان يأخذ مما يقرأ “فقرات” يسجّلها في كرَّاستِه؛ يشعر أنها تُنْعِشُ رُوحَه؛ وتُعيدهُ إلى عالمه الخاص الذي لم تستطع “صفية” أن تفهمه…
بمجرّد خروجه؛ باشرت صفية تدابيرها المنزلية؛ فهرعتْ إلى التنظيف وتجهيز الغذاء مع الحرص على إعداد أكلة شمس الدين المفضّلة.. وحين أتمّتْ كلَّ ما بدَأتْهُ؛ دخلتْ غُرْفتها، فتحتْ خزانتها، وجالتْ بعينيها أمام الملابس المطوية؛ وكأنّها تبْحثُ عن شيء… عادتْ وأغلقتْها ثمّ جلست على حافة السّرير، مدّتْ يدها إلى دُرْج الطاوِلة؛ فتَحتْهُ، أخرجتْ ألبوماً قديماًللصُّور وبدأتْ تُقلّبُ صفحاته في هُدوء كبير… تتوقّف عند بعضها، تتأملها ملياً… كرونولوجيا الزمن الجميل ترتسم في مخيلتها، تتحول الغرفة من حولها إلى بهْوٍ كبير يضج بالأصوات…تقْفِزُ صُوَرُ الألبوم مِنْ صمتِ الأوْرَاق إلى صخب المشاهد… “يوسف” ربُّ العائلة، “صفية” الزَّوْجة الرّقيقة، أرْبعة أبناء؛ تتوسّطهُمْ أميرَة البيْت… حبيبة الكلّ…
تتهافتُ الظلال… تتلاحقُ المشاهد.. تتدفّقُ الذكريات، تنْهالُ الزّفرَات الحارِقة؛ تُلْهِبُ المكان.. “يوسف” و”صفية” الزوجان الشابان في صورة تذكارية؛ وثّقَتْ لِلَحْظةِ الشّغَف التي جمعتْهُما… وثّقتْ لأبْجَديات المحبّة الصّافية بين قلبيْنِ صادقيْنِ؛ تعاهدا على كل جميل تحت سقفٍ عائلي بهيج.. صورة ثانية للزّوْجين غداة مولد الابن الأول؛ “محمد”… تتأمّل صفية الصورة، تُمرّرُ يدها على وجْه البراءة، تهْمس بحَنانٍ كبير: “كبِدي.. رُوحي..” تُغالبها دمعة ساخنة؛ تشقّ طريقها على الخدّ الأيمن، تمسحها ِبكُمِّ ثوْبِها؛ ثم تُتابِع تقليبَ صفحات الألبوم..هاهو “محمد” في مشهد آخر؛ وقد حصل على الشهادة الابتدائية؛ والعائلة تحيط به في حفلٍ كبير؛ اجتمع فيه أهل “يوسف” وأهل “صفية” وبعض الجيران بينما الطفل محمد مثل العريس؛ ضحكته البريئة تملأ الصورة؛ وقد تكوّمتْ أمامه عُلب الهدايا الزاهية الألوان، في الوقت الذي بدا فيه “صطوف” منهمكاً في أكل الحلوى وهو يدور بين الأقدام الراقصة؛ ولا أحد ينْتبهُ إلى وجه الصغير الذي غدا لوحة مُزرْكشة بألوانِ الحلويات… تتنهد صفية وهمسة تنفلت من بيْن شفتيْها: “آه.. يا نورَ عيْني..”تُقبّلُ الصورة؛ وتنْتقل إلى صورة أخرى تجمع بينها وبين زوجها في أحد أيام الأعياد الزاهيات… حين كان للعيد معْنى…! تتقدم إلى مشهد آخر؛ يجمع كل الأبناء في لقطة رائعة؛ جاد بها الزمن حين أشرقت شمسه في يوميات الحب الجارف الذي عاشتْه العائلة…
“محمد” هو اليوم؛ ضابط في سلك الشرطة القضائية؛ يزور والدته عند نهاية كل أسبوع، مصطحباً زوجته المحامية؛ تجتمع الأسرة الصغيرة على مائدة الحبّ وتوهّجاتِ الدّفْء المتدفّقة بين جنبات البيت، أحاديث متنوعة، تعليقات متباينة، استحضار ذكريات غالية.. تزداد البهجة؛ حين يرنُّ هاتف صفية؛ تتسارع دقات قلبها فرحاً، وبالبديهة؛ تدرك أن المتصل هو “مصطفى”ابْنها الدّركي الشجاع؛ الذي يشهد الجميعُ بِتفانيه في عمَله؛ وبرُجولته وصبره.. إنه “صَطّوف الحنون”، كما تحبّ هي أنْ تُناديه دائماً، حتى أصبح كلُّ من في العائلة؛ يُناديه: “صطّوف”… تتجاذب معه أطرافاً من الحديث؛ تخبره بوجود أخيه “محمد”وزوجته “سمية” إلى جانبها، تُطلعه على أحوال “شمس الدين” ومثابرته من أجل أن يصبح طبيب العائلة والمعارف من الجيران وأبناء البلدة أجمعين… يستمع إليها “صطوف” وكله شوق إلى ذلك اليوم الذي سيتحقق فيه حلم الوالدة…”صطوف” يعلم ميول أخيه الأدبية، فلطالما أطلعه على بعض ما كان يكتبه من خواطر أثناء سهراتهما أيام العطل والمناسبات؛ خواطر ترسم عالمه الخاص، بل كثيراً ما كان يطلب منه أن يشتري له بعض العناوين من العاصمة، وقد فاجأهُ “صطوف” في إحدى المراّت بإحضار كمية كبيرة من كتب الأدب المتنوعة؛ فإذا به يقرأ لأحمد المجاطي، ومحمد بنيس وصلاح بوسريف، وعبد الله راجع، وإبراهيم طوقان وعمر أبو ريشة وعبد الله حمادي، ومحمود درويش، ونازك الملائكة، وأحمد مطر ومحمد الفيتوري.. قرأ لهؤلاء؛ فزاد عطشه لإبداعات أخرى، وارتمى في أحضان مكتبة المدينة؛ ينهل من كنوزها كلما توفرت له سانحة؛حتى كان اليوم الذي سيصادف فيه “زليخا” طالبة في قسم الآداب والفلسفة… سيتعارفان، ستنْشأ علاقة قوِية بيْنهُما، “زُليْخا” أديبة ناشِئة؛ ُمدْمنة على فن القصّة والرواية المعاصرة؛ أطلعتْهُ على عناوين مختلفة في عوالم السرديات، فوجد نفسه مع شخصياتٍ جديدة وألوانٍ ساحرة من الكتابة الخلاّقة والخيال الفسيح… قرأتْ عليه مقاطع من مدن الملح، رائحة الجنة، الزلزال، رجال في الشمس، عُرْس بغل، لعبة النسيان، كانت تحتفظ بهذه المقاطع في كراستها اليومية.. أخرجت من حقيبتها آخرَ روايتيْن؛ تُفكر أن تجْعلهما موضوعَ بحْثها في احْدى الحصص التطبيقية: من “اعترافات ذاكرة البيدق”، و”لا تنس ما تقول”… تأمّل “شمس الدّين”الرّوَايتيْن، وعدتْه بالإعارة في قادم الأيام…
تُقلّبُ “صفية” باقي صفحات الألبوم… صورة “صطوف” في السادسة من عمره؛ اعتلى ظهْر والدِه “يوسف”، يُخيّلُ إليه أنهُ يرْكب ظهر حصان.. ويبدو الوالد وكأنه يتمايل، يختضُّ الصِّبي وتسرع صفية إلى إنزاله..صورة بعد صورة إلى أن تستقرّ أناملها المرتجفة على صورة “كوثر”… ينفطر قلبها، تجهش بالبكاء، تُبْعِدُ الألبوم عنْها وتسْتسْلمُ للنّحيب.. يهرب منها الزمن الجميل.. تتلقفها غُصصُ الأحلام المنْتكِساتِ على جُدران الغرْفة… موسيقى جنائزية تخترِق أذنيْها، أنينُ القلب يهزُّ الأعماق، ينتصب طيفٌ بين يديْها؛ تحاول أن تلمسه.. تفتح ذراعيْها.. الطيف يتراجع إلى الخلف.. تقوم لِتتْبَعَه؛ يترَاجعُ أكثر…تصْرُخ مُلتاعة:” يا ربّ!يا ربّ..!”
البطلة الصغيرة
يعود “شمس الدين” من المكتبة؛ وبمحفظته عوالم “جمال الغيطاني” وأساطير صحراء “إبراهيم الكوني”.. يلاحظ صمت البيت.. يستغرب!حسب المعتاد؛ تكون والدته في استقباله؛ وبمجرّدِ أن َيفتحَ الباب؛ تُهرْوِلُ إليْه، لكنّه اليوم يُناديها، فلا تُجيب… ُيسْرع إلى غرْفتها يجدُها مُلقاة على الأرض والعرق يُبَلّلُ جسدها…يحْملها من الغرفة إلى البهو الكبير؛ يفهم أن السبب؛ انخفاض نسبة السكر في الدّم أو ارتفاع في الضغط… يقوم بالإسْعافات المُعتادة، شيئاً فشيئاً تستعيدُ “صفية” وَعْيها.. يُعاتبُها ظنّاً منْهُ أنّها أرْهقتْ نفْسَها في أشغال البيت.. تطلب منه أن يجلب غطاءها من الغرفة؛ وأن يتركها تستريح فهي لا تقوى على المُجادَلة. يُقبّل رأسَها ويذْهبُ إلى الغرْفة؛ ليأتي بالغطاء. تصطدم قدمه بألبوم الصور المرْمي على الأرْض… صورة “كوثر” وبيدها قلم رصاص.. يُغالب رجفة قلبه… يُغالبُ انْهِمارَدمْعه… يشعر بالغصّة تذبح حلْقه…
كانت “كوثر” تكْبرُه بسِتِّ سنوات… كانتْ ظلّه وهواءَه، هي نجْمته التي لا تغيب… ترْعاه في غيابِ وَالدتِهما المُوَظفة في إحدى الإدارات؛ بلْ ترْعاهُ حتى في وجودها، أصبحت “كوثر” وكأنها أمٌّ صغيرة تسهر على حاجيات شمس الدين: أكْلٌ، تغييرُ ملابس، استحمامٌ، مراجعةُ الدّروس، المساعدة على حلّ التمارين المدْرَسية، اللعِب داخل البيْت وخارِجه، حِمايتُهُ منْ شقاوة بعْضِ أقْرَانِه، مُصاحبتُه أثناء الزّيارَة لِلأعْمام والعمّة الوحيدة؛ التي سُميتِ الفتاةُ بِاسْمها. يكفي أن تنْظرَ إليْه ليعرف المقصود… إن قامتْ؛ قام… إن قعدتْ؛ قعد… إن أطعمتْه؛ أكل… إن منعتْه من بعض القول؛ اسْتجاب… حتى عند ُمشاهدتهِما لِأفلام الكارْتون؛ يخْضعُ لذوْقها ويبْتهجُ لسماع ضحكاتها الطفولية، وقد يُقلّدها فيضحك وهو يضع رأسه الصغير على كتفها الطريّ؛ فتنْهَرُهُ: “أوفْ… أوفْ…”يتراجع ثم يُغافلها ويقهقه في أذنها ويهرب إلى الحوش المربّع؛ حيث يتوسّط الأخويْن: “محمد” و”صطوف” ويتلصّص على قصصهما؛ لينْقلها فيما بعد إلى بطلته الصغيرة؛ فتكون هي الرشوة العجيبة التي تجعل أخته ترضى عنه من جديد.. إنها المقرّبة من والدها “يوسف”، لا يسمحبأن تُقهر من طرف أخويْها الكبيريْن، حتى ولوكان الأمر مجرّد دُعابة… وكانت تفخر؛ وهي تلمس منزلتها تلك؛ في أعين العائلة. تكْبُر… تتفتّحُ الورْدة… يضجُّ البيْت بحرَكاتِها وضحكاتِها وتعاليقها على أخويْها، يزْدادُ ارتباطها بشْمس الدّين الصّغير؛ فيصبح مَخْبَأ أسرارها الطفولية…
أحلامٌ على المِقْصَلة…
ما بين الولادة والموت؛ يتزحْلقُ دفتر الأقدار على سِكّة الوُجود… من رَقْصة الفرَح؛ تتسلّلُ ضرْبة الألم، وبِعَبيرِ اللقاء؛ تُكْتَبُ دموع الفراق. هي فلسفة الزّمن في قلْب الأحْوال واحْتكار المُحال.. للزّمَن وَتيرته… وله ُمفاجآته.. مَنْ كان يظنّ أن “يوسف” سيترك العائلة؛ ويُهاجر إلى كندا..! يُهاجِر تحْتَ تأثيرِ أحَدِ أصْدقائه… يُراسِل العائلة في الأشهر الأولى من مُغادرته، ثمّ لا يلبث أن تنْقطعَ أخبارُه… يتحوّلُ دِفءُ البيْت إلى صقيع؛ ينْخرُقلب “صفية”.. يتساءل الأبْناء عن مصير والدهم… يخْتنقُ الجوابُ في جُعْبة المجهول… لم تكن “كوثر” لِتُصدّق أن والدها سيخذلها يوماً… وهو الذي كان ُيداعبُها قائِلاً: ” عندما تكْبُرين؛ سأختارُ عرِيسَك بنفسي..! ستذهبين إلى العمل معه، وأنا سأعتني بأولادك… سأجلس معهم في الحوش ذاك… وسأحكي لهم عن طفولتك، عن شقاوتك وتسلّطك على الصغير “شمس الدّين…” تُقهْقِه “كوثر” وهي تقفز لتستقرّ فوق كتفيْ والدها، وتضعُ أنامِلها الرّقيقة على فمِه حتى يسكت… يُقبلُّ الأنامل الغالية، وُيعلق في حُبور: “لسْتِ خجولة… أعلمُ ذلك…” تنزل على الأرض؛ وِبدلالٍ صْبياني؛ تجُرُّ وَاِلدَتَها وهي تُرَدّد: “أسْكتي يوسُفَك…!” تبتسم صفية وقد علق في ذِهْنِها “كافُ الخطاب” المُباغِت مِن هذه المُشاغبة الصغيرة…
اليوم.. أين أنت يا يوسف بعد سنوات الهجرة..!ها هي الطفلة البطلة؛ تفقد السيطرة على نفسها، ها هو عالمُها البهيج؛ ينهارُ مِنْ حوْلها.. تنظر إلى زميلاتها وقدِ اصْطحبَهُنّ الآباءُ إلى المدرسة في الثامنة صباحاً؛ يحملون عنهنّ عبْءَ المَحافِظ الثقيلة؛ في رِحْلة العِلم العسيرة بين حُفر الطريق ومُسْتنْقعاِتها والكِلابِ الضّالة؛ والفِتْيان السّائبة المتربّصة في خنادِق المُخدّرات وأوْحَال التشرّد… تشعر “كوثر”باضطرابات نفسية؛ لاتعرف كيف تشرحها لوالدتها… تخبر أخاها الصغير بألمٍ في رأسها وبكوابيس تلاحقها، يضيقُ نَفَسُها، تلاحظ والدتها شحوبَها وقلة إقبالها على الطعام وعزوفها عن اللعب خارج البيت مع أخيها كما كانت من قبْلُ… تأخذها إلى العيادة، تُطمْئنُها الطبيبة؛ بأن المرحلة عادية، إنها مرحلة البلوغ؛ ليس إلاّ….! تتأرجح صفية بين الشك واليقين؛ وهي تلمس التحولات الطارئة على هذه البنت… تسأل شمس الدين إن كان يعلمُ مَا بِأخته.. يجيبُها ببراءة الصبيان: “أختي لم تعد تلعب معي.. هي تبكي في الحُوش، عندما تكونين في العمل.. وتأمُرُني أن أبتعد عنها…” تحتار “صفية” في تصرفات “كوثر”؛ يستقرّ رأيها على أن تأخذها إلى المُعالَجَة النّْفْسية، وتبدأ حصص العِلاج… البلدة صغيرة، وتوجد بها عيادة واحدة للعلاج النفسي؛ ومقرّها مُحاذٍ للمدرسة التي تدرس فيها “كوثر”. سوء الحظ؛ يجعل زميلاتها يُلاحظْن تردّدها على العيادة، يُقْبِلْن على مُساءَلتها… يزداد فضولهن.. تشعر بالخجل، تزْدادُ عُقْدتُها… ترْفُضُ العلاج..! يتأزم وضعها، النغص يسكن قلوب العائلة… فشلتْ كل المحاولات معها من أجل متابعة العلاج.. لم يبق سوى تجريب الرُّقْيَة الشّرْعية في البيْت؛ حسب رأي مَعارِف “صفية”…بعد استشارة أخيها الكبير؛ “محمّد”؛ قرّرتْ صفية إخضاع البنت لهذا النوع من العِلاج الروحاني…
العلاج يطول، تتماثلُ البنت للشفاء أياماً… ثم تعود لتنْتكِس أياماً أخْرَيات… تذهب إلى المدرسة، وهي تتظاهر بالصحة والعافية، إلى أن كان اليوم الذي سيُوَثّق لِلَحْظة الِانْهِيار في أقسى مشْهَدٍ رَوّعَ القلوب وأبكى الشجر والحجر في شهر الأمطار والثلوج…الثامنة صباحاً تغادِرُ “كوثر” إلى المدرسة؛ ومعها “شمس الدين”، الذي تعوّدتْ أن توصله إلى مدرسته الابتدائية، بنفس الِاتّجاه مع مدرستها…تُقبّله، تُداعِبُ شعره، تُعْطيه حفنة من الحلوى، وتُوصِيه بانْتظارها عند منتصف النهار؛ لتأخذه كالعادة إلى البيت.. يهزُّ الصغير رأسه وهو يُخبِّئُ الحلوى في جيْب المِئزر، ثم يدخل إلى الفناء الواسع وهو يُلوِّح بإحدى يديْه لبطلته الجميلة… تدْرُسُ “كوثر”الحِصّة الأولى من الثامِنة إلى العاشرة، بعْدها تسْتعدّ مع زَمِيلاتها لحصة التربية البدنية، غير أن أستاذ الرياضة؛ يقرر عدم إجراء الحصة؛ لأسبابٍ إدارية. فرح الجميع بفرصة المغادرة للمدرسة في وقتٍ مبكر؛ من آخر أيام الأسبوع… الخميس الأسود.. كما اصطلح سكان البلدة على تسميته فيما بعد…! عادتْ “كوثر” إلى البيت.منذ صغرها عودتْها والدتها على فتح الباب؛ بعد أن سلّمتْها نسخة من المفتاح؛ تُعلّقها في عنقها بشريط حريري؛ وتغطيها بملابسها حتى لا تظهر لِأحد..في الغالب؛ تسْبقُ رجوع والدتها من العمل بربع ساعة تقريباً، فتُجهِّزُ المائدة وتستبدل كراريس الصباح بكراريس المساء، وتُرَاقب مِحْفظة أخيها وتُطعِمه أوّلاً ثم تنْتظرُ قدومَ “صفية”… غير أن هذا اليوم؛ ستتغير فيه الأجِنْدة.. اليوم تعود صفية من عملها مُنْهكة… تتفاجأ بالصمت الرهيب.. تُتمْتِم وهي ذاهبة إلى المطبخ: “كوثر” لم تعُدْ بعد؛ لاشكّ أنها تلهّتْ مع صديقاتها أوْ أنّها..” وقبْلَ أن تستقرّ على رَأي؛ يدْخل “شمس الدين”، تسارعُ والدته إليه، تحتضنه، تلاحظ جموده وهو يبحلق في الحوش المربّع… تهزّه، يُشيرُ بأصْبعه إلى مكانٍ ما… تلتفت “صفية” إلى مكان الإشارة؛ تصرخ صرخة يصل صداها إلى سماء البلدة كلها… تضرب على فخذيها، تنتف شعرها، يزداد صراخها، يدخل الجيران، يدخل المارّة، “كوثر” مُعلّقة في سقف الحوش، في المكان الذي تعوّد والدُها – منْذ زمن – أن ُيعلّقَ فيه خرُوف العِيد…!
حتّى وهي تضعُ حدّاً لحياتها ولِاضْطِراباتِها النّفْسية، تأخذ في أنفها رائحة هديةِ والدتها؛ التي كانتْ قدِ اشترتْ لها خِماراً جَميلاً مُنْذ بضعة أيام فقط؛ بهِ شنقتْ نفسَها، وقبَرَتْ ما تبقّى من سعادة أهلها… كانتْ جنازتها حَدثاً أرْبكَ الشّيبَ والشّباب… وَهَدّ الجِبال…
========================