عناصر اللغة العربية ومكوّناتها المعنوية
خاص “المدارنت”.
كتب أديب الحاج عمر… نشأت اللغة العربية الفصحى المبينة، بعقلها وبرهانها وغاياتها، تامة الحروف، صحيحة المخارج، يتّحد في أصواتها كل مرئي ومسموع، تشعّ بدلالاتها، ثابتة بحججها العقلية الفطرية، ظاهرة بمعانيها وتراكيبها، بارزة في اشاراتها الحيٌة، عن خالق الأشياء ومبدع الأرض والسماء. بهذه الصفات، تمثلت اللغة العربية الفصحى كقوة عاقلة لا تنفصل عن البرهان لوجودية الله، الخالق العظيم، في التفكّر والتدبّر، كما لا تنفصل عن خصائصها المحددة بالصوت والإيقاع والفكر، وأيضا، بحدود المدركات اليقينية، ثم المحددة بالحقائق الثابتة بالعلم، والإيمان، والعدل. أمام هذه النشأة اللغوية العربية، تظهر عناصر مكوناتها والتي تتمثل بـ:
أن المكون الأول يعتبر القوة الكبرى التي تؤلف وتوحد، والتي تحرك الوجدان وتصنع العقول، ألا وهي قوة الكلمة، إنها الاداة السحرية التي غيّرت وجه التاريخ، انها النجم الساطع الذي يستخرج منه العبقريات، فلولا قوة الكلمة، لكانت العزلة، وكان الانتحار والموت، انها الكلمة الفصيحة البليغة، المتميزة بأدق فنون التعبير، الملبية لتوجهات العقل والذوق، انها أداة السيطرة على الإنسان الفرد والجماعة، فالكلمة المعجزة في القرآن الكريم، هي من القوة والوثوق، بحيث كان التحدي الكبير للمعارضين والمشككين، أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بسورة، أو بآية من آياته، ذلك أن القرآن العظيم نزل على الرسول محمد “ص”، العربي، ليكون بمثابة النموذج اللغوي الاكبر للغة العربية الفصحى، هذا النموذج الذي يخاطب العقول، ويحرك النفوس، ويتغلغل القلوب.
وللبيان، فإنه كلما تعاقب النقاد الدارسين، والمتدبّرون للكلمة والعبارة القرآنية، تكشف لديهم وأمام أعينهم، وتلمسوا المزيد من الوان الإعجاز، الذي يجتمع فيه الذوق الرفيع والتوازن السوي والفكر الدقيق والخيال المثير مع واقعية التصوير، حيث بكل ذلك يتم التطابق التام بين الكلمة ومعناها، شكلا ومضمونا، وبه يتحقق غرض التنزيل السماوي. انها حقيقة الإعجاز، التي تمثل الحقيقة الإعلامية في صورتها الخالدة الباقية، انها حياة الإعلام النابعة من اللغة العربية الفصحى، واقعية التصوير، وبليغة الدلالة، ومبدعة الادراك، ومدغدغة القلوب والعقول، تنير حروفها بأحدث المنجزات العلمية والانسانية .
أليس أعظم تراث البشرية هو الكتب السماوية المنزلة؟ ألم يكن القرآن العظيم المعجزة الكبرى للرسول محمد العربي “ص”؟ من المعروف في التاريخ، أن الأنبياء اعتمدوا، وبامر من الله تعالى، وسيلة المعجزات المادية للتأثير في النفس البشرية، هذا الإعجاز المادي الحقيقي الذي بهر الحواس والخيال، بقي لفترة زمنية طويلة، مصدر القوة المؤثرة لدى الأنبياء السابقين للرسول محمد “ص”، من ابراهيم إلى عيسى، مرورا بموسى، واستمر ذلك، إلى أن بلغت البشرية نضجها العقلي، وحققت وعيها الروحي، وتزينت بالذوق الأخلاقي، جاءت معجزة القمة، معجزة الإنسانية العالمية، معجزة العبرة في الكلمة، انها القرآن العظيم، اداته الكلمة التي تحيي وتميت، والتي لا يحدها مكان ولا زمان .
لقد حوت معجزة القرآن العظيم بلاغة الذوق الأدبي، وفصاحة اللغة العربية، ومن هذا الاحتواء الاعجازي، ومن رحم البيان العربي، ولدت الشخصية، ولدت الذاتية، العربية الإسلامية، التي احتفظت باصالتها، العربية الاسلامية، واستمرت بجوهرها، والسبب في ذلك الكتاب المعجز، في القرآن العظيم الذي كان وسيبقى إلى الأبد، حافظاً لفصاحة العربية، وابداع بلاغتها، والتي بدورها عليها واجب لمٌ الشتات وتحقق الألفة والوحدة، إذ جلْ ما يحتاجه العرب اليوم، انما العودة الخالصة للنص القرآني، تعقلا وتدبرا، استنادا للعربية الفصحى التي قد تجلت بلاغتها في تحقيق نهضة العرب وصحوتهم، حضارة علمية، وتقدما ثقافيا .
أما المكون الثاني، فهو القوة الواقعي. أي واقعية الفكر والحوار، هذه القوة تضفي على اللغة الفصحى جمال اعجازها، وبريق بلاغتها، صحيح أن لقوة الكلمة التأثير المباشر في الذات والنفس، ولكنها تبقى مجرد صوت في صياغة تعبيرية فصيحة، لا تلبث أن تفقد دورها في تشكيل النفوس، ثم صقل العقول وتوعية القلوب، حينما تتعرى من مادة الفكر الواقعي. فالكلمة صالحة لطرح القضايا ومناقشتها، ومن ثم لكشف المسائل التي تلفت اهتمام السامع، والشاهد، والقارئ،إضافة لكونها أداة نقل الأفكار الصادرة عن الواقع، ثم تتفاعل معه، فالاجدى بنا اللجوء الى بيان واقعية اللغة وقوة فعاليتها، من خلال تقديم الشواهد الصادقة، والصور المعبرة، فماذا نلاحظ من الظاهرة القرآنية في هذا الموقع؟ أن الوحي السماوي الذي حمل رسالة الإسلام إلى النبي محمد “ص”، لم ينزل مرة واحدة، إنما نزل منجما، وعلى مراحل، امتدت لثلاث وعشرين سنة، وهذا التنجيم، كان لحكمة تعليمية تربوية، اقتضتها سنة الله تعالى في خلقه .
وللبيان، فإن دور الكلمة في صقل العقل وتوعية القلب، يكون أعظم شأنا، وأعمق تاثيرا، حين تتعامل الكلمة مع حادث معين، أو مع فكرة مطروحة، أو مع موقف محدد، وهذا الأمر ما دلّ عليه علم أسباب التنزيل، فالآية أو السورة تهبط وحياَ رداً على ادعاء، أو محاورة مع مكابر، التأييد لموقف، أو تبرئة لمتهم مظلوم، أو تشريعا وتنظيما لأوضاع ووقائع جديدة، لم تكن موجودة من قبل، ونوضح الأمر لمكون الواقعية، نورد بعض الموقف والوقائع:
سورة المسد، نزلت رداً على وقاحة ابي لهب في قوله للنبي محمد “ص” الذي يدعوه وقومه الى الاسلام: ” تبّت يداك، الهذا دعوتنا يا محمد؟ كما وبينت مصير زوجة ابي لهب، التي شاركته في محاربة الاسلام، وفي مكان آخر، نزلت آيات في حال الوليد بن المغيرة، تحكي ما صدر عنه في حواره مع مشركي قريش، فجاء الخطاب الإلهي موجها الى الرسول “ص” بقوله تعالى: “ذرني ومن خلقت وحيدا، … إن هذا الا قول البشر”. أنظر، سورة المدثر -11 – 25 . وفي نفس السياق، أنظر سورة الحجر، 90 – 93.
كما ويجب أن ندرك أن غزوة بدر الكبرى، كانت حدثا بالغ الخطورة والأهمية، وقد تناولها الوحي السماوي، انطلاقا من الأحداث التي سبقتها، ورافقتها، ثم التي لحقت بها، وذلك لأهداف تعليمية تربوية، من حيث مناقشة المواقف، وتحليل النزعات النفسية، وهذا ما تمثل في سورة الانفال، وفي ضوء هذه الواقعة نسجل الملاحظات الأساسية وملابساتها المختلفة. (أنظر “الإعلام الإسلامي والعلاقات الإنسانية” محمد رمضان لاوند).
لقد تميز المنهج القرآني فكرا واقعيا، وبيانا لواقعية اللغة العربية الفصحى، في حمل لواء العلم والحضارة على السواء، ومثلتها خير تمثيل بكل حركة وفاعلية، كما اتخذتها طريقا ومعبرا سهلا الى العقول والقلوب، ولهذا، تركت موقعة بدر أثرين متقابلين:
١- إيجابي لدى المؤمنين الذين تتوثق علاقتهم بربهم، وبفضله تعالى، تعمق إحساسهم بالحضور الإلهي، والرعاية الربانية.
٢- سلبي لدى المشركين، لاحساسهم بقوة الدعوة الجديدة، ثم ضيقت بهم مساحات التحرك والمواجهة .
وهنا تجدر الاشارة الى بروز المكون الثالث: المتمثل في قوة الحق، هذه القوة التي يحتاجها كلا من المكونين الاوليين، لأن قوة الحق تمنحها المزيد من التأثير والفاعلية. ان قوة الحق تعني ضرورة استخدام المنهج الموضوعي، منهج سلامة المنطق، في مناقشة المساءل، وتعليل القضايا، كي تؤدي الى بيان وكشف الحقيقة. ومختصر ذلك بـ:
١- الصدق في تقرير الحقائق… ٢- الموضوعية في مناقشة الأحداث… ٣- التزام التطبيق سلوكيا.
وعليه، نؤكد أن اللغة العربية الفصحى، هي أداة فن الحوار والمناقشة، وهي وسيلة التواصل الانساني، كما وأنها أداة فاعلية تكوين علاقات انسانية إيجابية جيدة. لذلك من الطبيعي أن يكون لدى اهلها أبناء العرب، أولويات.
من أهمها: وضع خطط تنموية، تخص لغتهم، لإنجاح وتحقيق الالتحام الفكري والروحي بين علماء امتنا، علماء دين ودنيا، ثم بين هؤلاء العلماء وأبناء الأمة العربية الاسلامية. وأنه لإنجاز واجب التحقيق، إذ ينبغي على رواد العلم في الدين والدنيا، أن يعدٌوا المواطنين الصالحين، بإعداد عقولهم وقلوبهم، على النحو الذي يجعل من كل فرد منهم قوة علمية واعية، في كل ميدان من ميادين الأنشطة العلمية، مكللة بالعربية الفصحى، التي هي عقيدة وتشريع، التي هي آداب وقيم وسلوك.. إنها نظرية متكاملة الأبعاد، تجسد تشريع السماء على الأرض.