غزة.. وتحولات نظرية الأمن “الإسرائيلية”!
“المدارنت”..
قبل الولوج في تحليل العلاقة بين غزة والأمن القومي “الإسرائيلي”، وأين تقع غزة من هذا الأمن، ابتداءً لابد من التأكيد على أن الحروب الأربع “الإسرائيلية” السابقة على غزة والحرب الخامسة الحالية التي فاقت كل التوقعات والحسابات، تؤكد لنا فرضية أن الحرب هي الأساس والقاعدة في العلاقة، وأننا قد نرى حرباً سادسة في غياب تسوية سياسية شاملة. والفرضية الثانية أن التهدئة ليست الخيار والمقاربة هي التي تمنع الحرب.
والفرضية الثالثة أن “إسرائيل” لن تسمح بتجاوز حدود القوة العسكرية للمقاومة، لأن هذه القوة تشكل من منظورها تهديداً مباشراً لأمنها، وهذا يقودنا للفرضية الرابعة والرئيسية، وهي أن خطورة القوة في غزة ليس بحجمها ولا بمداها، ولكنها تشكل تهديداً داخلياً، أي أن غزة وبحكم وقوعها في قلب الدائرة الأولى للأمن الإسرائيلي؛ فهذا يعني أي سلاح حتى لوكان تقليدياً يشكل مصدر قلق وتهديد، وهذه الفرضية تجعل من الحرب أساس العلاقة.
غزة وكل فلسطين تقع في قلب الدائرة الأولى لأمن إسرائيل، وهذا ما يفسر لنا رفض إسرائيل قيام الدولة الفلسطينية مهما كانت الضمانات بسلميتها وديمقراطيتها. ففكرة الدولة نقيض لأمن إسرائيل. وهذا ينطبق على منطقة القلب التي تمثلها الضفة الغربية. أما غزة ورغم صغر مساحتها التي لا تزيد على 340 كيلو متراً مربعاً، وفقدانها للخصائص الجيوسياسية فهي تفتقر لمناطق القلب والعمق الاستراتيجي مما يسهل وصول القوة العسكرية الإسرائيلية لأي مكان فيها، وهذا ما يقف وراء حجم التدمير للبنية التحتية فوق الأرض وتحت الأرض وعدد القتلى في هذه الحرب.
وما يميز غزة محددها السكاني، فعدد سكانها يزيد على المليونين، وتقترب من المليونين ونصف المليون وهذا يعني أنها أكبر منطقة كثافة سكانية في العالم وهنا تكمن قوتها الحقيقية، وتستمد أهميتها لوجود حركات المقاومة وسيطرتها الكاملة، وهذا الذي يجعل منها مصدر تهديد دائم لإسرائيل لتجاور غزة منطقة سكانية في إسرائيل ما تعرف بمنطقة الغلاف، وهذا يجعل من سلاح المقاومة ذا فاعلية وتأثير ويعزز من قدرته على الوصول للمناطق السكانية.
ونظرية الأمن الإسرائيلي لا تطبق عليها المفاهيم التقليدية للأمن القومي المتمثلة في البقاء وحماية مصالح الدولة ومواجهة التهديدات الخارجية. إسرائيل بحكم قيامها على أساس عنصر القوة وعلى حساب الفلسطينيين، الذين شردوا من مدنهم وقراهم ويعيشون الآن في الشتات والمخيمات، تعتبر التهديد صفة دائمة وملاصقة لوجودها حتى مع قيام السلام مع أي طرف؛ ففلسطينياً، رغم الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة، وتوقيع اتفاقات أوسلو، لكن بقيت الاعتبارات الأمنية هي التي تحكم العلاقة.
فالجنرال الإسرائيلي يسرائيل طالفي في كتابه: «الأمن القومي قلة مقابل كثرة» يعرفه بضمان وجود الأمة والدفاع عن مصالحها. أما الجنرال يهو شافاط في كتابه «حرب واستراتيجية، فإنه يتبنى مفهوماً أكثر شمولية بقوله:«الدفاع عن وجود الدولة واستقلالها وكمالها الإقليمي والدفاع عن حياة مواطنيها، وعن طبيعة نظام الحكم فيها، وعن أمنها الداخلي، والأمن اليومي على حدودها وعن أيديولوجيتها وعن ميزانها الديمغرافي، وعن مكانتها في العالم». وأما شيمون بيريز رئيس الوزراء الأسبق فيقول في كتابه «الشرق الأوسط»: «إن موضوع الأمن لا يمكن اعتباره قابلاً للنقاش أمام رئيس أي حكومة إسرائيلية، إنه موضوع حياة أو موت بالنسبة لنا جميعاً».
وتستند إسرائيل إلى مبادئ ثابتة لأمنها أبرزها التفوق العسكري في الإقليم، إذ لا تسمح لأي دولة أن تتفوق عليها،عسكرياً وهذا سبب امتلاكها لأكثر من مئة رأس نووي، ومع ذلك فهي تعتبر محاولة إيران امتلاك هذا السلاح بمثابة تهديد مباشر لها، والعنصر الثاني، أنّ هناك تهديداً دائماً من خلال الفواعل من غير ذات الدول وخصوصاً حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية.
وعليه، فالأمن لدى إسرائيل ليس مسألة وجودها فقط بل هي مسألة حياة أو موت، وهذا ينطبق على حروبها مع غزة. فالمسألة بالنسبة لها ليست بعدد القتلى من الفلسطينيين، بل إنها تعتبر أن قتل مستوطن إسرائيلي بمثابة تهديد ومساس مباشر لأمنها، وهو ما قد يدفع نحو توجيه ضربات عسكرية كثيفة لغزة وهذا ما ينبغي أن ندركه. فأمن إسرائيل لا يحتمل قتل عدد كبير من مستوطنيها، وينطبق هذا القول أيضاً على الأسرى من جنودها حتى لو كان جندياً واحداً. لذلك تحكم علاقتها مبادئ الضربة الاستباقية لأي قوة. وهذا المبدأ يبرر لها خوض الحرب في أي وقت.
والجديد في علاقة غزة بنظرية الأمن الإسرائيلية أن الحرب الحالية التي جاءت نتيجة عملية الطوفان كشفت الكثير من نقاط الضعف في الاستراتيجية التي تعتمد عليها إسرائيل منذ إنشائها، وهو أمر لم تتعود عليه إسرائيل في حروبها، وقدرة المقاومة على انتزاع ورقة من يوقف الحرب أولاً ومتى وكيف، وسقوط فرضية الردع والضربة الاستباقية. إضافة إلى تراجع مكانة إسرائيل دولياً وبداية اتخاذ مواقف سلبية منها على ضوء ما ترتكبه من جرائم حرب وحروب إبادة.
وعليه أعتقد أن هذه الحرب ستؤدي إلى مراجعة الكثير من فرضيات الأمن القومي الإسرائيلي، وستبقى غزة تشكل إحدى أهم معضلات الأمن إسرائيلياً. ويبقى البديل بقيام الدولة الفلسطينية التي تحل مشكلة الأمن والاستقرار في المنطقة.