تربية وثقافة

فـــرَاشـــةُ الـظـهِـيـــرة..

د. شميسة غربي/الجزائر

خاص “المدارنت”..

دخل “سفيان” مَطعمَهُ المُفضّل… جلس في الزاوية التي تعوّدَ عليْها، المكان يُطلُّ على الشارع الرئيسي في المدينة… نظر إلى دليل الوجبات الموضوع أمامه على الطاولة العريضة؛ تصفّح الدّليل وبدأ ينتظر الخِدْمة…..بعد لحظات قدِمتِ الفتاة المُكلّفة بخدمة الزبائن… سألتْه بِكلِّ أدبٍ عنِ اخْتِيارِه…. أشار بأصبعه إلى إحدى الوَجبات، وكأنّه لا يُريد الكلام…بِلُطفٍ؛ سألتْه إن كان يريد مشروباً غازياً أو عصير فواكه… يكتفي بهزِّ رأسه نفْياً… تذهب الفتاة وهي مُطئطئة…ثم لا تلبث أنْ تلتفت على وَقْعِ صوته: “قارورة ماء إنْ سمحْتِ” تهزّ رأسها أنْ “حاضر” …

“سُفْيان” حديث عهْدٍ بالوظيفة في إحدى المؤسّسات التابعة للدولة، ظل قرابة الأربع سنوات دون عمل… أنْهى تعْليمَه الجامعي، وبسبب إعاقةٍ في رِجْله اليُمْنَى، أُعْفِي الشابّ من الخدمة الوطنية (التجنيد الإجباري). أربع سنوات من التفكير… من اليأس…من القنوط… أربع سنوات من بناء أحلامٍ على أوراق الشجر وبين العشب الأخضر الذي يُغَطّي جانبَيْ البيْت الصّغير في صِراعٍ مع الزّمن… في انْتظارٍ لِلْفرَج… حتّى دقّ بابَهُ مُؤخّراً …

يسكن “سفيان” في قرية نائية، يتنقّل يومياً إلى العمل، فيخرج منذ الساعات الأولى من الصباح في اتجاه مؤسسة عمومية. يقضي اليوم كله في المدينة في مكتبه بأحد الطوابق الإدارية… في المساء؛ مُمْتطياً إحدى الحافلات العمومية؛ يعود إلى قريته الهادئة الجميلة، حيث الوالِدَان في انْتظاره وحيْث نكهة البيت بأكله التقليدي وشايِه اللذيذ، وسُويْعات السّمر عند نهاية الأسبوع؛ مع بعض شباب القرية، بين البساتين اليانعة والسواقي المُنْتشيات تحْت ضوء القمر…

كم كان يرغب في الحصول على عمل يخدم مجال تخصّصه… فهو مهندس طرقات… قضى أعوامه الجامعية؛ ومشروع الهندسة يكبر يوما بعد يوم؛ في أحلامه.. في يقظته… في سرّه… في علانيته… اليوم؛ هو موظف في مؤسّسة تشْكيل الطوب الأحْمر… لا خيارَ لديْه؛ بعْد كلّ هذه السنوات من الصبر؛ لا سبيل للمزيد من الانتظار….

شيئاً فشيْئاً؛ بدأ يستأنس بالفضاء الجديد… موظفون مثله؛ يُمارِسُون أعْمالَهم بَعيداً عن اختصاصاتهم… المُهِمّ؛ أنْ يُؤَمِّنوا حياتهم وحيوات عوائلهم… كثيراً ما كان يتساءل: “هلْ هُمْ سُعَداء حقّاً…؟”  يُسْعِفُهُ الجواب عندما يتأمّلُ حاله….يُحاوِلُ التّأقلم… يُحاوِلُ النِّسْيان…أوْ قُلْ: يُحاوِلُ الهُروب…!

صُكوك الحياة…

إرْتيادُهُ لِنفْسِ المطعَم؛ أثناء تواجُدهِ بالمدينة على مدارِ الأسبوع، سيفتح باباً من العلاقات الطيبة مع العاملين في المكان…على رأسهم المُشرف العامّ على التّسْيير؛ السيّد “بوعلام” الذي كثيراً ما كان يدعوه إلى ارتشاف الشاي معه؛ قبل المغادرة وقت الظهيرة… يتشاركان الأحاديث في شتى ألوان الحياة، ونغَمُ العُودِ العرَبي؛ الصّادر عنْ أحد ِالأبْواق؛ يُضْفي حلاوة على كأس الشاي المُعَتّق…

تمرُّ الفتاة بين الطاولات لِخِدْمة الزبائن.. إنها المُكلَّفة  بالطابق السّفلي منَ المطعم، بينما زميلاتها مكلّفات بالطابق العلوي، وهو الأكثر اتّساعاً، والأكثر عدداً من ناحية الزبائن.. فهو مُخَصّصٌ للعائلات والأصْدِقاء، يأتون جماعات من مُختلف الفئات…. مُثقّفون، تُجّار، أساتذة، مُحامون، يعجُّ بِهِمُ الطابق، فتكثرُ الحرَكة، ويصعُبُ معها أن تسمع عُوداً أوْ ناياً…

“سُفْيان” بسبب رِجْله المريضة؛ يُفضّلُ الطابق السُّفلي.. بمجرّد دخوله؛ تُبادرُه الفتاة بالتحية؛ مُرحّبة به… ثمّ تذهب إلى شأنها حتّى يُناديها…تقريباً؛ حفِظتْ “ليلى”  الوجبات التي يختارها ” سُفيان” .. فهِمَتْ مِزاجَه؛ ولم تعُدْ تقترح عليه نوع المشروب المُصاحب للوجبة؛ وإنّما تكتفي بإحضار قارورة ماء، ثمّ تنْسحِب متمنية له شهية طيبة.

أثناء دردشته مع “بوعلام”  وهما يرتشفان كؤوس الشاي؛ تمرُّ الفتاة  حاملة أطباقاً فارغة باتّجاه المطبخ؛ يرنُّ هاتفها، تُخْرِجُهُ من جيْب مئزرها بِيَدٍ؛ بيْنما اليدُ الأخرى مشغولة بالأطباق.. وهي تُجيبُ على المكالَمة؛ تتعثَّرُ فتسقط… تتدحرج الأطباق وقد انكسرتْ وتبعْثر زجاجها في المَمرّ… يُهرْوِلُ “بوعلام” ، يُسْعفها حتى تقوم… يلحقُ به “سُفْيان”، محاولاً تقديم المساعدة…. يقف مشدوهاً….لأوّل مرّة يُحدّقُ في وجه الفتاة…. لأوّل مرة يعرف اسمها؛ وهو الذي يرْتاد المطعم منذ خمْسة أشهر… ها هو “بوعلام”  يُعينُها على تخطّي الزجاج المُبَعْثَر…: “مهْلاً ليْلى… مهْلاً… لا بأس عليكِ…”

اعتذرتِ الفتاة وأخبَرتْ مُديرَها أنّ المُكالمَة بخصوص تاريخ امتحانات الجامعة…!

بُهِتَ “سفيان”… تتناسلُ اللحظة الآسِرة على صوت “بوعلام” وهو يختصر حكاية “ليلى” بين الرّشفة والأخرى…

“ليْلى”… الفتاة اليتيمة… فقدتْ والدتها منذ زمن…تعيش مع أخويْها التوْأمَيْن وهما في سن العاشرة… أمّا والدُها فهو حيٌّ ميّت… يصْرف رَاتِبَهُ الشهْري على السُّكْر والعرْبدة….

“ليْلى”؛ طالبة أدب في سنتها الأخيرة، اشتغلتْ منذ سنواتها الأولى في العديد من المحلّات قبل التحاقها بهذا المطعم… محلات تنظيف الملابس، محلات بيْع الأثاث، محلات بيْع العطور النسائية، محلات بيْع الأدوات المدرسية وغيرها…. كان أرباب هذه المحلات يُشغّلونها ولكن بشروط صعبة… تشْتغلُ لمُدّة شهريْن أو ثلاثة؛ ثمّ لا تلبثُ أنْ تنْسحبَ مراعاة لالتزاماتها الجامعية. العمل في هذا المطعم بالذات؛ سهّل عليْها الأمْر…اشترط عليها المداومة انطلاقاً من الظهيرة… تفهّمَ “بوعلام” وضْعيتها، لمس أخلاقها العالية وصمْتها الطويل… كانتْ أكبر من عُمْرِها بكثير…. تأسّفَ لحالها… شجّعها على مُتابعة دراستها؛ بلْ وأصبح يتبادل معها الأحاديث عن الأدب شِعْره ونثره، عن الأسماء الكبيرة، عن تلك المقاطع  المحفورة في الذاكرة: “مطر …. مطر”…. “لا تُصالِحْ.”…. “سقط القناع”….. “تقدّموا تقدّموا”…. “بشِعْرٍ نُرَتّله كالصّلاة”… “إذا الشعب يوماً أراد الحياة.”…

كان من المفروض أن يكون “بوعلام” مُدرّساً للادب…غير أنّ والده كلّفه بتولّي أمر المطعم؛ بينما تولّى إخْوتُهُ الإشراف على بعض المحلات التجارية التي توارَثتْها العائلة منْذ سنواتٍ خلتْ…. أدْمن “بوعلام” على اقتناء الجرائد للاطلاع على الأعمدة الثقافية فقط…. لم تكن تهمُّهُ أخْبارُ السِّياسة…ولا أخْبار الكُرة…. وإنّما كان ينْهلُ من العمود الثقافي؛ ما يُمْتِع رُوحَهُ ويُغَذّي خياله…. أصبحتْ “ليلى” تأتيه ببعض الدواوين من مكتبة الجامعة على سبيل الإعارة…يقرأُ بِنَهَم، مُمْتَنّاً لِصَنيعِها….

يستمع “سفيان” للحكاية…. تكْبُرُ الفتاةُ في عيْنيْه…. يوماً بعد يوم؛ تشْغَلُ فِكْرَه…. بعد مرور أشهر طويلة؛ يُقرّرُ إخبار “بوعلام” برغبته في الارتباط بالفتاة…. يسُرّهُ الخبر، يطلب منه التريّث حتى تنتهي فترة الامتحانات وبعْدها يُطلِعُ الفتاة لِمعْرِفة رَأيِها….. يُخْبر والديْه، يُبارِكان ِمطلبه….

 الامتحان الأخير…..

وهي تنتقلُ بين الطاولات، تُقدِّم الوَجبات للزّبائن…. وهي تُهرْول اتّجاهَهُ عنْدما يسْتقرُّ في مكانه المُعْتاد…. بقامتها المُتوسّطة، بأحْلامها المدْفونة تحْت الأهْداب الطوِيلة، بابْتساماتها على اسْتحياء، تطير مثل الفراشة من طاولة إلى أخرى، وقدْ يُناديها “بوعلام” لتجهيز عُلب بعض الوَجبات المحْمولة إلى البُيوت؛ فتنْتقلُ إلى الغُرْفة المُعَدَّة لمِثلِ هذه الطلبِيات، وبسُرْعةٍ بادية؛ تُجهّز المَطلوب، ثمّ تعُودُ لتنْتقل بيْن الطاوِلات في خِفّةٍ تُبْهِج النُّفوس، تُلبّي الطلبات حتّى وإن نادوها إلى الطابق الأعلى لتقديم المساعدة؛ ثمّ لا تلبث أن تنْزِلَ إلى طابقها المُعْتاد في حماس ورِقّةٍ….

خرجتْ من آخرِ امتحان؛ سعيدة، مغتبطة…. شعرتْ أنها أدّتْ ما عليْها…. عرّجتْ على مكتبة الكلية؛ أعادت الكتب والدواوين التي كانتْ في حوزتها، ودّعتْ صديقتها المقرّبة وافترقتا عند باب الكلية…. صديقتها ذهبتْ مع أحد أفراد عائلتها في سيارته الخاصة، أما هي فهرولتْ إلى الحافلة في اتّجاه المطعم… كانتْ تريدُ أنْ تصل بسُرْعة لتُعَوّض وصولها المتأخر بالأمس… تريد أنْ تُخْبرَ مُديرَها بأنّها تتمنّى أن تكون عند حُسْن ظنّه دائماً، كانت تتمنّى أن تشْكرهُ على تشْجِيعِه لها…. وكانتْ تتمنى أن تلحق خدمة الزّبون “سُفيان” الذي أصبح يُناديها بِاسْمِها…. كمْ شعرتْ بالألم وهي تنْظرُ إلى رِجْله المُعاقة…. لاحظتْ تلك العلاقة الطيبة بينه وبين مُديرها “بوعلام”… فهي مَنْ كان يضعُ أمامهُما كؤوسَ الشاي المُعَتّق… فيهزُّ “سفيان” رأسه شاكراً، بينما يداعبها “بوعلام” بمزحته المُعْتادة: “بالسّكّر أو بدون سُكّر..؟” تذهب بانْشراح ودونَ تعْليق…. تفهم أنه يُذكّرها بكذا مَرّة؛ حين كانتْ تنْسى أمْر السُّكّر…

نزلتْ من الحافلة المُكْتظّة بصعوبة كبيرة… جرتْ نحو الطريق، المُقابل للمطعم… تخرج سيارة بسُرْعة جُنونية منَ المُنْعَطف…. وفي رَمْشة عيْن، يحْترق كل الذي كانتْ تريدُه وتتمنّاه….!! على الأرض؛ دِماؤها تسيل….

عجيبةٌ هي الحياة…. تُعْطيك لتأخُذ مِنْك… وغرِيبٌ هُوَ القدَر… يمْتحِنُك… غِرْبالُهُ لا يتوَقّف….

بعد أسبوعيْن، تفتح “ليلى” عيْنيْها…. بصعوبة؛ تُديرُ رأسها يميناً وشِمالاً؛ “بوعلام”، “سفيان” ومعهما امرأة كبيرة في العمر؛ يصْطفّون على الجانب الأيْمن من السرير… في الجهة المُقابلة؛ أخواها ينْظران إليْها بخليط من الفرْحة والارْتباك…. تبحث عن وجْهٍ آخر…تُغْمض عيْنيْها… تسيلُ دمعة… والدُها مشغولٌ بعرْبَدتِه…تنْحني عليْها المرأة، تمْسحُ على رأسها، تهْمسُ في أذنها: “لا بأس عليكِ ابْنَتِي الجَديدة…”.  

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى