تربية وثقافة

في طنجة.. لا تقف التماثيل تحت الشمس..!

 

شعيب حليفي/ المغرب

خاص “المدارنت”..

 

تمثال من حجر

في يوم  من أيام  سنة 1943 والعالم يحترق بنيران حرب كونية لا أحد يعرف نهايتها، رآها الشعراء والمفكرون علامة على نهاية العالم أو التاريخ.في ذلك اليوم، وبتمويل من فرع البنك العقاري التجاري- الاسباني بطنجة، تحت إدارة خوسي أندرو، تمَّ اختيار ساحة بني مكادة بطنجة لوضع تمثال حجري كبير لرجل ملتح بلباس شرقي، على رأسه عمامة موضوعة بعناية فائقة، كُتب لتعريفه بحروف لاتينية: علي باي العباسي. بالاضافة إلى لوحتين حديديتين، الأولى عليها رسمٌ بخريطة للطريق الذي عبَره هذا الرجل. أما اللوحة الثانية فهي رسم للسلطان مولاي سليمان  ممتطيا فرسه وأمامه علي باي العباسي يقدم له الهدايا.

وقد أشاع الإسبان لحظتئذ، بعدما استعادوا السيطرة لوحدهم على مدينة طنجة ( 1940- 1945)، ضدا في فرنسا أساسا، ولم تعد تحت النظام الدولي  الذي كان قد وضع يده عليها منذ أبريل 1904، أشاعوا أن علي باي هو مُحارب جاء إلى المغرب في عهد مولاي سليمان سنة 1803 ليجمع جيشا من المتطوعين المغاربة لإنقاذ الأندلس من الفرنسيين في ذلك الوقت [الفرنسيون الذين كانوا مستعمِرين للمغرب في تلك الفترة ( 1912- 1956)]. تبرير إسباني لوضع التمثال اعترافا بجهود هذا الرجل وحُبه للمغرب والمغاربة المسلمين وأيضا للأندلس التي يعتبرها المغاربة فردوسهم المفقود.

ولمدة تقتربُ من نصف قرن، كان الاعتقاد الشعبي أن سيدي عْلي باي، كما يحبُّ أن يسميه بعض من عامة السكان، هو وليٌّ شريف، مثلما أصبح اسمه علامة تجارية ودينية بالمنطقة ونواحيها، رغم أن  كتابا صدر سنة  1943 باللغة الإسبانية، بعنوان “علي باي في المغرب”، يروي مغامرته بهذا البلد من وجهة نظر الإستعمار الإسباني، وهي الفكرة التي تبناها فرع البنك الإسباني بطنجة.

وفي 21 مارس 1970، سيصدر مقال صغير عن علي باي مع صورة للتمثال بالصفحة الأولى  من جريدة “جريدة طنجة le journal de Tanger” والتي تصدر بهذه المدينة منذ 1904، سنة إقرار طنجة مدينة تحت  حكم النظام الدولي. مقالة موقعة بالحروف الأولى لصاحبها ( E.L)  يوضح فيها  بأن التمثال هو للإسباني ضومينكو باديّا.

 وفي سنة 1973 أصدرت مجلة وزارة الأوقاف المغربية “دعوة الحق”، في عددها المزدوج: 138 و139، مقالة بعنوان صريح: “الجاسوس المغامر: علي باي العباسي بالمغرب”،يفضح فيه صاحب المقالة  حقيقة علي باي، مشيرا إلى تمثاله الموجود ببني مكادة/ طنجة. ثم تُنُوسيَ أمره إلى أن حلت سنة 1988  حينما أصدر الباحث المصري، المتخصص في الأدب الإسباني، الطاهر أحمد مكي، مقالة مفصلة لأول مرة، عن حياة علي باي (ضومينكو باديّا) واصفا إياه بالجاسوس الذي جاء إلى المغرب بنوايا استعمارية في بداية القرن التاسع عشر متنكرا في شخصية عربية. كانت هذه المقالة تحمل عنوان : “أول رحّالة اسباني يزور العالم العربي في مطلع القرن التاسع عشر “. مجلة “الفكر العربي” اللبنانية (عدد 51 يونيو 1988). مجلة ذات حضور ثقافي واسع بين المثقفين والقراء المغاربة.

ثم جاءت حرب الخليج الثانية، التي شنّتها أمريكا وحلفاؤها على العراق (17 يناير – 28 فبراير 1991) وكانت سببا في قيام عدد من المظاهرات في دول عربية كثيرة ومنها المغرب، احتجاجا على التدخل الأمريكي الوحشي في العراق. وصادف، أثناء هذه المظاهرات الحماسية، أن أحد العلماء المغاربة المشهورين، عبد العزيز بن الصديق، وكان مُقيما بطنجة واشتهر بخطبه أيام الجمعة التي تنتقد أوضاع المسلمين، رتّب خطبة الجمعة، التي سيلقيها بمسجد علي باي، مسجد المحسنين لاحقا، والمجاور للساحة التي يوجد بها التمثال، في موضوع انتقاد الغرب وأمريكا وتدخلهم في العراق البلد المسلم، وكذلك التخاذل العربي وما آل إليه المسلمون . وفي هذا السياق أشار – للتمثيل فقط – مستغربا كيف يوجد بين المسلمين تمثال لجاسوس إسباني. فشاع الخبر متزامنا مع خروج ساكنة مدينة طنجة، وعلى رأسها حي بني مكادة، في مسيرة احتجاجية تضامنية مع الشعب العراقي، فصبَّ المتظاهرون جام غضبهم على تمثال علي باي، مهدمين أجزاء كبيرة منه من جهة الرأس  رشقا بالحجارة. وفي الليل أسرعت السلطات المحلية إلى حمل ما تبقى من الحجارة وملامح ضومينكو باديا المتخفي في شخصية علي باي إلى مكان مجهول .

بدون قناع

عاش ضومينكو باديا (1767- 1818) طفولته وشبابه في الأندلس، بغرناطة وقرطبة، مستأنسا بآثار الإسلام والمسلمين، من خلال التجار والتاريخ الأندلسي في حكاياته ومعماره. ولم تكن من ضمن مشاريعه الأولى سوى رغبته في أن يكون عالما فيزيائيا  ومُخترعا، فخاضَ تجربة المنطاد والضغط الجوي، والتي صرَفَ عليها كلّ ما لديه وما اقترضه من غيره، غير أن فشلها  قاده إلى التفكير في مسار جديد، فانتقل إلى مدريد للعمل بمكتبة الضون بابلو مهتما بالترجمة وقراءة المؤلفات الإستكشافية في إفريقيا، متماهيا مع مضامينها ومغامرات أصحابها، فتحمّس لتجربة جديدة ومُغايرة.. مما جعله  يُحرر مُذكرة بعنوان “الطريق إلى إفريقيا”، قدّمها يوم ثامن أبريل 1801 إلى رئيس الوزراء الإسباني مانويل دي كودويْ، وقد كتبَ انه يريدُ التنكر في شخصية مسلم عربي والعبور نحو المغرب، ومنه ينتقل إلى دول إفريقية (زنجبار وكينيا وايثيوبيا وليبيا) لعقد تحالفات سياسية واقتصادية لصالح العرش الإسباني. لكن كودويْ السياسي ، كان يُفكرُ بطريقة أخرى، وهي تغلغل ضومينكو باديّا في المغرب وتحريض المتمردين ضد السلطان مولاي سُليمان  ومساعدتهم بكل الوسائل لتنحيّته. لكن “الأكاديمية المَلكِيَّة للتاريخ” التي تُقررُ في مثل هذه المشاريع ، سجّلت ملاحظات من بينها أن باديّا لا يُتقن اللغة العربية ولم يختر رفيقا له .

وبعد تعديلات وتدخلات لصالحه، سافر إلى فرنسا وإنجلترا ترتيبا لشخصيته الجديدة والتي سيدخل بها  مدينة طنجة يوم 29 يونيو 1803 باسم علي باي العباسي، مدعيا أنه حفيد أحد أمراء الشام .وشرع في إثارة الانتباه إلى شخصيته “السامية” التي تعطف على الفقراء بسخاء وتوزع الهدايا على المسؤولين الكبار بالمدينة. كما سيكشف عن مواهبه الخارقة من خلال التنبؤ بالكسوف يوم 15 فبراير 1804. وهكذا توثقت علاقاته  برجال المخزن ورجال الدين والأعيان مما سهّل عليه الالتقاء بالسلطان مولاي سليمان أثناء زيارته لطنجة، فكسبَ ثقته ودعاه للانتقال معه ليمنحه، بعد ذلك، عدة امتيازات.

أكثر من قناع

إن رحلة علي باي التنكرية إلى المغرب، والتي دامت حوالي ثلاث سنوات، معقدة ومتعددة الغايات والمقاصد ، فهي مُغامرة ومشروع في آن  ويصعبُ الفصل بينهما، ذلك أن رغبته منذ البداية هي مُغامرة شخصية وتجربة جديدة لتحقيق أهداف الغير، باختياره قناعا هوياتيا أكده بالإسم والفعل عبر إقامة كافة الطقوس والشعائر الإسلامية من خِتان وزواج وصلاة وحج في ما بعد. وهي مُغامرة قبِلَ فيها أن يكون جاسوسا بقناع عربي حتى يضمن لشخصيته الحقيقية أن تكون رحّالة وكاتبا وعالما.

ارتبطت رحلة علي باي بمشاريع كثيرة، أولها الميثاق بينه وبين العرش الإسباني في إقناع مولاي سليمان بمنح اسبانيا  عدة امتيازات أو اللجوء إلى خطة دعم الثوار ضده. وقد فشل هذا المشروع؛ وفي المُقابل كان علي باي يقدم مشروعا سخيا لمولاي سليمان، وهو الدستور الذي ألحّ عليه كي يتبنّاه، لكنه فشِلَ أيضا في إقناعه.

وبعد خروجه من المغرب، غيّر علي باي من ولائه للعرش الإسباني لصالح نابوليون بونبّارت بفرنسا، فعرضَ على هذا الأخير مشروع المغرب، غيرأن نابليون لم يتحمّس للأمر فانتهت بذلك مشاريعه تجاه المغرب بعدما باءت كلها بالفشل شأن تجاربه الأولى في الفيزياء.

  وأخيرا..!

أعتقدُ أن علي باي قد نجح في مشروع واحد وهو تدوين سيرته من ثلاثة منظورات وأشكال وجعلها نصوصا تخييلية رائقة وطريفة، بلغة شفافة ممتلئة بأحاسيس ومشاعر شاعر مغامر وتائه ، ودقة عالم حريص .

المشروع الأول، تدوينه لرحلاته إلى إفريقيا وآسيا سنوات 1803- 1807.

المشروع الثاني مسرحيته “علي باي في المغرب”، وفيها يعيد مسرَحة وجوده بالمغرب رفقة السلطان وحاشيته وما وقع له إلى أن غادر المغرب عبر العرائش .

المشروع الثالث، الدستور الذي كتبه وأصدره بالفرنسية، جاعلا  من نفسه امبراطورا على المغرب.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى