قتل المجموعة الصحافية..!
“المدارنت”..
لم تعد السترة الصحافية تعني شيئاً في حماية الصحافيين المحلّيين، الذين لا يزالون قادرين على مجازفة التغطية من الميدان. إلّا أن قتل صحافيي قناة الميادين وتلفزيون المنار، غسان النجّار ومحمد رضا ووسام قاسم، بقصف مركز إيوائهم في حاصبيا (25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي)، قتل من نوع آخر. قتل متعمّد لصحافيين وعاملين صحافيين بعينهم لانتمائهم لمؤسّسات صحافية بعينها. قُتلوا وهم نيام، حتى لا يتسنّى لهم حتى أن يمسكوا بالكاميرا في محاولة لالتقاط لحظاتهم الأخيرة. قبل هذا القتل، والتهديد لصحافيين في غزّة أخيراً، كان قتل صحافيين يُصنّف في إطار استهداف الصحافة بوصفها مجموعة مهنية تمثّل أولوية تمثيل الحقيقة ونقلها. بات القتل استهدافاً لأفراد بعينهم ضمن هذه المجموعة، فيما يُعدّ متعمّداً لصحافيين باعتبارهم ممثّلي خطّ سياسي تعبّر عنه مؤسّساتهم. لم نشهد مثل ذلك قبل 7 أكتوبر (2023)، إلّا إذا اعتبرنا قتل مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة من فصول هذا الاستهداف المتعمّد.
في المجمع السكني نفسه صحافيون من سبع مؤسّسات إعلامية سحبت مراسليها بعد حادثة القتل، ما يفسح المجال للقتل الإسرائيلي أن يحصل في العتمة. وفي الجانب الآخر من حرب الإبادة صحافي إسرائيلي يدوس زرّ تدمير منزلٍ في جنوب لبنان من باب المتعة. رسول الحقيقة يؤدّي دورَ الجلّاد من دون تردّد. المذيع المعروف في القناة 12 الإسرائيلية، داني كوشمارو، قدّم شهرته للدعاية لصالح تدمير منازل في جنوب لبنان، وهو يرتدي سترةً واقيةً وخوذةً ليشرح كيف يقوم الجيش الإسرائيلي بتدمير متفجّرة في مبنى في عيتا الشعب الجنوبية، في تمجيد للبطش الإسرائيلي. لا سؤال عن مهنيّةٍ أو تجرّد، فالمذيع لا يُغطّي الحدث العنيف، بل يصنعه ويُمجّده. صحيفة هآرتس، التي نقلت الصور، وصفت المذيع الذي يقوم منذ عام بالتغطية “الساخرة” للإبادة في غزّة، بأنه تحوّل وسيلةً مفيدةً في آلة البروباغاندا الإسرائيلية.
في حلقة حوارية على شبكة سي أن أن الأميركية، يواجه الصحافي، والمحاور البريطاني ذائع الصيت، مهدي حسن، محاوراً آخر يتّهمه بمعاداة السامية، وعندما يردّ حسن بأنه مؤيّد للقضية الفلسطينية من سنوات، وأنه اعتاد هذه التهمة، يرد عليه محاوره بالقول: “أتمنّى ألا ينفجر جهاز البيجر الخاص بك”، في إشارة إلى تفجيرات الهاتف المحمول التي استهدفت أفراد حزب الله في لبنان. ردّ عليه حسن بالقول “هل قلتَ إنك تريدني أن أُقتل؟”. اعتذرت “سي أن أن” نيابة عن ضيفها، وأعلنت منع ظهوره في منصّاتها، باعتبار “ألا مكان للعنصرية أو التعصب” فيها، بحسب بيان للشبكة.
لا حصانات ممكنة ولا حمايةَ خاصّةً
للصحافي بصرف النظر عن انتماءاته
ليست المرّة الأولى التي يُقتَل فيها صحافي أو يُستخدَم صحافي بوقاً للدعاية للعنف. من أبرز الضحايا أخيراً الصحافي السعودي جمال خاشقجي، الذي قتل بأبشع الطرق في قنصلية بلاده بإسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018. المثال الآخر الصحافية المالطية دافني كاروانا غاليزيا، التي قُتِلت بتفجير سيّارتها في أكتوبر 2017، وكانت شهيرة بتحقيقاتها التي كشفت شبكات فساد ضاربة في بلادها وخارجها، كما كانت من أصوات معروفة بانتقادها الشديد للطبقة السياسية. ويُتّهم رجل أعمال مالطي كبير بأنه وراء عملية الاغتيال، إلّا أنه لم يخضع بعد للمحاكمة. كذلك، أن يتحوّل صحافي بوق دعاية للأجندات السياسية إلى حدّ الدعوة للعنف، ليس أمراً جديداً أو غريباً، كأن تنشر صحيفة لبنانية على سبيل المثال مقالاً يدعو المنتقدين والمعارضين إلى “تحسّس رقابهم” (قبل أن تسقط)، أو دعوات التحريض على القمع، أو حتى القتل في برامج “التوك شو” المصرية، حيث الحملات على المعارضين وغيرهم تستخدم أشكال التحريض كلّها من دون رادع.
سجّل الصحافي “الإسرائيلي” أشواطاً جديدة
عبر مشاركته في العنف وليس بالتهديد به فقط
رغم تقاليد القتل والتحريض السابقة كلّها، بالإمكان اعتبار قتل الصحافيين في حرب الإبادة الإسرائيلية حالةً غير مسبوقة. لا يستهدف القتل صحافياً لتحقيقاته أو انتقاداته، بل هو متعمّد من باب إرسال الرسائل إلى المؤسّسة التي يمثّلها الصحافي أو انتقاماً لسياساتها في التغطية للحرب. رسائل دامية للصغار، حتى تصل إلى الكبار. في سجلّ الأبواق الصحافية في خدمة أجندات السياسة، سجّل الصحافي الإسرائيلي أشواطاً جديدة عبر مشاركته في العنف، وليس بالتهديد به فقط. قد يبدو الأمر “عادياً” في الحروب الأهلية، عندما يعتقد بعض الصحافيين أن لديهم مهمّة تفوّق نقل الخبر، أي المشاركة في الدفاع عن المجموعات التي ينتمون إليها. لا يعني ذلك أن غالبية الصحافيين في هذه الحالة استجابوا لنداء العنف باسم الدفاع عن النفس.
هل نحن إذن جماعة صحافية عالمية واحدة تقودنا (على اختلاف أوضاعنا وممارساتنا المهنية الراغبة في الخدمة العامّة وكشف الحقيقة؟… الجواب: لا. القتل الإسرائيلي المتعمّد لصحافيين بعينهم حوّلنا من أعضاء في مجموعة مهنية أفراداً هشّين، يتوقّف مصيرنا على طبيعة المؤسّسة الإعلامية التي ننتمي إليها أو المجموعة التي نحن منها. لا حصانات ممكنة ولا حمايةَ خاصّةً للصحافي، بصرف النظر عن انتماءاته. لا مجال لضمان التزام أصحاب السلطة بعدم قتل حامل الرسالة مهما كان انتماؤه الأيديولوجي. هل يمكن بعد هذا القتل الممنهج للصحافيين أن يعترض العالم على قتل أصوات صحافية عالية من أمثال جمال خاشقجي أو دافني غاليزيا باعتبار قتلها جريمة؟ لم يثر قتل العاملين الصحافيين الثلاثة، وقبلهم عدد غير مسبوق من الضحايا الصحافيين، أي ردّة فعل صارخة في الجماعة الصحافية العالمية ما عدا بيانات منظّمات الدفاع عن الصحافيين، ما يعزّز الفارق المتزايد بين الصحافة المحلّية وتلك الغربية. لا تزال عائلة المصور الصحافي عصام العبد الله، الذي قُتل برشقات من دبابة إسرائيلية في أكتوبر الماضي تطالب بالحقيقة في مقتله، وقد تقدّمت بطلب إلى لجنة التحقيق الدولية المستقلّة التابعة للأمم المتحدة، والمعنيّة بالأراضي الفلسطينية المحتلّة، لإجراء تحقيقٍ مُستقلٍّ حول ظروف مقتله.
مع قتل العاملين الصحافيين الثلاثة في لبنان، قتلت “إسرائيل” المجموعة الصحافية.