قراءة أولى في رواية “لا تنس ما تقول” لشعيب حليفي.. حينما أكبر سأبني قبة بالربوة..
خاص “المدانت”/ الجزائر.
عن “منشورات القلم المغربي” في الدار البيضاء، صدرت الطبعة الثانية المغربية، بعد الطبعة العربية الأولى ضمن روايات الهلال، لرواية “لا تنسَ ما تقول” للكاتب المغربي شعيب حليفي، توزيع “سوشبريس”. والتي تأتي كتجربة أخرى في مسار السرد المغربي الباحث عن خصوصية مرتبطة بالتخييل المحلي المنفتح، وبالمجال الجغرافي بحمولاته الثقافية التي تحولت إلى سرديات غير مغلقة.
في رواية “لا تنسَ ما تقول”، شخصيتان تقودان السرد وترتبطان بمدينة صغيرة اسمها الصالحية، تولد بها الحكايات الصغيرة لشخوص تحيا أكثر من واقع يطبعه الزمن الذي يصبح ملمحا، تسعى الرواية إلى الكشف عن سيرورته التي لا تقطع مع الماضي. إنها احتفاء بالحكاية والمكان والإنسان والزمن الضائع.
رواية تشكل حلقة من الإبداع الروائي لشعيب حليفي، بعد زمن الشاوية ورائحة الجنة ومجازفات البيزنطي… والمرتبطة بالزمن المغربي في كل وجوهه وبالجغرافية وأسرارها العجيبة.
***
مقطع من الرواية:
حينما نُوديَ على جعفر المسناوي، وكان آخر متهم في هذه المجموعة، تقدم كعادته دون انكسار، شامخا، بلحيته المرسلة، وكوفيته الفلسطينية حول عنقه. وفي اللحظة التي انشغل فيها القاضي بالبحث بين الأوراق، التفتَ جعفر وأبصر صديقه شمس الدين واقفا في الركن الخلفي للقاعة، وبجواره صفاء الزناتي تتمسك بذراعه كأنها خائفة، بردائها الأبيض وقد انطبع على وجهها بعض الاندهاش والخوف، واحمرار خامر وجنتيها البيضاويين، فغدت أشبه بغروب الصالحية في منتصف يناير، كما قال لها أول مرة. تبسّم ابتسامة ماكرة في وجه شمس، قبل أن ينتبه إلى سؤال القاضي:
ـ جعفر المسناوي بن علي الملقب بماو أو الفقيه ماو. هل لديك أقوال أخرى؟
كانت كلمات القاضي سريعة كأنها طالعة من آلة تسجيل. أغلق الملف دون أن ينتظر منه جوابا، غير أنه توقف حينما تكلم جعفر قائلا:
ـ هل تريد، سيدي القاضي، أن أقول الحقيقة؟ (كان، كعادته، يسعى لاستدراج القاضي إلى ملعب آخر).
ـ الحقيقة هي ما نبحث عنه. عجّل.
ـ الحقيقة هي تلك الحمرة التي تعلو وجنتيْ سماء الصالحية وملائكتها وروح تلك التي ضاعت تامسنا في روحها.( قال مستعيدا ما كان قد قاله له شمس الدين في آخر حوار لهما).
ارتبك القاضي، ثم استعاد توازنه بسرعة، وقال له متهكما:
ـ لا أعرف كيف وجدت الشرطة لديك مؤلفات ماركس ولينين وهوشي منه وماو، ووثائق تدعي أنها مُصحف جدك صالح بن طريف.
ـ ( قاطع جعفر القاضي بلباقة) أستسمحك سيدي القاضي. هذه هي الحُمرة التي أتحدث عنها، هي في كون جدي صالح قد سبق من ذكرت، وربما كان أسمى من بوذا.
ـ قاطعه غاضبا، سأرسلك إلى خلوة تستعيد فيها ذاكرتك، وترتب أفكارك آ ولد صالح !!.
ـ أرجوك سيدي، لقد نطقتَ بالحقيقة. إنها خلوة موعودة لي من جدي الذي علمني ما لم تعلم.
استشاط القاضي الضجِر، وقام متوعدا جعفر بنظراته الجاحظة وحركة فمه المتموجة وهو يقول: رُفعت الجلسة للمداولة. وبعد نصف ساعة، عاد لينطق بالأحكام. سنة واحدة حبسا نافذا لخمسة معتقلين، وثلاث سنوات نافذة في حق جعفر المسناوي. صرخت امرأة من داخل القاعة، وضاع صوتها، وهي تستنكر الأحكام، بينما يهمُّ القاضي بجمع أوراقه، ويقوم مسرعا إلى البوابة، يتزاحم مع باقي أعضاء الهيئة.
حول رواية “لا تنس ما تقول..”، كتبت أ. د. شميسة غربي قراءتها الأولى..
التقاطة سريعة… عِشقٌ أبدِي للمكان.. وتوْقٌ كبير للأزمنة التي استضافها المكان؛ وقدّم لها أجمل ما عنده…”شمس الدين الغنامي” أيقونة الوِجهة التاريخية/ الوجدانية؛ التي رسم عليها الكاتب سرده الجديد؛ في روايته: “لا تنس ما تقول” الصادرة عن نادي القلم المغربي؛ 2019. عدد الصفحات: 175.
الإيمان بالعودة الروحية؛ للرمز القديم.. الاجتهاد في ترسيخ الهوية “التامسنية” على مقامات “بويا صالح” «.. ننتظر وعدك بالعودة، الطوفان يُغرقنا» ص 44، تمثيلٌ لِجسْرِ العبور إلى المكاشفة عن فزع النفس وهي عالقة في شِباك الواقع.. لا خلاص؛ إلا بتحقيق الفعل المطلوب في الزمن الموعود؛ بالوجه المعهود…
يوظف المبدع العديد من الشخصيات (جعفر المسناوي، علي النسر، علي أمنصاك نموذج الفارس الذي سيحقق النصر المأمول.. موته يُخلّفُ خسارة كبيرة لدى مُحبّيه.. عسّو السوسي، سعيد صاحب الكرامات، سيدي امْسمّر الطرحة..) شخصيات؛ تتفرّع بها السُّبُل لتحطّ عند ذكرى “الشيخ الهبطي” «من لا تاريخ له؛ لن يخطو نحو المستقبل بشكلٍ طبيعي. ومن لا ذاكرة له؛ لن يستطيع التحديق في الشمس. أما الخيول الرابضة في دروب مجهولة بالغابة والسماء؛ فهي في الِانتظار..» ص 172. «نُسرّجُ خيولنا التي أعياها الانتظار.. فندكّ الظلم والظلام والظالمين..» ص 172. ومن زمن الانتظار الطويل؛ إلى زمن تدوين حكايا التاريخ العديدة، سيترسّخ تاريخ واحد لا سِواه.. «لا أستطيع يا أحمد الكردان أن أكتب إلا تاريخ بويا صالح، أما باقي التواريخ فهي زورٌ وبُهتان..» 143.
شمس الدين يختفي.. ولكن سيعود..! ذاك ما يتأوّله عنوان الرواية: “لا تنس ما تقول”.. فواقعُه: لا تنس ما وعدْت.. تمتدُّ دلالة هذا العنوان، إلى بعض العتبات الداخلية أو العناوين الفرعية التي تعضدُ شعور “اليقين” بأن التاريخ يُعيد نفسه..” الحرابلة قادمون، عودة الطيور، أوصيك.. لا تقلْ ما ستنساه..! وعد قديم، حياتنا حدثٌ واحد..”
وإذا كان قد عُلم أن “شعيب”؛ “باع نفسه للخيال”، فإن هذا الطرح في إبداعه الجديد؛ لا يمكن أن يكون وليد خيالٍ محض.. وإنما هو “قناعة” تخصّ حقّاً مهضوماً، من زاويةِ رُؤية معينة؛ وتخصُّ وجْداناً فاض به “القلق” في زحام الانشغلات الحياتية والصراعات الفكرية؛ فلم يعد بالإمكان كتمان هذا القلق أو التغاضي عن عِلاّته.. “شمس الدين الغنامي” الشخصية الأولى؛ بِعِلمِها وثقافتها وانفتاحها؛ واتساع آفاقها؛ وترحالها؛ تظل دائماً مشدودة إلى “غيْبِيَات” العوْدة إلى “الرحم الأول”.. وإذا لم تكن تلك حقيقة ناصعة لدى البعض؛ فإن المبدع يقرّبها من الحقيقة؛ موظّفاً عنصر دورة الزمن، وما يتمخض عنه من التجديد. «ذاب الزمن في بياض الفجر الذي تململ من شوقه ورمى بكل شيء خلفه، حتى يستطيع التخلص من الليالي الميتة، ويمنح الآتي روحاً متجدّدة وخالدة؛ قريبة من الحقائق التي لا يراها الراؤون..» ص 175. “قلعة بويا صالح”، “ربوة باب السماء”؛ رمزٌ لِامْتِدادٍ تليد؛ يعتصره زمن “الثمانية قرون” ص 79، مُطعَّماً بالحكايا المحفوظة في قلب التامْسنيين، إلى يوم الدّين.. رغبوا في العدالة.. والعدالة حق رباني قبل أن يكون قانوناً بشرياً.. وما هو رباني؛ هو روحي في الأساس، ومن هنا؛ تتسلل فكرة “العودة الروحية” للجد الأول صالح بن طريف.
الرواية جامعة لأحداثٍ ومواقفَ؛ وعاكسة لأوضاعٍ فكرية واجتماعية وحتى استعمارية «دخول الفرنسيين والإسبان الجنوب المنسي» ص 90. إشارات متفاوتة؛ يعلوها ضجر “المثقف” من كل شيء..! (الأستاذة الأندلسية وعلاقتها مع شمس الدين، الفقيه ماو أو جعفر المسناوي ودخوله السجن، الحاج علي، رواد مقهى قتلة الزمن اليومي، فاطمة، سعدية طالبة الحقوق ومأساتها، عيموش السارق..)، يُضاف إلى هذا الكمّ؛ ملمح سخري؛ ُيمَثله المرسوم الخاص بالمسرح؛ والذي نُعِت بـ: “فنّ القجمة”… ص 97. «أنا يا فخامة القجايمي، أريد معرفة مَنْ بداخلي، جعلني هكذا بلا أحلام ولا أمل، معطوب..» ص 103.
تلك كانت؛ التقاطة سريعة حامت حول إبداعٍ سرْدي جديد؛ لِمُبدِعٍ؛ يتنفّس عشق الأرض والمطر والتراث والكتابة التي يعود بواسطتها إلى الزمن الجميل؛ في أسلوبٍ يمتحه من قاموس الصدق الفني والتصوير البارع للجزئيات… أنظر إليه في أحد المقاطع واصفاً: «يستنطقه؛ خلال خمس ساعات (…) داخل قاعة ملأتها أدخنة سجائرهم التي لا تتوقف.. وأعقابها المرمية في كل مكان؛ وقدِ انفلتتْ أدخنتها مذعورة؛ وتجمعتْ حينما لم تجدْ منفذاً تفرُّ منه.. ثم تاهتْ وتراكمتْ وشرعتْ تتخيّلُ حلولاً مستحيلة، ففتّشتْ في الحيطان والشقوق و الأرض، وفجأة؛ تجد مسْرباً أسفل الباب المغلق، وعبر ثقب المفتاح، فتتنهّدُ بأنفاس محترقة، ثم تتسارع متزاحمة ومترنحة؛ كأنها ثملة بلا عقل يَعقلها، تسقط وتقوم وهي تتخيل أنها ستموتُ اختناقاً… وتلك من أوهامها التي تعيش عليها..!» ص ص 46، 47. لله دره وكفى..