قراءة في تقرير «اللغة العربية بوابة للمعرفة» الصادر عن “اليونسكو”
خاص “المدارنت”..
خلال الاحتفالية التي تقام سنويا في منظمة اليونسكو في باريس، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، خُصِّصَت جلسة، لعرض تقرير على جانب من الأهمية، يتناول اللغة العربية، كناقل للثقافة والمعرفة «اللغة العربية بوابة للمعرفة». وهو ثمرة مشروع بحثي ميداني، حول: « بناء مجتمعات المعرفة في المنطقة العربية، ودور اللغة العربية كلغة أمّ في ذلك ». وقد صدر هذا التقرير في عام 2019، عن منظمة اليونسكو. قام بإعداده مجموعة من الخبراء، والأكاديميين العرب المختصين، بإشراف مكتب اليونسكو الإقليمي في القاهرة. وقد بلغ عدد المشاركين في الاجتماعات وجلسات الحوار والنقاش الأولية لإعداد التقرير 172 مشاركا.
يقع التقرير في 278 صفحة من القطع الكبير، مقسمة إلى خمسة فصول. بالإضافة إلى خمسة ملاحق، أتبعت بثلاث دراسات، حول «اللغة العربية، ومجتمع المعرفة» في كل من: المملكة العربية السعودية، ومصر، والمغرب. ويسد هذا التقرير فجوة في موضوع الدراسات حول وضع اللغة العربية ودورها في انتقال الثقافة والمعرفة. ويرد على مجموعة من التساؤلات، تشغل بال اللغويين والتربويين، ومُعِدِّي المناهج الدراسية، بالإضافة إلى علماء الاجتماع، والاقتصاد… ويسلط الضوء أيضا، على السرعة التي يسير فيها انتقال العلوم والمعارف والمعلومات اليوم في العالم العربي، والعالم بشكل عام، والتي تتخطى حجم تفكيرنا كبشر، وذلك بسبب شبكة الإنترنيت، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تروي عطش كثيرين معرفيا وثقافيا…
هذا وقد قام معدو هذا التقرير، بوضع خطة عمل، محددين دوره (ص 3)، «يأتي التقرير ليتعرف على حال اللغة العربية في المنطقة العربية، وعلى طبيعة العلاقات المتشابكة والمترابطة بينها وبين دعائم مجتمع المعرفة». وكذلك وضعوا له أهدافا، من بينها (ص 3)، «ويهدف هذا الكشف التحليلي في نهاية المطاف إلى استقراء فرص واستراتيجيات ومنهجيات تفعيل دور اللغة العربية بالشكل الأنجح في إقامة مجتمعات واقتصادات المعرفة المأمولة »، منطلقين من واقع ووضع اللغة العربية، وكثير من اللغات الأخرى حاليا (ص 6)، « لقد أصبحت اللغات في العديد من الدول النامية في وضع الدفاع عن النفس، ومحاولة تأكيد الذات أمام اللغات المهيمنة الأخرى…». ليؤكد التقرير في النهاية، على بديهية لا ينكرها، إلا جاحد لضوء الشمس، ألا وهي أن اللغة العربية، كانت على مدى قرون غابرة، الحاضن الأساس والفعلي للثقافة، والعلوم، والمعارف، وأداة نقل للعلوم النظرية، من فلسفة وآداب، والعلوم التطبيقية من طب وهندسة وفلك ورياضيات وغيرها…
وقد اعتمد التقرير على مجموعة كبيرة من التقارير، والدراسات الدولية، والعربية، والإحصائيات المنشورة، التي تتعلق بمجتمع المعرفة. وكذلك اعتمد على دراسات ذات علاقة، كأوضاع التعليم في الدول العربية، والبحث العلمي، وتكنولوجيا الاتصال، والمحتوى الرقمي المنشور على شبكة الإنترنيت باللغة العربية. ومما يلفت النظر في هذا التقرير، البحث الخاص بدراسة الحالة في المملكة المغربية، حيث تطرق إلى مجموعة نقاط مهمة، وطرح مجموعة من الأسئلة، منها:
1 ــ ما مدى مساهمة اللغة العربية في إنتاج المعرفة في المغرب…؟
2 ــ كيف يمكن جعل اللغة العربية، ناقل فعلي وحقيقي للثقافة وللمعرفة العلمية، والتقنية…؟
حيث عرض لتجربة المغرب الغنية في هذا المضمار، والجهود التي بذلتها المملكة، في سبيل جعل اللغة العربية وسيلة لنقل المعرفة. إن كان على صعيد الترجمات الكثيرة، في مجال العلوم الإنسانية والتطبيقية، التي تمت وأنجزت في إطار منهجي أكاديمي. أو من خلال وضع القواميس، والمعاجم باللغة العربية، في مختلف التخصصات العلمية والتقنية. وكذلك التأليف مجددا، في مجالات العلوم التطبيقية، باللغة العربية، وذلك كالموسوعة الضخمة، الفريدة من نوعها، الواقعة في خمسة مجلدات، في علم الفيزياء الرياضية، التي قدمها للقراء العرب الأستاذ الدكتور محمد بغدادي، الأستاذ المؤسس لمختبر الفيزياء النظرية، بكلية العلوم بجامعة محمد الخامس في الرباط.
وقد اشتمل التقرير في ثناياه، على نقطتين مهمتين، من الممكن أن تشكلا منطلقا لمؤتمرات علمية، وحلقات بحث ودراسات مستقبلية:
الأولى: وتتعلق بالترجمة، ودورها في نقل المعرفة في الماضي، والحاضر، وارتباطها في التنمية. وهي دراسة مقدمة من الأستاذة الدكتورة إنعام بيوض، رئيسة المعهد العالي العربي للترجمة في الجزائر، التابع لجامعة الدول العربية. حيث تتطرق الأستاذة بيوض من خلالها، إلى العقبات التي تواجه الترجمة في نقل المعرفة، وانقسام المثقفين حيالها، ما بين متشائم كليا، ومتفائل حذر. عارضة لأهم العقبات التي تواجه الترجمة، ودورها في انتقال المعرفة، والتي من الممكن تلخيصها بنقطتين (ص 35):
الأولى ــ « انعدام الوعي لدى أصحاب القرار برهانات الترجمة سواء في مجال الإنسانيات أو في مجال العلوم، علما بأن هذه الرهانات تدخل ضمن الشروط الثقافية والفكرية لإمكانية الإنتاج والتجديد في المجالين ».
الثانية ــ « تتمثل في الضعف اللغوي المستشري في الترجمات بسبب ضعف التأهيل اللغوي العربي لدى بعض المترجمين ». أو بالأحرى لدى غالبية المترجمين.
الثانية: صادرة عن الأكاديمية كلاوديا ماريا تريسو (Claudia Maria Tresso) أستاذة اللغة العربية والتراث العربي، في جامعة تورينو في إيطاليا. حيث تعلن أنها تتحدث العربية الفصحى كـ « لغة قلب »، إلا أنها تعاني من عدم وجود العرب الذين يتحدثونها معها…! فتصرخ بأعلى صوتها « أرجوكم يا عرب نريد أن نتحدث معكم اللغة التي نحبها والتي كرسنا سنوات طويلة من حياتنا لتعلمها ». فهي بالرغم من حبها للغة الضاد، وتعمقها في قواعدها وآدابها، إلا أنها لا تستطيع التواصل مع العرب في بلادهم، بلغتهم الفصحى، وما تعلمته. وهذه معضلة أساسية، تواجه العرب في نقل المعرفة والثقافة، حتى بين العرب أنفسهم. كون الذين يجيدون التحدث بالفصحى قلة قليلة، وكل مجتمع يعتبر لهجته هي الأقرب إلى الفصحى، بل هي الفصحى نفسها…!
ملاحظات
لقد أغفل هذا التقرير في اعتقادي عدة أمور مهمة، يأتي في مقدمتها تخصيص محور يتناول ارتباط انتقال الثقافة والمعرفة بالأنظمة السياسية، ومدى سماح الأنظمة بمرورهما بحرية، وممارستها للرقابة الدقيقة والفجة على المكتوب، والمنطوق، والفكر، والمفكرين بشكل عام… وأيضا حول ارتباط شيوع المعرفة بالحريات، والقمع، والتابوهات الاجتماعية. وهي أمور تعيق بلا شك انتقال الثقافة والمعرفة وتُقيدها. إذ من المعروف بداهة أنه لا ثقافة، ولا معرفة حقيقية، بلا حريات، وعدالة، وسيادة قانون.
هذا في الوقت الذي غرقت فيه بعض فقرات هذا التقرير في التنظير، والتكرار لبديهيات معروفة لكل الباحثين. واعتماده واستشهاده كذلك في بعض فقراته على إحصائيات، وأرقام قديمة. وهو نقص في الدراسة لا يستهان به. فعلى سبيل المثال وخلال الحديث عن مجتمع المعرفة (ص 10)، اعتمد على تقرير لمنظمة اليونسكو صدر عام 2005، وتقرير للبنك الدولي، صدر عام 2002، وأيضا تقارير أخرى صادرة عن هيئات دولية ما بين عامي 2000 و 2010 الخ… وهذا بحد ذاته ينقل التقرير من مجال البحث العلمي الجاد، إلى حيز «التقميش». لأن التغيرات والتحولات التي تطرأ على المجتمعات خلال عقدين، كثيرة ولا تحصى…
ومع أن التقرير، يقر في صفحاته بوجود كثير من الخصوصيات، والاختلافات بين مجتمعات الدول العربية، إلا أنه لم يأخذ ذلك بعين الاعتبار، ولم تعكس دراسة الحالة التي قام بها الباحثون ذلك كما ينبغي. فموريتانيا، تشكل حالة جد خاصة في المغرب العربي، وكذلك السودان، واليمن، والعراق، وبلاد الشام مجتمعة، أو منفردة. فكل منها، تشكل حالة خاصة، قائمة بذاتها، من كل النواحي. فإذا اعتبرنا فرضا أن بلاد الشام (سوريا الأردن لبنان فلسطين) تشكل شبه وحدة ثقافية، وتاريخية، ولغوية… لكان من الواجب تناولها، ودراسة الحالة اللغوية، والانتقال المعرفي، والتحولات الثقافية فيها. وكذلك الحال بالنسبة للعراق، المعروف أنه أكبر دولة عربية تشتري وتستهلك الكتاب.
وفيما يخص ما استند إليه التقرير حول سوريا، فإننا لا ندري كيف استطاع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، الحصول على الأرقام الخاصة بسوريا لعام 2018، ولا مدى مصداقيتها وصحتها…؟ في الوقت الذي تعاني فيه سوريا من الحروب منذ عام 2011، وهجرة قرابة العشرة ملايين من أبنائها، وتوقف التعليم فيها، واهترائه كمنظومة، ومن ثم وضعها في نفس المرتبة مع موريتانيا، البلد المستقر سياسيا واقتصاديا، ويحقق نموا لا تحققه سوريا…؟! وكذلك حصول المغرب على مؤشر 41، فيبتعد بذلك عن سوريا إحدى عشرة نقطة فقط…!
هذا مع العلم أن المدارس العليا التقنية والتطبيقية، في المملكة المغربية، هي من أنجح المدارس في الوطن العربي بلا منازع، وأن طلابها لا يُسْتهان بمستواهم العلمي والمعرفي، ويسيرون جنبا إلى جنب مع طلاب كبريات المدارس العليا في أوروبة، بل ينافسونهم أحيانا… وأن إعدادهم الأكاديمي والعلمي يتم بنفس الأساليب، والمناهج الدراسية، ويتهافت عليهم الغرب الأوروبي، ويقدم لهم كل المغريات، لكي يستقدمهم إليه، ويعملوا في مؤسساته وشركاته الكبرى…
وقد وقع هذا التقرير أيضا في نفس الأخطاء التي وقع فيها كثير من التقارير الصادرة عن حكومات، ودوائر مختصة، في بلادنا. حيث نلاحظ غرق معظم التوصيات في دراسات الحالة في المثاليات، وأيضا من حيث ورودها في دراسات سابقة، أو المغالات في التقديرات، كما في دراسة الحالة المصرية (ص 234) على سبيل المثال لا الحصر. حيث تحدث التقرير عما يسميه « تجربة مصر الرائدة »، والتي هي عبارة عن إطلاق «أكبر مكتبة رقمية في العالم وذلك في كانون الثاني يناير 2016 لإتاحة كل المحتوى المعرفي والتعليمي والبحثي الذي تنتجه كبرى دور النشر العالمية مجانا لكل المواطنين داخل الأراضي المصرية». وهذا مما لا تدعيه حتى الدول الكبرى، التي تفوق إمكانيات دولة واحدة منها، كل إمكانيات الدول العربية مجتمعة، في مجال نقل الثقافة والمعارف.
وبالرغم من ذلك كله، فإن هذا التقرير يبقى عملا ضخما بحق، والأول من نوعه، ويفتح آفاقا كثيرة في دراسة وضعية اللغة العربية، كناقل وحاضن للثقافة والعلوم والمعرفة. والأمل أن يُسْتتْبع بدراسة، وربما دراسات تقييمية بعد خمس سنوات من صدوره، أو أكثر. وذلك لمعرفة مدى، وحجم التغيرات والتبدلات الطارئة، وقياس مؤشرات سرعة التغير سلبا أو إيجابا. وأن يتم التوسع في دراسة الحالات والعينات، فتشمل دولا أخرى، أغفلها للأسف التقرير الذي بين أيدينا. وأن يتم تجديد الأدوات البحثية، والاعتماد على أرقام دراسات وإحصائيات جديدة وهو الأهم…