تربية وثقافة

كتاب مفتوح الى رئيس الجامعة اللبنانية وعمدائها

كتب أمين الياس…

حضرة رئيس الجامعة اللبنانية، البروفيسور فؤاد أيّوب، وعمداؤها الكرام،

أودّ بدايةً أن أتوجّه إلى حضرتكم بكلّ مشاعر الودّ والاحترام والتقدير لما تتحمّلونه من ضغوط في إدارة الجامعة لا سيَّما في هذه المرحلة الدقيقة والصعبة.

حضرة الرئيس، حضرات العمداء،

دخلتُ كليَّة التربية في الجامعة اللبنانية بداية العام الأكاديمي 2015-2016، حاملًا في ضميري وعقلي وقلبي كلّ الآمال وكلّ النوايا وكلّ الحماسة وكلّ الإرادة بأنْ أكون قيمةً مضافة لهذه الجامعة، أخدمها، ومن خلال هذه الخدمة أخدم وطني الذي أحبّ، وأخدم مستقبل لبنان من خلال المساهمة في تنوير جيل المستقبل. لا أخفي عنكم أنّ المسيرة حملت لي القليل من الآمال والكثير الكثير من الخيبات والمعوقات. لكنّني كنتُ دومًا أرجّح كفّة الآمال على الخيبات وأستمرّ في التزامي هذه الجامعة رغم الوضع الوظيفي السيء الذي يجسّده عقد المصالحة -والذي من الأجدر تسميته بعقد العبوديّة المعاصرة- بما يشكّله هذا العقد من إجحافٍ بحق كلّ مستحق بأنْ يتفرّغ في الجامعة اللبنانيّة، وبأنْ يحصل على حقوقه الإنسانيَّة من أجرٍ مستحق، وتغطية صحيَّة، وضمان اجتماعي، وتعويض نهاية خدمة، ومعاش تقاعدي، وتطوير ذاتي ومعرفي. أكثر من ستّ سنين في هذه الجامعة لم يهتمّ أحد لوضعنا ولا لمصيرنا ولا لكفاءاتنا ولا لأحلامنا. اِشتغلنا كمياومين في هذه الجامعة أكان في التعليم أم في البحث مستمدّين طاقتنا من اللحم الحيّ، ومن اضطرارنا للعمل في مؤسّسات أخرى وأعمال أخرى من أجل تأمين العيش الكريم.

لكنّ الأمور ظلّت تذهب مع السنين في الاتّجاه الأسوأ. اِستمرّ ملفّ تفريغنا في الجامعة اللبنانيَّة يتأرجح على الرغم من استحقاق الكثيرين من بيننا، لأسبابٍ معلومة-مجهولة. لكنّ أسوأ ما حصل هو الوضع الذي تركتنا فيه إدارة جامعتنا في السنتَين الأكاديميتَين الأخيرتَين. دخل العالم في أزمة جائحةٍ صعبة، ودخلت البلاد في أزمةٍ غير مسبوقة. اِستمرّت إدارة الجامعة في تأخير ملفّ تفرّغنا وتمييعه، واستمرّ التأخّر الشديد في دفع مستحقاتنا، ما أوقع بنا خسائر بالملايين نتيجة حصولنا على مستحقاتنا متأخّرة، وبالليرة اللبنانية، التي فقدت أكثر من تسعين بالمئة من قيمتها، ما يعني أننا فقدنا تسعين بالمئة من قيمة مستحقاتنا -التي هي أصلًا زهيدة نسبة لأستاٍ جامعي-، والأسوأ أنّ هذه الخسارة كانت بمفعول رجعي لسنتَين إلى الوراء. أي ظلم هذا! أي استعباد هذا! أي استهتار بحقوق الإنسان وحقوق الأستاذ الجامعي في لبنان هذا!

لقد وصلت بنا الحال من السوء بمكان أنّ كلفة التعليم في الجامعة اللبنانية باتت أعلى من الأجر، أو الفُتات، الذي لا نحصل عليه حتى، إلّا بعد سنين من تأديتنا لواجبنا، بحيث أنّ هذا الفتات ذاته بات بلا أيَّة قيمة. النتيجة هي أنّنا صرنا في مرحلة نعرّض فيها أمننا المعيشي وأمن أسرنا للخطر، بعد أن دخلنا، بفعل إهمال إدارة الجامعة اللبنانية، إلى فئة الناس الأشد فقرًا في لبنان. نعم، نحن الأساتذة المتعاقدون بتنا نعاني من الفقر الشديد.

لكنّ أكثر ما يدمي قلبي هو تخلّي القيّمين عن الجامعة اللبنانيَّة عنّا -نحن الأساتذة المتعاقدون. فلا أحد يسأل عن حالنا أو يبدي اهتمامًا. كلّهم يركضون خلف إنهاء العام الجامعي بأيّ ثمن، دون أيّة لفتة منهم لنوعيّة التعليم التي بات يتلقّاها طلّابنا ضمن الشروط الصعبة التي نعيش. نحن اليوم نشهد الموت البطيء ليس للأستاذ المتعاقد فحسب، بل للجامعة ككلّ، إدارة، وأكاديميا، وموظفّين، وطلّابًا، ولا من يسأل ولا من يهتمّ ولا من يطلق صرخة رفض لهذا الواقع المرّ، ولا من يطلق حملة للمحافظة على أحد أهمّ خطوط الدفاع عن الجمهوريَّة اللبنانيَّة وقيمها، ومصنع مستقبلها. كيف لهذا أن يحصل! كيف لنا أن نقبل بما يعاني منه الأستاذ المتعاقد من عبوديّة! كيف لنا أن لا نرتعب من اعتلال الجامعة اللبنانيّة، بما يعنيه من تدهور في نوعيَّة التعليم الذي نقدّمه لطلّابنا- خاصة هؤلاء المنتمين إلى الطبقات الفقيرة جدًا من مجتمعنا. كيف لنخبة النخبة، وصفوة الصفوة، أي الأساتذة الجامعيين، أن تبقى صامتة، لا صوت لها ولا قرار، في الوقت الذي تحتضر فيه جامعتنا، ويحتضر فيه وطننا! كيف لا نخرج بالآلاف، نحن وطلّابنا، لنطالب بالمحافظة على جامعتنا، ونوعية التعليم في هذا الجامعة، ومن أجل أن نحافظ على شعلة الأمل لمستقبلنا إزاء الواقع المرير الذي نعيشه! كيف نسمح بمعاملة الأستاذ المتعاقد معاملة العبد، حيث أصبح هذا “المعتّر” يعمل بحالة تشبه السُخرة، ولا من يسمع أنينه، ولا من يتضامن معه، ولا من يصرخ معه هذا الوجع القاتل، حتى من هؤلاء المفترض بهم أن يكونوا أهل البيت وأهل الجامعة.

حضرة الرئيس، حضرات العمداء،

لقد وصلتُ إلى مرحلة من الصعوبة بمكان أنّني أجد نفسي عاجزًا عن تأمين الضروري من أجل إعطاء الدروس في الجامعة اللبنانيَّة. فأنا لم أعد في وضعية مادية ومعيشية ونفسية تمكّنني من العمل من دون أجر، وهو الأمر الذي كنتُ قادرًا على تحمّله في السنين الماضية، ولكنّني وصلتُ اليوم إلى مرحلةٍ لم تعد إمكانياتي الماليَّة تسمح بذلك. لقد أصبحتُ، وعائلتي، تحت خطّ الفقر بمستويات كثيرة، بحيث أنّني صرتُ مضطرًا أنْ أقوم بالعديد من الأمور من أجل تأمين اليومي والضروري لعيش أطفالي وعائلتي.

ولأنني أرفض أن أكون قابلًا بذهنية العبوديّة التي يُعامل بها الأستاذ المتعاقد في الجامعة اللبنانيّة،

ولأنني أرفض أن أكون صامتًا على الاعتلال والاحتضار التي تعاني منه الجامعة اللبنانية من دون أن يطلق أحد من أهل بيتها صرخة حق مدوّية للدفاع عنها، وعن نوعية التعليم فيها، وعن مستقبل طلاب لبنان المنتمين إلى الفئات الدنيا من مجتمعنا. في الوقت الذي كان علينا، نحن أهل الجامعة، أن ننزل بالآلاف متظاهرين للدفاع عن جامعتنا، وعزّتها، ونوعيّتها، ومستقبلها، وعن حق طلابنا بالاستحصال على تعليم نوعيّ، لأنهم هم بناة المستقبل، وللمطالبة بحق أساتذتنا بالعيش الكريم، لأنهم هم من يصنع نواة هذا المستقبل،

ولأنّني أرفض أداء إدارة الجامعة اللبنانية وأساتذتها حتى اليوم إزاء ما يحصل لوطنهم، فلا صوت لهم، ولا صرخة حقّ للدفاع عن جمهوريتهم وقيمها الإنسانيًّة، ومستقبلها الواعد. كيف يمكن بعد كلّ ما حصل لنا، أنْ لا تنتفض النخبة اللبنانية (بأساتذتها، وقضاتها، ومحاميها، وأطباءها، وإعلاميّيها، وعمالها، إلخ)، وهي المفترض بها أن تكون الحارسة الفعليَّة للبنان ولديمومته واستقراره، وازدهاره، وتطوّره،

ولأنني أجد نفسي على تناقض تامّ مع ما أعلّمه لطلابي من قيم مواطنية، وأخلاقيات مهنية. فلا يمكن أن أعلّم طلابي ثقافة الحقوق والواجبات فيما أنا خانع عن الدفاع عن حقوقي كأستاذ جامعي، وعن حق طلابي الذين يستحقون أفضل نوعيّة تعليم،

ولأنني أرفض أن أكون جثّة مرتعشة، تأكل وتشرب وتنام وتتناسل فقط،

ولأنني ببساطة أرفض الموت،

أعلن، وكخطوة أولى، عن إضرابي وامتناعي عن إعطاء الدروس حضوريًا أو عبر الأونلاين، وعن القيام بوضع أسئلة الامتحانات وتصحيحها، حتى تقوم إدارة الجامعة بأداء واجبها تجاهي وتجاه الطلّاب، وتجاه الجامعة نفسها، وتجاه الوطن.

رجاءً أنْ تقبلوا مني كل مشاعر التقدير والمحبة.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى