كيف تنجو سوريا من «نظام الأبد»؟
“المدارنت”..
شهدت سوريا، منذ السادس من الشهر الحالي، تدهورا أمنيا غير مسبوق، أدى إلى أسوأ موجة عنف منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون أول/ ديسمبر الماضي. بدأت الأحداث مع قيام مجموعات مسلحة مرتبطة بالنظام السابق بهجمات واسعة منسقة مما أطلق عمليات دفاعية للقوات الحكومية شاركت فيها فصائل عسكرية محلية، وتنظيمات إسلامية أجنبية، بالإضافة إلى مجموعات محلية من المدنيين المسلحين الذين قدموا لدعم القوات الحكومية. تطوّرت عمليات ملاحقة المهاجمين من الموالين للأسد إلى مواجهات عنيفة ارتكبت خلالها انتهاكات جسيمة بطابع انتقامي وطائفي.
حسب «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» فقد كان للفصائل المحلية والتنظيمات الإسلامية الأجنبية التابعة شكليا لوزارة الدفاع الدور الأبرز في ارتكابها. شمل ذلك عمليات قتل جماعي ممنهجة، واستهداف المدنيين، بمن فيهم أفراد طواقم طبية وإعلامية وعاملين في المجال الإنساني، كما طالت الانتهاكات المرافق العامة وعشرات الممتلكات العامة والخاصة، متسببة في موجات نزوح قسري طالت مئات السكان، ووثقت الشبكة عدد القتلى بين 6 و10 آذار/مارس بـ 803 أشخاص قتلوا «خارج نطاق القانون» بينهم 39 طفلا و49 سيدة، و27 من الكوادر الطبية وذلك في محافظات اللاذقية وحماة وطرطوس وحمص، فيما قدّر «المرصد السوري لحقوق الإنسان» حصيلة القتلى، حتى أمس الأربعاء، بـ1383 «غالبيتهم العظمى من العلويين».
تمثّل أحداث العنف الجارية في سوريا انفجارا فظيعا، إلى حدّ كبير، لتفاعل عوامل تراكمت خلال أكثر من نصف قرن من حكم طغيان الأسدين، الأب حافظ، والابن بشار، و14 عاما من الإجرام المهول ضد الثورة الشعبية السورية عام 2011، شكّلت الطائفية إحدى أدواته التي استهدفت بشكل ممنهج ومتقصد المكوّن الاجتماعي السنّي الذي قتلت وعذبت واختطفت منه مئات الآلاف، ودمّرت حواضره ومدنه وبلداته وقراه، ودفعت الملايين إلى اللجوء والنزوح.
أدى هذا التسعير الطائفي للسياسة والاجتماع السوريين، وانعدام الأمل بحماية دولية للسوريين (وخصوصا بعد تراجع الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن «خطّه الأحمر» فيما يخص استخدام نظام الأسد الأسلحة الكيميائية) وإحباط جمهور الثورة من إمكانيات التغيير، في اشتداد نزعات التطرّف الديني، والوعي الطائفي، واستقواء الاتجاهات الجهادية الراديكالية، وتضافر ذلك مع عقابيل الاحتلال الأمريكي للعراق، والحرب الطائفية بين الشيعة والسنة التي تبعته، في تعزز شعبية تنظيم «القاعدة» وخلفه تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي اجتاح شمال شرق سوريا وأعلن «خلافة» في مدينة الرقة عام 2014.
معلوم أن الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع كان أحد «المجاهدين» الذين ذهبوا للعراق لقتال الأمريكيين وأنه بعد سجنه وإطلاق سراحه عاد إلى سوريا مع أشخاص قلائل حيث أنشأ تنظيما سلفيا مسلّحا («جبهة النصرة») ثم أعلن على التوالي انشقاقه عن تنظيمي «الدولة» و«القاعدة» (وحربه عليهما) واتخاذه اسم «هيئة تحرير الشام» التي صارت أكبر الفصائل التي حكمت محافظة إدلب وصولا إلى هجومها الكبير الذي قضى على نظام الأسد.
يظهر التدرّج الزمنيّ الآنف مسارا معقدا للتطوّر من «الجهاد ضد الاحتلال» والتطرّف السلفيّ المسلّح الكاره للعالم، إلى تصالح للتديّن الشعبي مع الوطنية السورية والعداء لنظام الأسد، وهو مسار ما زال يتطوّر باطراد، ولكن ليس من دون عوائق كبرى، داخلية، كما حصل في هجوم الفلول، أو خارجية، وهو ما تمثّله هجمات وتوغلات وتهديدات إسرائيل.
لا تصلح «جهادية» وسلفية «هيئة التحرير» والفصائل الإسلامية الأخرى، لتفسير ما يحصل حاليا، فنظام الأسد المخلوع، «العلماني» و«القومي» و«الحداثي» كما اعتادت أدبيات غربية وعربية على وصفه، كان، إضافة إلى تغوّله الطائفي، نظاما إباديا بالتعريف (يتحدث «حفار القبور» الذي شهد في محكمة ألمانية أن النظام كان يدفن قرابة 7000 شخص كل أسبوع يتم تجميعهم من سجونه ومراكز اعتقاله) كما أن أغلب التيارات السياسية العربية، قومية وشيوعية وإسلامية، تسببت بمجازر.
تشير الخطوات السريعة التي اتخذتها السلطات السورية الحالية، من إعلان لجنة للسلم الأهلي ولجنة للتحقيق في أحداث العنف الأخيرة، إلى افتراق ملحوظ عن النظام السابق، كما تشير الخطوات السياسية، السريعة أيضا، من إعلان اتفاق أولي مع الأكراد، و«محضر تفاهم» مع دروز السويداء، إلى اتجاه محمود إلى التعاطي مع المكونات السورية يقطع بشكل كبير مع ممارسات نصف القرن الماضي لحكم الأسدين.
يرغب السوريون في دولة تمثّلهم وتضمّهم جميعا، بمن فيهم العلويون والدروز والأكراد وباقي المكونات الدينية والإثنية، ويتحوّل فيها السنّة من طائفة وعصبية (بسبب مقتضيات الصراع) إلى جزء من المكوّن العام، يسهم في ضمان العدالة والتنمية والاستقرار، ليس بالمحاصصة واتفاقات الطوائف، بل بنظام مدني ديمقراطي ليعيد سوريا إلى سكّتها التاريخية العظيمة ويشرك الجميع في البناء ويوفر آليات الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي وينهي «نظام الأبد» الأسدي إلى الأبد.