ما يْدومْ حال تراجيديا عيسى بن عمر العبدي..!
خاص “المدارنت”..
يعلو صوت المغني الشعبي عاليا وعاليا حتى يلامس أقصى نقطة تبلغها المناحة، ثم تتبددُ جزيئاتها متناثرةً في السماء بعدما كانت صوتا واحدا، لتسافر مع الرياح تُخاطبُ دم الشاعرة حادّة الزيدية وروحها الهائمة، في كل مكان وزمان، لعله يفسر ما وقع ويملأ الصمت الحزين. يناديها بصفاتها التي ميّزتها عن غيرها: خربوشة، زروالة، لحمرا، لكْريدة..
نعوت وصفات ترسم للشاعرة والمغنية ملامحها الظاهرة بقامتها القصيرة والمكتنزة، خربوشة بخدّيها السمراوين وما ظهر عليهما من ثقوب صغيرة. زروالة بتلك الزُّرقة اللافتة في عينيها المفتوحتين على عالم لا يراه أحد سواها، سمراء بلون يميل إلى حُمرة التراب، ذات شعر مجعد متروك فوق رأس امرأة ڭوْطة استطاعت أن تفتح صفحة جديدة في كناش التاريخ الشعبي، شهيدةَ شعرها وقد نظمتهُ وغنتهُ بصوتها الخرافي الذي كان وحده كافيا وقادرا، مع ضربات البندير فقط، على هزّ وتقليب سهول وهضاب الشاوية ودكالة وعبدة واحمر وتادلة بمحاريث ساحرة.
الفصل الأول في سيرة عيسى بن عمر
هذا هو القرن التاسع عشر، من القرون الأكثر حضورا وامتدادا في تاريخنا الحاضر، قريب منّا نحسّه ونسمع صخبه وهسيسه، فأحداثه وأعطابه وبعض أحلامه وأسئلته المعلقة ما تزال حيّة ومستمرة في الذاكرة والثقافة والخيال. من معطياتها الفارقة وجود عدد كبير من رجال السلطة ممن كانوا “قُيّادا” مُستبدّين على ممالك صغرى، بما خلفوه من أفعال تحوّلت إلى حكايات لا يمكن فهمُها دون العودة إلى السياق العام للظاهرة القيادية بالمغرب. لكن القائد عيسى بن عمر على عبدة (1879-1914)، ستؤرخ لحكايته التراجيدية شاعرة وفنانة شعبية اسمها حادّة الزيدية أو حويدة أو خربوشة، لمّا استشعرت الظلم الذي طال قبيلتها فهجته وانتقم منها بقتلها لتولد الحكاية وتخلد القائد المستبد والشاعرة الشهيدة.
في ما تواتر من أخبار حول عيسى بن عمر، أنه كان واحدا من كبار “القيّاد” الجهويين بالمغرب، ولد سنة 1842 من عائلة راكمت الثروة من التجارة والارتباط بالسلطة والقيّادة منذ سنة 1847. وقد تدرّج عيسى في القيادية نائبا لأخيه مدة خمس عشرة سنة وعمره إحدى وعشرين، ثم تولى القيادة في السابعة والثلاثين من عمره سنة 1879، وسيستمر فيها لمدة خمس وثلاثين سنة إلى أن تم عزله من طرف الحماية الفرنسية سنة 1914. امتد نفوذ قيادته، في أوج قوته، من منطقة الواليدية بدكالة وما وراء نهر تانسيفت إلى مجال مراكش غربا، وخلال هذه الفترة عاصر ستة ملوك، هم: مولاي عبد الرحمان ومحمد الرابع ومولاي الحسن ثم أبناؤه عبد العزيز وعبد الحفيظ ويوسف.
وتَطرحُ سيرة عيسى بن عمر قضايا جوهرية في الكتابة التاريخية، ذلك أن فترته لا يفصلنا عنها سوى قرن وبضع سنوات، وفيها من المفارقات في الآراء والأحداث والتقييمات ما يبدو متنافرا، كأنهم يتحدثون عن شخصيات عدة وليست واحدة؛ ففي العقود الثلاثة الأخيرة، شغل الباحثين في سياق البحث في التاريخ المغربي والجهوي، وحول الظاهرة القيادية ومرحلة ”السيبة” أو الانتفاضات الشعبية والاحتلال الفرنسي، وكان هناك أكثر من فريق ممن كتبوا في هذا الموضوع، من سعى وراء الروايات الشفوية وبعض القرائن والأحداث وكتبَ إيجابا أو سلبا عن الرجل لتبرير بعض أفعاله ضمن السياق التاريخي المطبوع بالفتنة والتدخل الأجنبي تمهيدا للحماية، ولجأ آخرون إلى إصدار أحكام وكتابة أي كلام بدون سند مرجعي للإعلاء من صورته دفاعا عنه أو للحط منه، فيما اتخذ فريق آخر من تقتيله في قبيلة أولاد زيد وقتله لحادة الزيدية مجالا للإبداع وتحوير الأحداث بقصد الإدهاش في مشهد مُفارق بين مغنية شابة وحاكم مستبد.
جميع المعطيات الموجودة هي نسبية، لكن الواقع وعدد من المعطيات والحقائق التابثة لا يمكنها تصديق القائلين بدون حجة أنه كان قائدا ورعا ووطنيا لامعا ورافضا للاستعمار وأن انتفاضة أولاد زيد كانت من تدبير فرنسا التي كانت تمدّهم بالسلاح. ويكفي، فقط، التذكير بمعطيات لا خلاف حولها:
أولا: مشاركته في قمع انتفاضات وتمرد القبائل؛
ثانيا: التقتيل الوحشي لقبيلة أولاد زيد غدرا بهم في مجلس للتفاوض حول حقوقهم، وإعدامه لشاعرة ومغنية احتجت على ما فعله في قبيلتها؛
ثالثا: لم يتحرك أو يساند انتفاضة الشاوية والدار البيضاء في غشت 1907ضد الفرنسيين الذين قتلوا أزيد من خمسة عشر ألف مغربي من العُزّل، كما لم يُساند باقي الانتفاضات في مجموع المغرب والتي استمرّت طويلا؛
رابعا: دعمه لفرنسا واحتلالها المغرب وتعاونه معها لضرب أي انتفاضة ضدها. وكل الدلائل تؤكد أنه كان على وفاق مع الاستعمار الفرنسي من أجل الحفاظ على منصبه قائدا، كما فعل غيره من كبار “القيّاد” في تلك المرحلة.
خامسا: امتثاله لأمر عزله من طرف الفرنسيين دون احتجاج أو مقاومة.
لم يكن القائد عيسى بن عمر مَلاكا أو وليّا صالحا ولكنه إنسان وابن عصره بكل تقلباته وأعطابه ومخاوفه الظاهرة والباطنة، ولم تكن أفعاله معزولة عن السياق العام الذي يجري بأفعال أشدّ وأقسى، ولعله كان يعي، من موقعه، بالنفق الذي يدخله المغرب أو كان قد دخل نصف المسافة فيه، وكانت الأحداث سريعة واتخاذ القرار بالنسبة إليه محكوم بوعيه المشدود إلى السلطة ورغباته، كما اتخذ من نموذج السلطان وعجزه مثالا، وهو أيضا الذي عاش، منذ شبابه، في قمع الانتفاضات ومحاربة الثوار فترسّخَ لديه شعور برفض الانتفاض وقبول الخنوع لأي حاكم أقوى يسانده ويدعم وجوده.
يروي فريدريك ويسجربر في يومياته “على عتبة المغرب الحديث” حكاية لقائه بعيسى بن عمر ، أول مرة سنة 1898 وهو ضمن الحركة العزيزية ضد تمرد القبائل، ثم في سنة 1912 من أجل تعاونه العسكري مع الفرنسيين ضد ثورة الهيبة بمراكش، يصفه في الفصل الثالث والعشرين كيف كان يحيا حياة سيد إقطاعي عظيم، وسط إخوانه وأبناء عمومته وخؤولته وأصهاره والكثير من العبيد والفرسان[ بالإضافة إلى أبنائه الذين تجاوزوا 47 ابنا وابنة، من ست زوجات: ابنة عمه وأم هانئ ابنة أحد قادة الرحامنة ثم فاطنة هدية المولى الحسن له، وهي أرملة أخيه مولاي محمد، وعيطونة ابنة قائد قبيلة احمر والبيضة ابنة زعيم ثوار أولاد زيد وشميسة ابنة شيخ زاوية بقبيلة ابزو،] وقد كان مولعا بالخيول الجيدة والسروج الفاخرة والأسلحة الراقية والصقور والطيور القانصة والسلاقي التي امتلك منها أزيد من مائتين. يذبح يوميا ثورا وعشرين خروفا والمئات من الدجاج.
يرسمُ له “ويسجربر” صورة خارجية دقيقة وقد التقاه في عبدة سنة 1912، وكان قد بلغ من العمر سبعين عاما بقامته المتوسطة وبدون سمنة،وسُمرة لونه البارزة على وجه ذي ملامح عربية، بلحية مُشذبة لونها أقرب إلى الرمادي، يلف على رأسه عمامة بيضاء من ثوب المُوسْلين الرفيع،ويرتدي سلهاما أبيض اللون شديد النظافة. خطواته باتت بطيئة أثر جرح قديم في ساقه وداء المفاصل الذي لا يخفيه وهو يخضع للتدليك.
ظل عيسى بن عمر سجين وعيه المغلق ولم تكن له قدرة التحوّل واتخاذ القرارات الجريئة في أكثر من لحظة منذ وفاة الحسن الأول. فقد بايع المولى عبد الحفيظ، سنة 1908، دون أن يفرط في ولائه للمولى عبد العزيز، ورغم ذلك كافأه السلطان الجديد فأسند إليه وزارة الخارجية، وهي وزارة البحر والشكايات. وحينما انتقل إلى فاس كان صديقا مخلصا للقنصل الفرنسي هناك، لكن الصدر الأعظم القوي، المقري، لحظتئذ رأى فيه منافسا وطموحا في المرحلة الجديدة، فاستحضر علاقاته القوية بالسلطان المخلوع وحقد عليه وعمل على عزله من منصب الوزارة والقيادة، وبقي بفاس في حالة نفسية صعبة متقربا من الفرنسيين، وفجأة يظهر السفير يوجين رينو في المشهد، وهو الديبلوماسي الداهية الذي قاد المفاوضات مع المولى عبد الحفيظ والمُفضية إلى توقيع معاهدة الحماية، فيتدخل لصالحه ويعيده إلى منصبه على قيادة عبدة مكتفيا ببلاد احمر وآسفي فقط.
في الحادي عشر من شهر أكتوبر، سيجتمع المقيم العام الجنرال ليوطي بالرباط مع كبار “القيّاد” بالمغرب آنذاك، وكان عمر بنعيسى المتحدث الرسمي باسمهم قد عبر باسمه واسم الجميع عن مساندة فرنسا في كل ما ستطلبه منهم وأقسم على ذلك. ورغم ذلك، عاد الفرنسيون ضمن ترتيباتهم الجديدة فعزلوه سنة 1914 ونفوه إلى مدينة سلا حيث بقي إلى حين وفاته في السادس من شتنبر 1924 عن عمر 82 سنة وبها دفن، قبل أن يتم نقله ودفنه مرة أخرى بعبدة. ومع بداية الألفية الثالثة، عاد اسمه إلى الظهور مرتبطا بحكاية حادة الزيدية في مقالات وكتب واستعادة جل “العيطات” القديمة في حلة جديدة وإبداعات أخرى، كما تم إنتاج مسلسل وفيلم سينمائي ومسرحية، مما أثار انتباه بعض اللصوص في سنة 2015 فتسللوا بالليل إلى قبره المفترض وعاثوا فيه فسادا بحثا عن كنز ما، كما لو أنهم اعتقدوه من سلالة الفراعنة الذين يدفنون معهم الذهب والجواهر، لكنهم لم يجدوا سوى العظام البالية.
صورة مُفارقة تجمع الضدين: الدهاء والرحمة والبطش، وبين صورة الرجل الذي ربما كان يتمنى أن يكون.. ورعا متعطشا لمجالسة العلماء والفقهاء والإكثار من الذكر، مقابل الرجل الزهواني، عاشق سهرات العيطات الحصباوية الرفيعة. وما شاع عنه من بذخ وتمييز بين أهل قبيلته والقبائل الأخرى، وما كان يُقْدمُ عليه من إثقالهم بالضرائب، حتى لو صادفت سنوات القحط والأمراض ..
عيسى يا ابن عمر، أتفهّمُ ما كنتَ فيه. الزمن الصعب يوّرثُ أبناءَه العلقم، كنتَ ذا دهاء بدون ذكاء أو رؤية فاقدا بصيرة النهر في المنعرجات. لقد غرّتكَ الأوهام الخاطفة وسهوتَ فأكلكَ من هم أدهى منك، وكنتَ بسلهامك الأبيض مثل الثور الأبيض في مآدبهم.
ليتني أتخيّلُ العشر سنوات التي قضيتها بسلا معزولا بذاكرة من رماد ، هل تذكرتَ حادّة التي دفنتها حية وأنتَ تعتقدُ أنك ستدفنُ صوتها وحكايتها؟. هل تذكرتَ أولائك الرجال الفرسان الذين قتلتهم غدرا ومن بقي منهم أودعتهم السجون رهائن ؟ ألم تكن بصيرتكَ صافية لتدرك أن أولائك الذين قتلتهم وسجنتهم، لو صادقتهم وآمنتَ بهم لكانوا فرسان الله في مواجهة الاستعمار مثلما فعل قادةٌ، أقل منك عددا وعُدّة، بسهول الشاوية وهم يتقدمون فرسانهم دفاعا عن البلاد والعباد واستشهدوا أحرارا أو عاشوا مجاهدين.