مقالات

لبنان وسوريا.. تشابك جيو/ سياسي أمام فرصة تاريخية

“المدارنت”..
تشير الاشتباكات الحدودية بين لبنان سوريا إلى أبعد من مواجهة مسلحة على حدود سائبة بين عشائر موالية لحزب الله وأفراد من الجيش السوري. فالعلاقات بين الجارين متداخلة ومعقدة، مثل الحدود الفاصلة بينهما تماما، ما يجعلها تتطلب تحديدا لرسم ملامحها والنهوض بها لتحقيق المصلحة المشتركة التي يفرضها التشابك الجيوسياسي والتاريخ الواحد.

فرصة تاريخية لن تتكرر
ولعل سقوط نظام بشار الأسد الذي أسهم، بطريقة أو بأخرى، بانتخاب جوزيف عون رئيسا للبنان بعد أكثر من سنتين من الفراغ في المنصب، وتلاه تنصيب أحمد الشرع رئيسا لسوريا الجديدة، يؤسس لفرصة تاريخية قد لا تتكرر لتدشين مرحلة جديدة في تاريخ البلدين، في مناخ إقليمي عربي داعم. إذ لأول مرة منذ 48 عاما يتحرر لبنان من هيمنة النظام السوري البائد على قراره ومقدراته، سواء بالاحتلال العسكري المباشر منذ 1976 حتى 2005، أو لاحقا عبر وكلاء من الأحزاب والسياسيين اللبنانيين الحلفاء لنظام الأسد. وبهذا تسقط أضغاث أحلام الشوفينيين من أركان النظام السوري، بضم لبنان قسريا باعتباره المحافظة 15 إلى سوريا، وكذلك تتهاوى تطلعات أطراف لبنانية كانت تستجلب الوصاية للاستقواء بها على أطراف أخرى جراء خلافات على تقاسم حصص في المال العام ومناصب الدولة.

قضايا ملحة لا تحتمل التأجيل
ولما كان اللبنانيون والسوريون ينحدرون من تاريخ اجتماعي مشترك، فصل بين عائلاتهما قلم ومسطرة مارك سايكس وجورج بيكو، وتبعهما الجنرال الفرنسي هنري غورو، بإعلان دولة لبنان الكبير في 1920، فإنني أعتقد أن ذلك يعزز الأرضية المشتركة للرئيسين عون والشرع في التداعي لعقد قمة تاريخية استثنائية تبحث إجراءات عملية للقضايا السبعة التالية:
أولا، ترسيم الحدود بين البلدين من مزارع شبعا إحدى ذرائع حزب الله بالاحتفاظ بسلاحه بعد عام 2000، وصولا إلى بلدة حوش السيد علي في أقصى الشمال الشرقي مسرح الاشتباكات الأخيرة. فالرد الإسرائيلي الدائم على طلب الدولة اللبنانية بالانسحاب من مزارع شبعا كان أنها محتلة من سوريا في 1967 وليس من لبنان، وبالتالي هي تخضع للقرار الدولي 242 ومرتبطة بتفاهمات مستقبلية مع سوريا. وبما أن بشار الأسد سقط فلم يعد هناك من يتهرب من عملية ترسيم الحدود مع لبنان، أو حتى تسليم السلطات اللبنانية الوثائق المطلوبة التي تحدد هوية المزارع، سورية كانت أم لبنانية. أما في الشمال الشرقي، فإن قضية ترسيم الحدود بين القرى المتداخلة بين البلدين فستقطع الطريق على المصطادين في الماء العكر، لجر الجيشين إلى اقتتال بينهما. فالعديد من القرى في ريف حمص، لاسيما بين مدينة القصير السورية والحدود مع لبنان تسكن فيها عائلات لبنانية منذ عقود، وازداد وجودها كثافة بعد احتلال حزب الله مدينة القصير في 2013. وقد رعى حزب الله عمليات الاستيطان الطائفي والتغيير الديموغرافي في المنطقة، التي تحولت إلى بؤرة للجريمة المنظمة والتهريب وصناعة المخدرات وتزوير العملات وإيواء المطلوبين للسلطات اللبنانية. ومعروف أن العشائر في منطقة الهرمل اللبنانية تنشط في هذه المجالات وشبابها من المطاريد الذين لا تقوى أجهزة الدولة على توقيفهم بفعل الحماية السياسية، وتجنبا أيضا لإراقة الدماء مع أبنائها المسلحين.
ثانيا، فتح مزيد من المعابر النظامية بين البلدين بعد إقفال تلك غير الشرعية، وضبط الأمن على جانبي الحدود وتسهيل حركة العبور، خصوصا في البلدات المتلاصقة التي تسكنها عائلات مشتركة. ويهدف ذلك إلى مكافحة عمليات التهريب من الوقود إلى المخدرات مرورا بالسلاح الفردي وحتى الثقيل. إذ أن طرق الإمداد البري لحزب لله الذي يبدأ من الحدود العراقية ينتهي به المطاف بريف حمص الجنوبي قبل أن يدخل إلى الأراضي اللبنانية عبر المعابر غير الشرعية بين قرى منطقة القصير السورية والقصر اللبنانية.
ثالثا، إنهاء ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية وترحيلهم، خصوصا أن عشرات منهم اعتقلوا بسبب انتمائهم أو نشاطهم في الثورة السورية وفصائلها المسلحة، كما أن عشرات منهم لم تصدر بعد بحقهم أحكام ولا يزالون موقوفين على ذمة القضية. أما المحكومين من السجناء الجنائيين، فليجر تسليمهم للسلطات السورية لاستكمال محكوميتهم واتخاذ ما يلزم من إجراءات تمنع عودتهم إلى لبنان إذا تطلب الأمر ذلك.
رابعا، تسليم المطلوبين بين لبنان وسوريا، لاسيما أولئك المتورطين في جرائم كبرى مثل التفجيرات والاغتيالات وانتهاكات حقوق الإنسان التي ترقى لجرائم حرب. وقد شهدت الحدود اللبنانية السورية عقب هروب الأسد فرار عشرات من فلول النظام، من المسؤولين ورجال الأعمال وكبار الضباط وحتى الجنود المتورطين في قمع الثورة وإبادة السوريين. كما أن السلطات اللبنانية تتطلع إلى تسليمها المطلوبين لها، وعلى رأسهم حبيب الشرتوني المتهم باغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل.
خامسا، تسوية ملف اللاجئين السوريين في لبنان بعد سقوط نظام الأسد. فلم يعد هناك من مخاوف على حياة اللاجئين السوريين من عودتهم إلى مختلف المناطق السورية. وهنا يجب التفريق بين اللاجئين المقيمين في التجمعات والمخيمات، والعمال السوريين وعائلاتهم. إذ ليس كل سوري في لبنان هو لاجئ، ووجود العمال السوريين يمتد لعقود خلت، حيث يعملون في مهن مختلفة، لاسيما قطاعي الإنشاءات والزراعة.
سادسا، تنظيم العمالة السورية في لبنان، التي قدرت في فترات معينة بمئات الآلاف بما يضمن مصلحة سوق العمل في لبنان، وكذلك الجانب الأمني، فضلا عن احترام كرامة العمال وضمان كامل حقوقهم.
سابعا، ضم ملف المفقودين اللبنانيين في سوريا إبان حكم الأسدين إلى ملف المفقودين السوريين، خصوصا أن استمرار هذه القضية منذ عقود أشبه بجرح لا يندمل منذ عقود. إذ أن أهالي المفقودين يغادرون الدنيا الواحد تلو الآخر وبين أيديهم صور بالأسود والأبيض لفلذات أكبادهم، لا يعرفون عن مصيرهم شيئا بعد أن اختطفتهم عناصر المخابرات السورية على حواجز التفتيش في لبنان، أو أسروا خلال معارك مع القوات السورية.
ينسب لحافظ الأسد قوله إن ما بين سوريا ولبنان لم نصنعه نحن إنما خلقه الله. وفات الأسد القول إن ما بين البلدين من ضغينة وكره صنعتها جرائم نظامه، وفي مقدمها اغتيالات رموز لبنان الوطنية من كمال جنبلاط إلى بشير الجميل، وصولا إلى رفيق الحريري. ولذا، فإني أرى أن الجانبين السوري واللبناني، مطالبان اليوم بالسعي لتشكيل محكمة دولية خاصة تنظر بجرائم نظام الأسدين بحق الشعبين، وتطالب باسترداد رموزه الفارين ومحاكمتهم.

المصدر: إبراهيم عرب/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى