لحظة فلسطين الفارقة!
“المدارنت”..
حتى وقت نشر هذه السطور، قد يكون عدد الفلسطينيين الذين زحفوا من الجنوب والوسط إلى مدينة غزة وشمالها قد تجاوزوا رقم المليون، في أول يومين من الزحف المقدس سيرا على الأقدام، كان الرقم المسجل قد بلغ نصف المليون.
وكان المشهد مهيبا رهيبا بكل معنى الكلمة، وكاسحا لكل أوهام وخطط تهجير الفلسطينيين، في حرب إبادة همجية طالت أيامها نحو 16 شهرا، قتل وجرح فيها من الفلسطينيين المدنيين العزل ما قد يصل إلى مئتي ألف، وجرى دمار شبه شامل للحجر والبشر والشجر، استخدمت فيه قنابل أمريكية ثقيلة، ومتفجرات قاربت زنتها نحو مئة ألف طن، زادت قدرتها الإبادية على خمس قنابل ذرية من النوع الذي ألقي على «هيروشيما» و»نجازاكي» اليابانيتين نهاية الحرب العالمية الثانية، استسلمت اليابان وقتها بدمار قنبلتين.
لكن الشعب الفلسطيني في غزة التي لا تتجاوز مساحتها الكلية 365 كيلومترا مربعا، لم يرفع الراية البيضاء أبدا، وبدا كأنه «شعب الله المختار» الحقيقي بوقائع وأساطير وبطولات التاريخ الجاري، وعلّم ويعلم الدنيا كيف تكون قوة الارتباط بالأرض، وكيف تكون الأرض مقدسة، بما ارتوت من دماء بنيها، الذين لم يعبأوا بالدمار الكامل في شمال «غزة» بالذات، وتدمير مقومات الحياة كلها هناك، وبدوا كأنهم الأنبياء الأول أطلوا علينا من صفحات الكتب المقدسة، وألقوا على سمع التاريخ عظتهم الكبرى، وهي أن الأرض في ذاتها، وليس بما يقام عليها من منشآت تهدم ويعاد البناء، الأرض ذاتها هي الحياة وسرها المقدس، وأن على هذه الأرض المترعة بالدم «ما يستحق الحياة»، كما قال يوما شاعر فلسطين محمود درويش.
غزة الضيقة المساحة، المدمرة كليا، بدت أكثر اتساعا من العالم بقاراته الخمس المعمورة، وهزأت بصغائر دونالد ترامب، الذي يتصور نفسه سيدا للعالم وصانعا لأقداره، وتصور أنه يعقد صفقة عقار، مع عرضه البذيء بتهجير ملايين الفلسطينيين إلى دول أخرى، وإلى مصر والأردن بالذات، وهو ما لقي ما يستحقه من رفض لا يتزعزع في مصر بالذات، ومهما كانت العواقب، فالقضية الفلسطينية هي شعبها، الذي تناسلت أجياله على أرضها، وردت وترد على نكتة ترامب السخيفة بتحويل غزة إلى «سيليكون فالي» أو ملاهي لاس فيغاس.
وقد تكالبت الدنيا كلها على غزة وأهلها، وصنعت فيهم ما صنعت قتلا وتشريدا وتهديما، وحولت حتى الأطفال الرضع إلى أشلاء وعظام، وحرمت الغزيين حتى من نعمة التنفس، أو إيجاد كفن أو قبر للشهداء، لكن غزة صنعت المعجزة التي لا يقدر عليها أحد آخر، فالقطاع الصغير ليس مجرد جزء من جغرافيا فلسطين التاريخية المحتلة من نهرها إلى بحرها، بل غزة هي فلسطين كلها مصغرة مكثفة، وأغلب أهلها جرى تهجيرهم لأجيال من كل نواحي فلسطين، وكانوا في قلب المحنة الفريدة الطاحنة التي عاشها الشعب الفلسطيني، وخلقتهم المحنة خلقا جديدا في نكبة 1948.
أي قبل نحو ثمانين سنة، قالت لهم جيوش المحتل البريطاني، وقالت لهم الجيوش العربية التي هزمت في فلسطين، قالوا لهم أخرجوا واهربوا من نار الحرب وستعودون بعد أسبوع، وصدق الفلسطينيون وقتها الكذبة، وهاجروا من أرضهم المقدسة ومعهم مفاتيح البيوت، لكن الذين تركوا أرضهم لم يعودوا إليها أبدا، وهو ما استوعب الشعب الفلسطيني دروسه القاسية الباقية، وعرف أن الثبات على الأرض هو عنوان النصر وطريقه في صراع طويل ممتد، لا بديل فيه سوى أن يهزم الدم السيف.
لسنا بصدد قرارات أو اختيارات، بل بصدد أقدار، يندفع إليها الصراع الدامي فوق الأرض المقدسة، بعد أن جربت وخابت كل اختيارات السلام والتطبيع المدنس، ولم يبق إلا قدر المقاومة بما ملكت اليد من سلاح، وبما اختزن في الضمائر من لعنات الهوان، وما جرى منذ 7 أكتوبر 2023 مجرد جولة سبقتها وتعقبها جولات، وإلى أن تعود النجوم إلى مداراتها، ويعود الحق لأهله، وراقب فقط من فضلك ما جرى على الجانبين، فقد استنفدت أمريكا و»إسرائيل» في الحرب ما تملكه من وسائل القتل والدمار والتكنولوجيا، حطمت وأفنت في فلسطين وجنوب لبنان، وتصورت أنها الفرصة الأخيرة للخلاص من المقاومة وحواضنها الشعبية.
لكنها في المدار التاريخي الأوسع للصراع الممتد إلى ثلاثة عقود مقبلة في ما نظن، لم تنجز في المحصلة سوى خيبة جديدة، دمرت وقتلت دون أن تنتصر، وجرى استقبال الزحف المليوني الفلسطيني داخل «إسرائيل» باعتباره إشارة على هزيمة مطلقة، فيما كان الزحف الفلسطيني غير المسبوق تاريخيا، تكتمل وعود النصر فيه بزحف مماثل في المغزى جرى في جنوب لبنان في اليوم ذاته، وكان عشرات الآلاف من أهالي الجنوب يزحفون إلى قرى الشريط الحدودي، التي لم تنسحب منها «إسرائيل»، بينما المستوطنون الغزاة لم يعودوا بعد إلى مستوطنات الشمال، ولا عادوا بالكامل بعد إلى مستوطنات غلاف غزة.
وقد كانوا قبل أيام يستبشرون بدمار جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، ويعبرون عن ارتياحهم وسرورهم، ويتفاخرون بأنهم صاروا يرون البحر المتوسط بلا عوائق بصرية من منازل الفلسطينيين، وهذا هو الفارق الجوهري بين جماعة الفلسطينيين وجماعة المستوطنين المرتعبين بالغرائز من مجرد رؤية الفلسطيني، وانخلعت قلوبهم من الخوف، وعبر ثلث «الإسرائيليين» في استطلاعات الرأي عن الفزع الجامح، وراحت أفواج الهجرة اليهودية لاستيطان فلسطين تتضاءل إلى حد غير مسبوق.
وعلى نحو ما جاء في أرقام مكتب الإحصاء الإسرائيلي بتقريره السنوي الأخير، فقد سجل أن عدد اليهود الذين جاءوا إلى الكيان تضاءل إلى 24 ألفا لا غير طوال عام 2024، بينما بلغت أعداد الذين تركوا الكيان بغير عودة أرقاما غير مسبوقة، وصلت في تقديرات إيلان بابيه أشهر مؤرخ «إسرائيلي» إلى 700 ألف في العام الأول من الحرب، وما انتهت إليه من دمار شامل عمراني وسكاني على الجانب اللبناني والفلسطيني، لكن قوة الروح والصبر واحتمال التضحيات صنعت الفارق، فلم تعد حركات المقاومة مجرد أسماك تسبح في بحر الشعب، بل صار الشعب ذاته هو المقاومة وصانعها وعمودها الفقري.
ولا أحد بوسعه مهما امتلك من نيران الحرب وجحيمها، أن يهزم شعبا بكامله، فالشعوب الحية لا تفنى أبدا، ويظل بوسعها أن تصنع الملاحم، مهما تكاثرت صنوف الخذلان من داخلها أو من حولها، وهو ما صنع ويصنع لحظة فلسطين الفارقة، وقد صارت فلسطين قضية العصر كله، فالشعب الشهيد وحده يصنع تاريخه، ويعيد صياغة معاني الانحياز الإنساني، ويوقظ الضمائر المعادية للقصف والعصف وجبروت المتوحشين.
سوف يذهب ترامب إلى حيث ألقت ذات يوم قريب، وينتهي بنيامين نتنياهو وصحبه إلى مزابل التاريخ، فلم يحدث أبدا في التاريخ، أن ملك شعب جرى احتلاله القوة المسلحة الباطشة لعدوه، لكن الصبر المؤمن والمقدرة الفائقة على التحمل تصنع الفارق في النهاية، وتؤدي إلى إنهاك العدو المحتل مهما تعاظمت قوته، ومهما حصل على دعم المتخاذلين وجحافل الخونة للضمائر والأوطان.
وفي حروب العصر غير المتناظرة، لا ينتصر الأقوى ولا يحقق أهدافه كاملة، ولا ينهزم الأضعف إلا إذا استسلم، وفي الحرب الأخيرة، لم تنتصر «إسرائيل» ولا انكسرت غزة، ولن تنكسر الضفة ولا القدس ولا فلسطين المحتلة بكاملها، وتأمل ما حولك من فضلك، فحيث توجد المقاومة يولد الصمود، وحيث تغيب تضيع الأرض، في جنوب سوريا تزحف «إسرائيل» كأنها في نزهة خلوية، وفي جنوب لبنان تواجه التحدي الشعبي الغلاب المنتصر بإذن الله، ومع رئاسة ترامب وبلطجته تتضاعف المخاطر، ويلتهب مشهد المنطقة كلها، وقد قال بنفسه في اجتماع مع «الأيباك» ذات يوم قريب، إنه يسعى لجعل «إسرائيل» ـ كما أمريكا ـ عظيمة مرة أخرى، وهو يندفع كالثور الهائج إلى إشعال جبهات ساكنة مع مصر بالذات، بدعوى سعيه ـ كما يزعم ـ إلى فرض السلام بالقوة.
وفي مجرى الصراع طويل الأمد، تبدو بلطجة ترامب كنعمة لا نقمة علينا، فهو يسقط أقنعة الخداع عن وجه أمريكا القبيح، ولا يلف ويدور كما سلفه «بايدن» مثلا، الذي دعا أول الحرب إلى تهجير الفلسطينيين بلغة مستترة، وطالب مصر بما سماه «فتح الحدود للفلسطينيين»، ولقي وقتها رفضا جهيرا، لن يلقى ترامب أقل منه، مهما كانت العواقب والعقوبات، فالشعب الفلسطيني قال كلمته، ويقولها الشعب المصري قبل حكامه، وقد أعلنها الرئيس السيسي بوضوح، فلن يسمح «الرأي العام المصري» لحاكم بالمشاركة بظلم الفلسطينيين وتهجيرهم وتصفية القضية المقدسة.