لـــو يـعـلـمـــون!
خاص “المدارنت”..
كم رغبنا أن نكبر وبشدّة؛ على أساس أنّ الكبار يقومون بما يريدون، ولديهم السّلطة علينا نحن الصّغار؛ يمنعوننا عمّا لا يرغبون هم به، ويسمحون لنا بما يناسبهم، فنغضب ونحزن ونزرف الدّمع، آسفين على حالنا المقموعة، والّتي ما بيدها حيلة، وسط مجتمع يعجّ بالبالغين. فئة من البشر هم؛ كنّا نظنّهم، في صغرنا، أنّهم يملكون ما يتمنّون، ويقومون بما يقومون به لأنّهم يستطيعون ذلك من دون معارضة أحد لهم. كم كانوا بعيدي المنال بعيوننا نحن صغار السّن، وكم كنّا في عيونهم صغارًا.
لا نفع لنا رغم استغلالهم لطاقاتنا بحجة تعبهم؛ لا نفقه شيئًا، لأنّنا لم نخض غمار تجاربهم الحياتيّة؛ لا نعي ما يجري من حولنا، لأنّنا غارقين في عالم اللّعب واللّامبالاة. ما همّنا نحن الصّغار من أولئك الكبار؟ لهم حياتهم ولنا ما لنا.
ما لنا من دونهم من شيء! فنحن لم نأتِ من عدم. لكم أراد ولد أن يصبح كأبيه، خاله، عمّه وحتّى كأخيه الأكبر، قويًّا، يهابونه ولا يهاب أحدًا؛ شجاعًا، مقدامًا، متفوّقًا، نشيطًا، مثابرًا، محبّا للحياة معطاءً حنونا وذا حضور يفرض ذاته. وكم من ولد، ابن وابنة، اختبأ تحت غطائه مرعوبًا يرتجف من سخط والدَين؛ يخاف أن يطاله غضب لا يفهمه، ظنًّا منه أنّ الذّنب ذنبه فيؤمن بأنّه يستحقّ العقاب، وأنّ ذاك التّعنيف المُنزل عليه مبرّر ليبحث عن خطئه، فلا يجد واحدًا غير أنّه وَلد. هو الّذي اعتقد أنّه ثمرة حبّ،
يتحطّم عالمه، وهو حيّ فيه ليشعر بنفسه ركامًا تدهسه الأرجل كلّما اجتاحتها رغبة دفينة. كم من فتاة حلمت بأن تشبه أمّها، خالتها، عمّتها معلّمتها أو حتّى أختها الكبرى! فعقدت شعرها مثلها أو وضعت زهرة خلف أذنها، ولبست لونها المفضّل. كم من فتاة حلمت بأن يحبّها من حولها، كما تحبّ هي! أن تسمع كلمات لطيفة كالّتي تقولها أمّها لصديقتها أو لأختها المقرّبة!
كم وكم وكم من هؤلاء الصّغار، حلم وحلمت بعالم الرّاشدين! وكم وكم وكم من هؤلاء الصّغار تبدّدت أحلامهم البريئة وتكسّرت أجنحتهم على أبواب البالغين، قبل أن يطرقوها!
كبرنا، وكبر كلّ الصّغار من جيلنا وأجيال وأجيال أخرى. وأصبح ذلك العالم البعيد المنال مسبحًا مفتوحًا، يسبح فيه ما هبّ ودبّ، بالإضافة إلى من كانوا يومًا صغارًا، فكبروا؛ وأولئك الّذين كانوا يومًا خارج مرمانا، واليوم، صاروا، المتقدّمين بالسّن. ولم يتغيّر الحال. فهم ما يزالوا، أكبر سنًّا ممّا كنّا عليه، وأصبحناه! لا بل، كبر معهم تقديرهم لذواتهم وتعظيمهم لأنفسهم. وملكوا الاحتيال العاطفي، فتحوّل التّعنيف الجسديّ إلى تعنيف من نوع آخر. وذلك الصّغير كبر، وتلك الصّغيرة كبرت، وما يزال الإحساس بالذّنب ينخر النّفس البريئة، وقد عشعش في شرايينها وراح ينمو ويتفرّع…
وإن حالف الحظّ بعضًا ممن كبروا فتحرّروا، عاشوا خارج السّرب! وكما الطّيور تغرّد مع إطلالة الصّباح، تدخل سجنها لتنام، فتصمت مع حلول المساء، كذا، هي حال بعض البشر! ما بين أنشودة النّور وسكون الظّلمة، حياة لا بدّ من عيشها؛ وحبّذا لو استطاع كلّ الصّغار في خطوة الرّشد، أن يغمروا ذاتهم بالمحبّة رغم قساوة الطّريق، ويتحنّوا بالصّبر رغم وعورة المسار، وليكن لهم من أناهم مظلّة، تحميهم مطر السّحاب،كما أشعّة الشّمس حين ينسحب وينحسر الغيم.