تربية وثقافة

رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. للروائية رولا عبد الله.. الحلقة “2”..

رولا عبد الله/ لبنان

خاص “المدارنت”..

 

ينشر موقع “المدارنت”، الحلقة “2”. من رواية “رقصة المرمر تحت الرمال.. فوق الطين المشوي”، للزميلة الكاتبة الروائية رولا عبد الله.

 

“لعلها قطة”، خمّنت.. وتابعت الطريق

بدت القرية تبث على الغموض.كلما ابتعدت عنها زادت وحشة الطريق. أخذت أتلهى بالتفاصيل. أغرس أصابعي في التراب لأعرف مدى تغلغل الماء فيه. كان النبع على وشك أن يجف.شعرت بالعطش، وقد تركت حقيبتي في آخر نقطة يمكن الوصول اليها بالسيارة. ثمّ أنّ نسمة هواء عليلة اخترقت صدري.ربما أني كنت في حاجة للاستمرار في شهيق مثل هذا النقاء منذ زمن، وهو ما عوضني عن حاجتي للمياه محاصر بفتنة الجبال.الأشجار الكثيفة.الأفق المفتوح.. والأهم ذاك المعبد الذي وطأت أرضه أخيراً بعد طول اغتراب .كم اشتقت إليه.كم تبدلت أحواله.كم أنه منسي.

في المعبد تشكّلت أحجيتي الأولى. وفي حين أزكت نقوشه فضولي لدراسة علم الآثار، أسهمت حجارته بتشكيل علاقة خاصة تربطني بالحجر سواء لأنسنته أو لتأنيثه ، الخوف منه أو الإصغاء لحشرجة نبض فيه. وكنت أسمع صغيراً بين الفينة والأخرى نقف حجارة ترتطم خلفي بالأرض. مرات تصيبني في ركبتي أو في كتفي الذي أحمل فيه جرح حجر. وكنت مرات أخاف، وفي أحيان أركض إلى رأس الحي بحثا عن الفاعل فلا أجد أثراً لمخلوق.

وفي شريط ذاكرتي راكمت حكايات عن جيران سقطت حجارة منازلهم في أوقات متأخرة من الليل، ونساء أمطرتهنّ السماء بوابل من حجارة على شكل نصف دائرة من دون أن تصيب أي منهنّ..وعلى المنوال تشكلت الحجارة مسكونة بالأرواح ،وفي مخيلتي تكاثرت حكايات بينها أن شواهد القبور تسرق أرواح الموتى وحين تتفتت الشواهد تصير جزيئات لأرواح صغيرة تروح تسرح وتمرح في الأرض ، ويمكن أنها تعيش أكثر من حياة. ومن بالي لم أغفل الرابط بين المفقودين في الأرض وسرقة الحجارة لأرواحهم.

حتى أنّ والدتي دفعت ضريبة الحجر من روحها. ورحت أداوي جرح فقداني لها بعد أن قضت بفعل انهيار حائط الدعم على طريق البلدة ، والحفر بحثا عنها ، بمزيد من الحفر في الأرض ، و أقنع نفسي بأن لا بد أنها لا تزال حية تحت الحجارة المكومة بعبثية. بعد الحادث كرهت الحجر ، لكني لاحقا بدأت أتنشق عبير أمي من خلاله، وليس في الارض التي خطفتها مني وانما في كل حجارة الارض. وشرعت أداوي جرح غيابها بالحجر لقناعة لمستها بأن ليس هناك مادة تعبر عن المأساة بقوة تعبير الحجر عنها،  ذلك أنه يجعل حامله يتنفس برئة إضافية.

خلق الحجر التوازن وعدمه في روحي. وكنت بدأت اختبر ألوان وأصناف الحجارة كلها. ولم أصل إلى هذه المعادلة فوراً. لم أصل، لم أعلن شيئاً إلا بعد اختباره. أو إجراء الاختبارات عليه. كرهت الحجارة، وأحببتها في آن، لا بل أني لم أعد أجدها خرساء ولا متحجّرة. صرت أجدها بين يدي كالبذور، في الطريق إلى تحوّلها إلى امرأة. إلى أنثى .إلى أم.إلى عشيقة. إلى هاجس أن الحجر ليس جماداً.الحجر مادة قابلة للحياة يوما ما.

وكان توقي الدائم لانفرادي في حضرة المعبد المهجور  له علاقة بطفولة سبقت غياب أمي المفاجئ.  طفولة مسكونة بأصوات الطائرات والحروب والخسارات والخطف على الهوية ومواصلة البحث عن فتاة من القرية فقدت في وضح النهار، ومع ذلك كنت أقنع نفسي بأني جئت بالحزن إلى الطفولة من حياة سابقة، لا من حياتي الحالية، إذ ثمة معبر دخلته بين حياة وحياة ، كما في المسبحة الحبة تسلم للحبة التي تليها. وكنت أتحذر أي حياة عشتها من قبل ؟ هل كنت عاملا في مقلع؟ هل كنت مصارعا في واحدة من حلبات المصارعة الرومانية ؟ هل كنت نحاتاً؟ عامل بناء؟..

وفي الاحتمالات بقيت تميل الكفة إلى البحث والحفر. هذا صحيح. والصحيح، أنني أستمتعت كثيرا في حياتي بالتنقيب، لأنها أعمال تشبه بناء الكائن. شيء يتجسّد أمامي. أحفر وأمسد ما حفرته باليد. خطوة لن تصرع الخطوة التي تليها، ذلك أن العمل بالحفر يشبه التنفس، بصيرورة تفترض تعاضد الأعضاء والحواس في مهمة بقاء الأرض على قيد حياة تحفظ تراثا من السلالات،  الطقس، الثورات، الفقر، الجوع، الأساطير، الحروب، الحضارات، الهمجية، الخراب، الجزئيات..

في زيارتي  التفقدية الأولى للبلدة بعد طول اغتراب، وأشهر من الإقامة في أحد فنادق العاصمة أستاذاً منتدباً من جامعة بوردو الفرنسية إلى قسم علم الآثار في الجامعة اللبنانية لعامين متتاليين، قلت بأني لم أتوقّع أن يكون في انتظاري أي من أفراد العائلة ، ولا حتى مايا. وكانت الأخيرة رفيقة الطفولة وبعض سنوات المراهقة قبل أن تهاجر عائلتها وتنقطع هي الأخرى أخبارها برغم أن حكاياها ظلت ماثلة تستيقظ بين الفينة والأخرى على موال لطالما رددته:” : “كان في الزمن البعيد.. البعيد جداً.. وراء كل المسافات.. المسافات البعيدة جداً.. أناس يهللون، يطلقون الصيحات، يوقدون النار ويحيطونها بهم، ثم إنهم..”.

لكن مايا باتت من الماضي، أو أني ظننت ذلك لأطوي باغترابي صفحتها، ومَن حللن بعدَها من ضيفات على مزاجي المتقلّب. ارتبطت أكثر بالأرض، بخباياها، بحفرياتها، بحقباتها التي نفحت نصفي الآخر متملقة كأنثى تفيق من نعاس، أعرّيها بأصابعي، وبالريشة أكنس وجهها، وبالمنفاخ أنثر حبّات اللؤلؤ مكحّلاً مساري داخل مربّع الشغل وخارجه، وبالمسطرة أدخل في حساب المقاييس، وبدراية أحفر في الطبقات المشققة منها وصولاً إلى المندّاة بالرطوبة وبالرغبة في تعرية المزيد. وكان الحفر بتوقيت الفجر يثيرني أكثر من أي امرأة تتعرى أو تتهادى  أو تعلق رائحة عطرها في أنفي.

وها إني برجوعي عائد أبحث عن معبدي بسنواتي ال44، وبترحال تقاسمته العواصم من باريس الى متاحف الدنيا فبيروت مستنفداً نصف عمري، فإذا بي في عهدة صفحة مستجدة. لم تكن صفحة مايا، وإنما منحوتة فاتنة من حجر مرمري، طالعتني من جهة المعبد، على مسافة خمس خطوات منه ، هناك حيث كان على حكايتي معها أن تبدأ وأن تأخذني الى أصقاع الأرض وتردني ملهوفاً ، حائراً، من دون  أن أتبين في البدء إن كانت من الجنيات أو من الإنس أو من الحجر…

وفي قوامها المنحوت تملّيت ، مولودة من رحم صخر، بوجه باسم ومشية حالمة من مشهد صامت بين قدم ثابتة في الأرض وأخرى عالقة في الهواء، ليس بعيداً من بئر ماء جافٍّ وسنديانة عملاقة تظللها والأرضية معاً… وهكذا تعارفنا، ليس في المعبد المظلم، وإنما في عين الشمس.

ومن الأمس لا أذكر بأنها وطأت حقولي ،أو أننا تلاقينا ، أو تهامسنا، أو أني احتفيت بها أنثى من صلب حجر، مع أني انتظرت  طويلا ..طويلا لسنوات ..لكن الصخور المتفاوتة في الأحجام والألوان لم تنطق يوما. بقيت جامدة كأنها ابتلعت حيوات وصمتت، ومن قوامها أعدت تشكيل مخيلة مسكونة بهاجس الفقدان. أنّثت الحجارة مجدداً. درجتها في الألوان ، أرفقت بها وقفة مختالة بشفتين، بردفين، بنهدين، بقليل من الخفر الوردي.

فمن تكون؟ وهل أنّها جاءت تهدهد بقايا التاريخ الذي أفلت من حطام كما لو أنّها حكاية هاربة؟  ولأفترض.

لأواجه المنطق: الحجر لا يمشي، لا يهرول، لا يبدّل في اتجاهاته مثل حال دوار الشمس..

ولأواجهها: كيف تنقل جسدها المصبّر في الأرض؟ وفي كل ألقاها في غير مكان، وفي غير اتجاه، وفي غير وقفة وتعابير وجه ولون …

ولأواجه أفكاري التي تشدني في كل اتجاه. تأخذني بعيداً عن المنطق، وتردني إلى تلك المسافة الحدودية ما بين الحياة والموت. فهل تكون عالقة في انبعاثها؟

أفكر، وأستدرج لهفتي إليها:

إذا كان الإنسان لا يموت موتاً مطلقاً وكاملاً، فهل يكون الأخير نقلة من درجة من الحياة إلى درجة أخرى. وكنت قرأت ملياً أن الروح بعد خروجها من الجسد تعود إلى الأماكن والأسر التي كانت فيها، وأنها تستطيع أن تتعرّف إلى الأقرباء والأخوة والأبناء، وأنها تعي ما يفعلون وما يقومون به، وأنها تسعد وتشقى بحسب أحوالهم، ولكنها في عالم لا يمكّنها من الحوار معهم.

 لكنّ مثل تلك الأفكار، كانت تضمحل وتتماهى لصالح حضورها، فإذا بي مشغول بمقاييسها. حسابات من مثل وحدة القياس التي شكّلتها خارج العرف الجمالي. كأن تكون المسافة بين النهدين هي المسافة نفسها ما بين تحت الثديين إلى السرّة، ونفسها من السرّة حتى ملتقى الفخذين. وأن يساوي محيط خصرها في عملية حسابية خاطفة: طولها مقسوماً على اثنين ومسحوباً منه 15 سم، فيكون لديها:5،72. ومحيط صدرها نصف الطول مضافاً إليه ثلاثة سنتيمترات، فيكون لديها 5،90، وأن يكون محيط أردافها نصف الطول مضافاً اليه ستة سنتيمترات، فيكون لديها 5،93، وأن يقارب محيط الذراعين الطول مقسوماً على ستة، فيكون لديها نحو 29 سم. وفي الحسبة المثالية تلك هي متفردة، بقوام رائع، وجه فتي مدوّر ناصع البياض، عينين كحيلتين، وإلى جانب الأنف وجنة ترتسم عليها غمّازة كأنه يشوبها احمرار. والفم دقيق عند الطرف، غليظ في الوسط، نضر باسم يكشف عن أسنان مرصوصة كاللؤلؤ، وأسفل الذقن مقسوم إلى جزءين، وعنق تنسجم خطوطه إلى الكتفين. واليدان ناعمتان، تنتهيان بأصابع طويلة جميلة، رفيعة الطرف، تكسوها أظافر واضحة الرسم، والشعر مقسوم من الوسط بتماوج خفيف، الذراعان مزينتان بأساور تحمل رسم الشمس، والساقان طويلتان والقدمان يحتضنهما زوج صنادل، وأصابع أقدام متناسقة وكاحل مزيّن بخلخال.

وماذا عن رائحتها؟ أي خلطة تفوح من الحجر؟ الزيتون مثلاً؟ أبتسم وفي بالي تلوح مايا التي لطالما سخرت من وصفة أسرّتها إليّ: “زيت الزيتون والليمون الحامض”. الوصفة التي استسلمت لها لاحقا في معالجة جفاف بشرتي بفعل المناخ الأوروبي البارد. وكنت ضمناً أدرك بأن تلك الخلطة فيها من رائحتها، لكنّ محاولاتي الحثيثة في تجاوزها والدخول في علاقات تكون جدية انتهت الى أن تكون جميعها عابرة.

فماذا عنها منحوتة تشدني على درب الشغف، أكثر من كل النساء اللواتي اقتحمن عوالمي، ومذ التقيتها أتعمد مراقبتها من حفائر لا يشاركني بها هذه المرة لا بعثات ولا خبراء ولا منقّبون. أنصت لوجهها الساكن، ومثل حال الأميرة النائمة كان عليّ أن أطبع قبلة الحياة على جبينها، ملامساً شفاهها من الأبيض إلى الزهري إلى تلك القشعريرة التي تسري في الجسد النائم نبيذاً معتّقاً بكل جوارحي.

 وعلى أمل أن تتفتّح عيناها مثل زهرة، رحت أنفض بياض الغبار عن جسدها، منصتاً للأرض التي تعزف من الحجر حياة، و لذاك السوار المعقود بحجارة ملونة وبحشريتي للسؤال:

ما زمانها تلك الجميلة؟ ما نومها الذي طال؟ ما حكايتها لأصنع حكايتي؟ كلي سمع؟ لكن رويداً: ما اسمها؟ أما عادت تذكر؟ . لأساعدها في تهجئة الحروف المحفورة في القاعدة الصخرية أسفل قدمها اليسرى. الحرف الأول خط أفقي موصول برأس لمثلثين؟ ما هذا الحرف عندهم؟ هل يكون أول حروف الأبجدية؟ ولننتقل إلى الحرف الثاني: يشبه دولاب الهواء بأضلاع مثلثة. الثالث يشبه منقار عصفور مسنن. الرابع يشبه الرقم ستة موصولاً في الأعلى بمثلثين. الخامس يشبه ثلاث زهرات. والسادس مثلث كبير في وسطه مثلث صغير في الاتجاه المعاكس. والأخير يشبه هرماً أفقياً من عدة مثلثات. ماذا يكون لدي؟ ابتسامة … عظيم، أهلاً بها. لأخرج من هذه المتاهة الأولى. سأسميها: إلينا (Elina)، تعني بريق الشمس. أيروقها الاسم؟ أما أنا فـ”رجا”، باحث متخصص بها…

فيما لا أزال أنتظر أن أفك هجائية صمتها ، المرأة الصنم التي أسميتها “إلينا”، أدرك بأن إنجذابي إليها في تصاعد . أدقق في تفاصيلها ، أتملى بانحناءاتها وتعرجاتها وانسدال الحجر إلى حدود تماسه مع الأرض. أخاف أن ألمسها، قد لا تناسبها رطوبة يدي، قد لا تناسبها المناخات المتقلبة، قد تمطر على غفلة ويجرفها السيل، قد يأتي أحدهم ويعبث بها، يضمّها الى حمولة صندوق خردة..وكلها باتت هواجس عجّلت في نقلها إلى وجهة آمنة .وبالفعل لففتها بالشاش الأبيض، وانحنيت بها من الزاوية تسعين الى حمالة خشبية مغطاة بقطع من الشاش القطني. وسرت معها في نزهتنا الأولى والقصيرة. التفافة كاملة من حول المعبد قبل أن أدخله معها، وتستقر في زاوية تتقاسمها مع الظلال والنور الباهت.

وكنت كما السارق، ألتفت يميناً ويساراً مع شعور داخلي بأن مايا تراقبني من زاوية ما. إحساس أبتسم له بقليل من الخيبة..إذ ماذا فعلت تلك الغيرة سوى أنها فرقتنا، ثمّ أني في تكويني كنت بخلاف أحوالي وطباعي التي رسيت عليهااليوم. كانت مايا تثير اهتمامي بأسلوبها المرح ،خفة دمها، ثقافتها المستقاة من والدتها الروسية والتي منها أخذت ملامحها الدقيقة من العينين الفيروزيتين إلى الشعر البني والبشرة البيضاء النقية .واكتسبت من جدتها لوالدها براعة في حفظ الموروثات المحكية وكل ما يمت الى الأساطير والغرابة بصلة ، في حين أن موهبتها الحقيقية أخذتها من والدها الفنان والذي يعد واحدا من أبرز التشكيليين في الساحة اللبنانية. وكنا تعارفنا الى جانب كوننا أبناء بلدة واحدة ، من خلال زيارات والدينا المتكررة وخوضهما نقاشات مطولة في الأدب والفنون والسياسة وأحوال البلد ، هما اللذين كانا زميلين في المدرسة الوحيدة الموجودة في البلدة.

 وباعتباري إبن مدرّس، عانيت كثيرا من القناعة التي تشكلت في حينها لدى محيطي من أني لابد أن أكون منضبطاً، ووفق الفرضية تلك والشعور الدائم بأن العيون تلاحقني اخترت الانعزال والتنحي بعيدا عن الأضواء ، وجهتي الحقول المجاورة التي صادقتني على طبيعتي، ومنها أخذت أستمد طاقتي من خلال بقائي مع نفسي بكل الوسائل الممكنة من قراءة وتفكير وتحليل وتأمل، قبل أن تنضم مايا التي كانت على النقيض من طباعي ، إذ كنت في أحيان فظا وغليظا ولا وقت أفرده للمجاملات ،ومع ذلك غدونا شريكين في المهمات المدرسية والحياتية وفي صخب الحقول والوديان.

طبع مايا فيه من جنونها.كانت في البدء تقوم بالتخيل ، وتتوسع رويدا في شتى الآفاق ومن ثم تبدأ ترفرف بفكرتها. وكان لديها إحساس دائم بأنها متفردة ، مختلفة ، تبدي اهتماما ضئيلا بالمظاهر وأدبيات التصرف، كثيرا ما تتأخر عن مواعيدها، تتغيب من دون تفسيرات، ملابسها غير تقليدية، سريعة في أعمالها، تنضح بالطاقة ، مغامرة وعاشقة للمجازفات والابتكار، تتكلم كثيرا وتقفز في الأحاديث من موضوع الى موضوع بطريقة كانت تستفزني.

وبطبعي الهادئ والرصين، كنت أخاف من فكرة أنها المسيطرة دائما وأن ذلك لا بد أن يصنفي تابعا ،وربما ناقصاً. لكني في المقابل كنت أتلافى فكرة المواجهة بيننا لاعتبارين: شبكة أصدقائي المقتصرة عليها ، ولأنها تعجبني. وللسببين حاولت كثيرا أن لا أكون ضيق الأفق، أن أبقى مسترخيا إلى حين تنهي فكرتها، أن أعطيها حرية التخيل..إلا أني في المحصلة كنت مريضا بالمنطق ، ولعل هذا  أوقعني ضحية التعقيدات ، وبقيت أشرّح علاقتنا ،اختبر وامتحن إلى أن بلغت درجة عجزت فيها من اتخاذ قرار مناسب بخصوصنا.

وهناك دافع آخر أسهم في تعثر علاقتي بمايا، إذ من جهة كنت مزهوا في سنوات المدرسة بأني محور قصائد كانت تلبسني نوتاتها الموسيقية ، تعريني ومن ثم تعيد تشكيل لون عيني ، جسدي، اشتهاءها لي، قبلتي لها، رقصة اندماج جسدينا، أناقتي ، عشقي لحميميات الأمكنة الأولى .. ومن جهة كنت مكبلاً بأسلاك وأعراف مجتمعية تقرصني كلما صعدت هي خلف المنصة وراحت تقرأ منتفضة على الأوزان والقوافي.

وكنت بوجهين معها في هذه النقطة تحديداً: أصفق لكلماتها ، ثمّ أني أنفض يدي من أبوّتها ، متذرعاً بخطأ لغوي في السطر الأوّل، بالتشكيل، بالسكتات، بالوقف، بمخارج الحروف كالعين والحاء والخاء والهاء..

لكني اليوم لا أشبه فتى الأمس المتردد. صرت أكثر حسماً ودراية بوجهات من مثل التي أخذتني إلى عتبات المعبد، والتي تستدعيني لأدخل بقدمي اليمنى إلى المعبد المخبوء في خبايا النواويس. متحسب للعتمة ورائحة العفن وشِباك العناكب. تؤازرني خوذة بكشّاف إنارة، ومريلةٌ بلاستيكيّة مقاومة للدغات، وجزمة مطاطية طويلة الساقين، والأهم حشريتي لمعرفة من تكون منحوتة المعبد المستجدة في المكان؟

وباندفاعة عالم وخبير هذه المرة، تجاوزت باب المعبد باتجاه دهليز مظلم، منساقاً لصوت فيّ يشدني إلى حيث لا أثر للدرج، وإنما لما يشبه فحيح الأفعى ما دفعني للتراجع ومن ثم السقوط في فتحة مستديرة في الأرض، دلفتُ منها إلى فسحة بعرض مترين، تنتهي بباب فيه تجويفات صغيرة، ترتكز فيها محاور الدورات والقفل الأوسط. وتحيط بالباب الذي يتسرّب منه بعض الضوء أخاديد ظاهرة على الجانبين، وعتبة تعلوها زخارف بأشكال هندسية ونباتية، وتجويفات يبرز من وسطها رمز القرية، وهو شكل شمس أو كرة محاطة بجناحين، ويظهر الريش منهما على شكل معيّنات هندسية، وعليها يرتكز السطح. وإلى جانب الباب الأيمن نحت بارز لإله الشمس “هيليوس”على شكل نصف إنسان تحيط برأسه خيوط كأشعة الشمس، وبجانبه تمثال لكاهن يقدم أضحية طقوسية.

ومن الباب الأيسر، نزلت إلى درج سفلي مظلم في آخره غرفة تحوي نصباً حجرياً يُزين واجهة ضريح، وقد زُخرفت بعمودين كورنثيين، يحصر تاجيهما إفريز مسطح غير مزخرف، يعلوه نحت يمثل ثورين في مواجهة بعضهما، وبينهما رأس ثور ونحت بارز لصبيّة تمسك بيدها اليمنى لفافة تضمها إلى صدرها. وعلى جانبي الواجهة منحوتتان إحداهما تجسد فارساً يعدو بجواده، وفي الأخرى ثور يقفز متجهاً نحو اليسار، ربما له علاقة بقرابين الثيران التي كانت تقدم في حقبة من زمان عتيق.

وعلى الجدران مشهد لفتاة تمتطي حصاناً وتمسك بيدها اليمنى سعفة نخيل، وبالأخرى إكليلاً من الغار، وإلى جانبها حيوان صغير ربما يكون جدياً، وفي الجوار طائر أسطوري برأس إنسان إلى جانب أوراق الأكانثوس، تليه كتلة حجرية عليها مشهد سمكة تتجه يساراً، وعلى الأرجح، هي ترمز إلى روح الميت.

ومن الغرفة باب أخذني إلى ثلاث درجات صعوداً نحو رواق تبعت تدرُّج الضوء في وسطه، لأتبين أني رجعت إلى باحة المعبد الخارجية نفسها، وإنما من الجهة المسيجة بحجارة قديمة ودكمة أشواك يابسة حالت في السابق دون وصول المتطفلين إليه، وكنت من بينهم. كما حالت أشواك نبات العليق، التي تغزو المكان بكثافة، دون الانتباه إلى بئر ماء جافة منخفضة في حدود المتر أو أكثر بقليل، وقد غطت أرضها هياكل عظمية وأدوات حجرية صوانية من فؤوس يدوية ومكاشط، وفي زاوية منه صندوق خشبي قديم مرصّع في واجهته الأمامية بالصدف الأبيض، مزين بالنقوش المحفورة والنافرة، مستطيل الشكل وله غطاء خشبي وقفل أمامي وغال بمفتاح حديدي صدئ. وإلى جانبه لوحة فسيفساء ملقاة على الأرجح من الأعلى تحطمت إلى ثلاثة أجزاء يحمل أحدها آثارَ حريقٍ ممتد إلى حجارة البئر المقصوبة، والتي تظهر نحتاً لمجموعة من النساء الباكيات: أربع على الضلع الطويل واثنتان على الضلع القصير للكتلة الحجرية، ووجه فتاة تحيط به من الجانبين زخارف نباتية من أوراق اللبلاب.

وبمعاينة المكان لاحت أمامي إشارة محفورة على جذع شجرة خرّوب قديمة. إشارة توحي بضلعين أفقيين يشكلان الرقم ثمانية، ويصوّبان في تلاقيهما إلى جهة البئر حيث أعدت التدقيق بالصندوق المرصع بالصدف.

 فكّرت. وتذكّرته. كان هدية في عيد مولدي السابع ، ولا يزال يحمل الحرف الأول من اسمي. وحين تيقنت بأنه يخصني، وبأنّ التقاطه من البئر يحتاج لعصا تشبه الرافعة ، وجدتني أبحث في الأرض التي أهدتني مفاجأة بديلة. رزمة أوراق لاحت على رخامة البئر مثل طوق نجاة. أوراق ليس بها رطوبة أو تلف.

لم يكن للأوراق التي في المغلف الأزرق عنوان، وإنما رسم بالفحم لوجه فتاة فيها بعض ملامح إلينا .التقطت أنفاسي وتربّعت على الأرض. نزعت عني قميصي القطني. مسّدته على التراب ،وعليه مددت الورقة الأولى التي تحمل رسمك.

ثم ماذا عن الورقة الثانية؟. كأنها رموز قد تكون عشوائية، إنما مسبوكة في رسم بياني دائري فيه سبعة عشر ضلعاً محاصرة جميعها بدائرة تأخذ إلى دائرة أكبر ،ومن نصفها العلوي تظهر خطوط تشبه خيوط الشمس أو رموش العين. تمليت في الورقة. وضعتها على وجهها فوق الورقة الأولى ، واستعجلت البحث مقلبا في الأوراق التي تنتهي عند الصفحة 130 فيما تدل الآثار الظاهرة على جوانبها أن عدة صفحات انتزعت منها وضاع أثرها ومن المرجح أنها كانت تضم عدد صفحات أكثر. أما الأرقام فإنها مدونة باللاتينية ، في حين تبدو بعض الأوراق ناصعة البياض، وبعضها مقتطع من كتب قديمة أو مطبوع بخط عربي مبسط.

وفيما أقلّب توقفت عند الثلث الأخير من الأوراق. يبدو مطبوعا بحبر أسود عريض وهو مقسم الى أجزاء تداور بين عنوانين يتكرران. وبنظرة خاطفة فإنها تبدو من فيض أنثى لم أحسب بأنها ستغدو ذات يوم هي الأخرى يومياتي بهمسها و بصفيرها.

أعود إلى الورقة الثالثة، فارغة. الرابعة مكتوبة بقلم رصاص وبخط عربي داخل كادر منمّق، ومنها تبدأ مغامرتي معها، تلك المجهولة التي بدأت اللعب بأحجية.

وفي الكادر الآتي:

“إبحث عني في رائحة الحجر، في لون الحجر، في روح الحجر، في الجيوش المقاومة، في كف أطفال الحجارة، في النقيفة التي كنا نلعب بها، في حياتنا الأولى أيام كنا أطفالا نقاوم قبل أن يسرقني الحجر منك ويسرقك مني …

إبحث عني في الممالك القديمة، في حجارة ملونة تباع بأثمان بخسة، في عيون تكسر الحجر ، في صخور مثقوبة في الوسط، في حجارة بركانية لفظتها رؤى المسن الأشيب، في القصر الأحمر المهجور الخالي، في  لعنة على حجر السيدة ذو الأضلاع اللازوردية الثمانية، في حجارة كلسية شكلت مدينة  بقوانين سبقت قوانين حمورابي، في رقيم موسيقي وخاتم مختوم بوسم “المرأة الحرة”، في المدينة الجديدة وقد تحمصت حجارتها، في الحجر الناقص من سد قضمه فأر، في مملكة تصطف حجارتها كأحجار الدومينو، في مدينة عظامها وردية، في مدائن موسومة بدم عاشقين، في حجارة مكورة الشكل يظهر على سطحها عروق من الحجر نفسه تشبه النجوم، في حجارة مرجانية بلون عيون القطط، في نعي محفور لملكة دخل القمر في كسوف ليلة ماتت، في جماد الأوشبتي…

وبعد كل البحث لا تقل “عظام الأرض حجارة”. إقلب أي حجر تجد تاريخاً من الإنس والحيوات، ومعه إقلب الصفحة”.

وبرغم أني شككت في العبارة الأخيرة. قد أكون سمعتها، دوّنتها، قرأتها في كتاب أو يخيّل إلي؟..لا إجابة سوى أني جاهز للدخول في مغامرة الأوراق التي أخذتني بداية إلى الموقع الأول الذي حددته الرسوم، ولم أخطئ الهدف إذ تبين بأنه موقع حفرية الفرير في عاصمة الجنوب اللبناني صيدا . وكنت قبل أشهر قليلة ضمن فريق من الخبراء الذين تولوا التنقيب بإشراف رئيسة بعثة من الجنسية الفرنسية . وكنا عثرنا في حينها تحت بناء قديم على غرفة مختومة ومغلقة كما تركها الصيداويون منذ 1300 عام قبل الميلاد. وبين اللقى عثرنا على قطعة تابعة لصحن فينيقي يحتوي على نقوش لعشرة حروف فينيقية محفورة ترجع الى العصر الحديدي الحديث على الساحل اللبناني في القرن الثامن قبل الميلاد، إضافة الى تمثال وجدناه مقلوبا على وجهه تحت سقيفة رخامية قد يكون استخدم لاقفال مصرف مائي ثنائي الجدار.

وعلى مسافة قريبة من المبنى القديم، يوجد مدفن مربع يزين واجهته عمودان قديمان بلون الرماد. فهل تكون دعوة إلينا إلى المعبد هذا ؟.

كان المدفن الموضوع بحماية المديرية العامة للآثار يحوي مجموعات من الخرز والأواني الحجرية والجرار الفخارية المكممة بقماش ملون ومزخرف، وأدوات نحاسية وبرونزية وعظمية ومشط بأسنان مسننة، وعلى الجدران نقش لحمامة ترقد في عشها، وعلى جناحها الأيسر خمسة خطوط تفصل عن المسافة بينها وبين المدفن المقابل للذيل، وإلى الأسفل منها دوائر ترمز إلى أعداد المدفونين في المقبرة، ونقش يصور عائلة تتقرب إلى قرص الشمس، تحرق البخور وتقدم القرابين والأزهار البرية القرمزية. وفي جرن صغير عثرت على حصى مدورة تجاوزتها بداية إلا أنّ لونها الذي يميل الى الفيروزي أيقظ في ذاكرتي عادة قديمة من أيام كنت مولعاً بجمع الحصى المميزة . وكنت أبحث في رائحة الحجر عن عطر مفقود .أغمض عيني تاركاً لأنفي فضاء رحباً من التخيلات ، إلا أن هذا لم يحصل في مهمتي الأولى معك إلينا وبدلا من أن أغمض عيني وجدتني مشدوهاً فاغر الوجه بمواجهة الرسم المحفور على الحجر بخطوط رفيعة مسننة . كان رسمها نفسه الموجود في الورقة الأولى والتي لا تحمل عنواناً .. أم يخيّل إليّ أيضاً..؟

وانتظرت في المعبد لربما تنهض الأجساد المنسية في صدمة الموت الأخيرة، كأن تغمز نقوش رجال يحملون أزهار اللوتس الذابلة، أو أن تهلل نسوة يحملن أزهار الحياة، أو أن تهاجمني الأسود المنحوتة في قاعدة النواويس، أو أن يظهر الإسكندر الأكبر على رأس جيش، محاولاً اقتحام المدينة يوم كانت جزيرة، لكن السكون لازمني مثل حال المدفن وفيه مجسمات لستة راشدين وطفل ورؤوس خمسة ثيران ضخمة، وتساؤلات عن أسباب الوفاة تثيرها وجوههم: هل اقتيدوا إلى المكان عنوة، إذ توحي وضعية أجسادهم بذعر شديد: منهم من مات ويداه خلف ظهره، وكأنهم كانوا مكبلين، فيما يمسك الطفل بقدمي الراشد الواقف أمامه، وهناك شخصان يمسكان بأيدي بعضهما بعضاً. أم أنهم أصيبوا بمرض ما وقتلوا؟ أم قدموا أضحية بفعل وباء أو حرب؟ وما الرابط بينهم وبين البناء القديم الذي يبعد أمتاراً، ويشبه المذبح المبني من حجارة كلسية، شكله مستطيل وأمامه حجارة مرصوفة في ما يشبه السور؟ .

غادرت المعبد على حيرة من أمر الحجر الذي لا يحق لي حتى لمسه بموجب قوانين الحماية . وكنت بدأت أشعر بالارتباك ، مع دافع فضولي لعودة البحث عن كنزي القديم المتمثل بمئات الحجارة الملونة ، والتي كانت تسخر مايا منها على اعتبارها ” فتياتي العالقات في الحجر”.

وبينما ابتعدت قليلا عن المكان ، لمحت  طيفا على حجارة صفراء يتقدم باتجاهي . كانت الشمس في ذروتها ، والفستان الابيض المكشوف حتى الزندين والركبة يستفزني لأستعجل الخطوات، والقلب يسأل:

أتكون “إلينا”؟.. .

وتقاربنا في الظلال، ثمّ في الجسدين ثم في سلام اليدين والصوت الذي لم يكن غريباً عني…

لكنها لم تكن “إلينا”؟ وليست في مقاييسها ولا في حركة القدمين بينما تثبت إحداهما في الأرض وتنقل الثانية في الهواء بعفوية وغوى.

 ومع ذلك شيء في داخلي أمسك بيدها، ولم تمانع في أن تراقصني مع بعض الارتباك في انكسار الضوء في عينيها المحدقتين بي، وفي عينيّ اللتين تلاحقان السؤال: هل بدّلت في ملامحها؟ وهل صحيح أنها اقتربت مني؟ وهل صحيح أني حاصرت بيدي خصرها الدقيق؟ وأني ضغطت بأصابعي على الجسد اللين؟ وأننا تقابلنا في الأنفاس وفي العيون جسداً في اختبار الجسد؟ وأننا سرنا معاً بخطوات منسجمة إلى الأمام وإلى الخلف وإلى التفافات دائرية…

التفافات دوّختني إلى حيث تاهت مني وجهتها حين انسحابها الداهم .. آه يا “إلينا” ما أجمل أن نرقص معاً.

“يُتبع”

========================

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى