لماذا يتكرر إجهاض الديموقراطية في السودان؟
“المدارنت”..
تفاعلا مع التطورات الأخيرة في البلاد إثر توقيع مجموعة «تحالف تأسيس» على «ميثاق السودان التأسيسي» في نيروبي تاريخ 22 فبراير/شباط 2025 وإعلانهم العزم على تشكيل حكومة موازية لحكومة بورتسودان، وعلى مدى مقالاتنا الأربع السابقة، ناقشنا أو أعدنا وجددنا مناقشة مقولة «الحلقة الشريرة» من حيث معنى المفهوم ودلالاته، ومن حيث تاريخيته وتجذره في الأدب السياسي السوداني وارتباطه الوثيق في تحليل تواتر الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية في البلد، ومن حيث أشكال تجلي المفهوم وتجسده على أرض الواقع، بما في ذلك إسقاطه على هذه التطورات الأخيرة.
وقلنا في هذه المقالات أن الحرب الراهنة وما صاحبها من خطاب معاد لثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وتأجيج مشاعر العداء بين مكونات البلاد والحض على الكراهية والعنصرية والتمييز العرقي والإقصاء السياسي، والتلويح باستخدام العنف في حسم الخلافات السياسية وكأداة للسيطرة والترهيب، والدور السالب للتدخلات الخارجية في البلاد…، كل ذلك من تجليات «الحلقة الشريرة» والتي هي أصلا ممسكة بتلابيب البلاد وتخنقها منذ فجر الاستقلال.
وأشرنا في هذه المقالات إلى اتجاه مجموعة «تحالف تأسيس» لتكوين حكومة في مناطق سيطرة ميليشيا الدعم السريع موازية لحكومة بورتسودان بزعم سحب الشرعية منها وتعمل على بناء السودان الجديد، كما أشرنا إلى الاتجاه الآخر الذي يختصر العملية السياسية في تعديل الوثيقة الدستورية وتكوين حكومة في مناطق سيطرة القوات المسلحة السودانية، حتى وإن إمتدت هذه السيطرة لتصل القصر الجمهوري، وقلنا إن كلا الاتجاهين يصبان في دائرة «الحلقة الشريرة» ويجسد كل منهما شكلا لتجليها.
واستجابة لتساؤلات وصلتنا من مجموعة «شباب القراءة من أجل التغيير» حول المقصود بمفهوم «الحلقة الشريرة» كتبنا أن المفهوم تعبير راسخ في الأدب السياسي السوداني، يصف حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد منذ فجر استقلالها، ويشير إلى متوالية حكم مدني ديمقراطي ضعيف يطيح به انقلاب عسكري يقيم نظاما ديكتاتوريا تطيح به انتفاضة شعبية تقيم حكما مدنيا ديمقراطيا هشا يطيح به انقلاب عسكري آخر، وهكذا تدور الحلقة، مخلفة غياب التنمية وتدني الخدمات ونسف استقرار البلاد واستدامة تأزمها واحتجازها في براثن التخلف والعجز عن بناء دولتها الوطنية الحديثة. وتعقيبا على هذا التعريف وصلتنا رسالتان الأولى من المناضل محمد فائق يقول فيها إن «الدائرة الشريرة ليست فقط متوالية العسكر والديمقراطية، وإنما هي سيطرة نخبة متعلمة أو غير متعلمة ذات خلفيات اجتماعية وجهوية وقبلية على أدوات الحكم أيا كان عسكريا أو ديمقراطيا وتفرض مفاهيمها ومصالحها على بقية الشعب».
من جانبي، أقر بأن الفكرة ليست محصورة أو حكرا على العسكرة بمعناها المباشر، وإنما الفكرة، أو معنى المفهوم، يشيران إلى حالة التسلط وقمع الآخر وانتفاء الديمقراطية ونسف استقرار البلاد واستدامة تأزمها. وفعلا كما ذكر الأستاذ محمد فائق فإن أنظمة التسلط والقمع يمكن أن تكون عسكرية أو مدنية، وبالطبع متى ما سيطرت هذه النخبة أو تلك، مدنية أو عسكرية، وفرضت مفاهيمها على بقية الشعب انتفت هنا فكرة الديمقراطية. لكن المثال الأوضح في السودان، ومنذ حكومة الاستقلال الأولى، هو توالي الانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية المؤدية إلى نظام ديمقراطي لا يصمد طويلا أمام انقلاب عسكري جديد، وهكذا.
الرسالة الثانية وصلتني من صديق يقول فيها إن سياسيا مخضرما، حسب وصف الصديق، أرسل له تعليقا على تعريفي للحلقة الشريرة يقول فيه إن السبب في انهيار الديمقراطيات في السودان وإجهاضها بالانقلابات العسكرية ليس لأن هذه الديمقراطيات هشة أو ضعيفة، كما ذكرنا نحن في تعريف مفهوم «الحلقة الشريرة» وإنما السبب يكمن في الحزبين العقائديين، الشيوعي والجبهة الإسلامية، اللذين نظما انقلابين عسكريين على الديمقراطية قبل أن تتم دورتها. من جانبي أجد صعوبة في الموافقة على هذا التسبيب.
أولا، الديمقراطية القوية والراسخة يصعب الانقلاب عليها لأنها تُحمى بشعوبها ومؤسساتها حتى في ظل وجود أحزاب عقائدية. فالهند، إحدى أقوى الديمقراطيات في العالم وتحتضن أحزابا شيوعية وعقائدية قوية، بل ظل الشيوعيون يحكمون بعض الولايات لعدة عقود. وجنوب أفريقيا التي بها أحد أقوى الأحزاب الشيوعية في العالم لاتزال ديمقراطيتها راسخة منذ استقلالها. ولولا ضعف وهشاشة الديمقراطية في السودان لما تم الانقلاب عليها، مع التنبيه بأن الانقلاب الأول عليها، 1958، لم يكن من حزب عقائدي.
ولعل السبب الرئيسي في الانقلاب على ديمقراطيات السودان هو قصورها عن تلبية وتحقيق مطالب الناس المشروعة، وعدم تنفيذها الإصلاحات المطلوبة، وفشلها في إدارة التنوع والتعدد في البلد، وانشغالها عن كل ذلك بالمكايدات الحزبية والتنافس حول كراسي السلطة، مما جعل التأزم وعدم الاستقلال هما السمة الغالبة فيها، ويقل ويضعف حماس الناس للدفاع عنها وحمايتها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن قادة الأحزاب، نقد والمهدي والميرغني، الذين جمعهم الاعتقال عقب انقلاب الجبهة الإسلامية، 1989، توافقوا على تحليل موضوعي لأزمة الحكم المزمنة في السودان، ينتقد تجاربنا الديمقراطية وما شابها من اختلالات وضعف، وأجمعوا على ضرورة انتهاج طريق جديد يصحح تلك الاختلالات ويمنع إعادة إنتاج الأزمة، وتوصلوا إلى أن الصيغة المثلى التي يمكن أن تحقق ذلك هي تحالف يضم الأحزاب والنقابات والقوات النظامية ويوحدها، وفق نظرة ناقدة لتجارب الماضي، حول قيام فترة انتقالية تلتزم ببرنامج ينفذ إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية ودستورية بهدف بناء سودان ديمقراطي على أساس المواطنة، يحترم التنوع والتعدد السياسي والعرقي والديني والثقافي، ويحقق التنمية المتوازنة لأقاليمه والعدالة في اقتسام السلطة والثروة. وكان ذاك التحالف هو التجمع الوطني الديمقراطي. لكن، يظل السؤال الرئيسي هو: هل ديمقراطية «وستمنستر» تلائم واقع السودان الخاص أم نحتاج لاجتراح نموذج خاص بنا لممارسة الديمقراطية ؟
وهذا يمكننا إعادة مناقشته في مجال آخر، أو عندما نناقش في المقالات القادمة كيفية كسر «الحلقة الشريرة» والفكاك منها.