ليلة من حياة طفل في غزة.. وسط القصف والظلام والوحدة استشهد والداه أمامه!
“المدارنت”..
من يقرأ السطور التالية، قد يظن أنها قصة مكتوبة لـ”فيلم سينمائي” خيالي، لكن مع الأسف هذا حصل مع الطفل يوسف عامر حسونة، ابن الـ11 عاماً في غزة.
هو بطل هذه القصة، لم يختر أن يكون بطلاً، هو ككل أطفال قطاع غزة الذين لا يرجون سوى أن يحيوا حياة آمنة دافئة، لا قصفاً يهدد حيواتهم، ويهددهم بفقدان ذويهم، ولا نزوحاً مضمخاً بطعم الألم والجوع والبرد والقهر.
يتحدث يوسف عن ليلة واحدة من ليالي حرب الإبادة “الإسرائيلية” (الإرهابية الصهيونية) على غزة، ويقول لبوابة اللاجئين الفلسطينيين:
إن قذيفة سقطت على واحدة من غرف المؤسسة التي كانت عائلته تنزح إليها، في منطقة تل الهواء جنوب غرب مدينة غزة.
كان قد مرّ على حصار مجمع الشفاء الطبي الأخير، أسبوعاً كاملاً، وكان الحصار يطبق أيضاً على المنطقة التي يعيشون فيها، وتسببت القذيفة باندلاع حريق صغير داخل تلك الغرفة، عمل والد يوسف بسرعة على إطفائه، وباتوا ليلتهم أسفل درج البناية من شدة الخوف.
صباحاً، تفقد الوالدُ الغرفة التي أصبحت مكشوفة بفعل انهيار جدارها، فبادره قنّاص “إسرائيلي” (إرهابي صهيوني) بطلق ناري، استقر في كتفه الأيسر، فأسرع الأب بالنزول إلى الطابق الأرضي، وربط جرحه، وقرر هو وزوجته التحرك بأطفالهم الأربعة، والابتعاد عن المكان بعد أن اكتشف جيش الاحتلال وجودهم داخل تلك البناية.
تابع يوسف: “غادرنا المركز وقبل أن نبتعد ثلاثين متراً، تلقت أختي الكبيرة، التي يبلغ عمرها 12 عامًا، رصاصة في صدرها، وخرجت الرصاصة في ذات اللحظة، واستقرت في جسد أمّي، عاد إليهما أبي، فتلقى هو الآخر ثلاث رصاصات في أماكن مختلفة من جسده، ليرتمي الثلاثة الى جانب بعضهم البعض”.
أضاف: “كنت متأخراً عنهم بأمتار قليلة، أنا وأختاي الصغيرتان، فأسرعت بشدّ أختاي، وخبأتهما أسفل بناية مجاورة، كنت أعلم بأني لو تحركت لإنقاذ أبي وأمّي وأختي، ستستهدفني القناصة على الفور”.
رغم إصابة والد يوسف المتعددة، إلا أنه زحف باتجاه مخبأ أولاده، تلحقه ابنته المصابة، وبعد مشقة، تمكنا من الوصول إليهم.
لم تستطع والدته التحرك من مكانها، وبعدما كانت قد تلقت رصاصة أخرى في صدرها، ولكنها ضغطت على نفسها بشكل رهيب، وزحزحت نفسها ببطء شديد لتقترب منه، فأسرع يوسف يشدّها بكلّ قوته إلى أن استطاع سحبها إلى مدخل البناية.
رجع إلى الأعلى ليجد أن أباه وأمه
قد أصابتهم “الكواد كابتر” بالمزيد من الرصاصات
بعد البحث داخل البناية، وجد يوسف مرتبتان، وضع والداه عليهما، وخلال بحثه، وجد باباً يقوده الى قبو سفلي، فساند أخته المصابة وأنزلها هناك، ورغم أنه طفل، لكن على ما يبدو أنه علم من كثرة ما شاهد من إصابات خلال شهور الحرب، أنه يجب أن يجلس أخته، لا أن يمددها، لأن نزيفها كان قوياً، ثم عاد واصصطحب اختاه الصغيرتان إلى الأسفل، ووضع صناديق خشبية وبراميل لحماية أخواته من أيّ قذيفة أو شظايا.
خلال وجوده في الأسفل، سمع أصوات طائرة “الكواد كابتر” قد دخلت إلى فناء البناية، وبدأت بإطلاق زخات رصاصاتها، فأسرع يغلق باب القبو، بعد برهة من الوقت، اختفى صوت “الكواد كابتر”، فرجع إلى الأعلى، ليجد أن أباه وأمّه قد أصابتهم “الكواد كابتر” بالمزيد من الرصاصات، لكنهما كانا ما يزالان على قيد الحياة.
كان والده ومنذ إصابته، يتواصل مع أعمامه الذين أخبروه أنهم على بعد مائتي متر من المكان، لكنهم لا يستطيعون التقدم أكثر من ذلك، بينما كان وضع الوالدين حرج للغاية.
خشي يوسف على أختَيْه من هذا المشهد
القاسي والمؤلم فغطّى وجهيّ أمه وأبيه
يقول يوسف: “بينما أبي كان يحاول التواصل مع أعمامي، كنت أرى نظر الحسرة والألم في عيون أمّي، وهي تعلم أنها ستفارقنا بعد لحظات، تاركةً إيّانا للمجهول، من دون أن تستطيع حمايتنا، تواصلت مع أعمامي، وأخبروني أن الصليب الأحمر قد رفض التدخل لإخلائهم أو إسعافهم، وأن قوات الاحتلال تقوم باستهداف أيّ سيارة إسعاف أو دفاع مدني تحاول الاقتراب من المكان”.
يضيف: “كانت أختاي الصغيرتان تلحقان بي كلما صعدت إلى أعلى، وكنت أنظر إلى عيونهما، فأرى الخوف الشديد على وجهيهما، وهم تشاهدان حالة أمّي وأبي، وسط عجز عن طمأنتهما او تهدئة روعهما”.
كان الوالدان يحتضران أمام عيون أبنائهم، وخشي يوسف على أختيه من هذا المشهد القاسي والمؤلم، فغطّى وجهيّ أمه وأبيه بغطاء قماشي حتى لا تريا ما يحدث.
يكمل الطفل يوسف، ابن الأحد عشر عاماً فقط، قائلاً: “مرت ساعتان ونحن على هذا الحال، ثم فجأة أخذ الزبد يخرج من فم أبي، وما هي إلا لحظات حتى فارق الحياة، فقد برد جسده واختفت أنفاسه، وعلمت بعد ذلك أن أكثر من ثلاثين رصاصة اخترقت جسده”.
يضيف: “ساعة أخرى مرت، لحقت أمّي بأبي، وفارقت الحياة هي الأخرى”.
في الظلام وجد الكلاب تنهش جُثّتيّ أمه وأبيه
سابقاً كان يوسف قد نجح في إيقاف نزيف أخته لينا، بربطه بقماشة، ولكنها كانت تتألم بشدة من إصابتها في الصدر، وكانت شبه غائبة عن الوعي وهي تصرخ بشدة.
وهو كان على تواصل مع أعمامه، وكانوا لا يزالون على حالهم لا يستطيعون الاقتراب، وطلب منه أحد أعمامه أن يربط قميصه الداخلي الأبيض بعصاة، كراية بيضاء، ويحاول الخروج من المكان، وما أن خطت قدماه خارج البناء حتى انهالت عليه الطلقات النارية، وتناثرت من حوله فعاد مسرعاً.
اقترب الغروب، وكان قد تبقى عشرة في المائة بشحن بطارية الهاتف الجوال، فطلب منه أعمامه أن يطفئه، ويشغّله صباحاً.
ساد الظلام المكان، ويوسف يحتضن أختيه الصغيرتين داخل القبو، والخوف والرعب الشديدين مسيطران عليهم طوال الوقت.
وفي لحظة، سمع صوت نباح كلاب في الأعلى، فشغّل الهاتف وأسرع يتفقد الأمر في الأعلى، ليجد الكلاب تنهش جثتيّ أمّه وأبيه، فبحث عن حجارة، وأخذ يلقيها على الكلاب إلى أن نجح في إبعادهم.
يبدو أن هروب الكلاب بتلك الطريقة قد نبّه “الكواد كابتر”، إلى وجود أحد في المكان، فسمع صوتها تقترب، أسرع بإغلاق باب القبو مرة أخرى، واختبأ مع أخواته بالأسفل.
نام من دون إرادته، ليستيقظ صباحاً، ويبدأ بإرسال الرسائل إلى أعمامه: “ما زلنا بخير!”.
لم يصدق أعمامه أن الأخوة ما يزالون على قيد الحياة، فقد فقدوا الأمل بنجاتهم، لم يمرّ الكثير من الوقت، حتى سمع صوت عمّه ينادي في المكان، كان الصوت يأتي من خلف البناية، وكان يصعب عليه الخروج منها، لكنه تمكن من اجتياز جدار كان مهدما بفعل القصف في مؤخرة البناية.
أسرع يساند أخته المصابة، واصطحب أختاه إلى أعلى، وجدوا عمهم الذي اصطحبهم إلى المستشفى الأردني، وهناك قاموا بسحب الدم الفاسد من صدر الأخت المصابة ومعالجتها.
عاد يوسف إلى بيت عمّه، وقد فقد أبيه وأمّه في ليلة واحدة، وبطريقة قاسية وبشعة، خبر فيها ما لا يتحمله عقل بشر، وما يزال يجلس وحيداً يبكي، قيل له أنه تصرف كالرجال، وأنه صار رجل البيت، ولكنه لم يرد هذا، ولن تخفف هذه الكلمات ما سيحمله لباقي أيام عمره من ألم، كان لا يريد سوى أن يعيش طفولته في كنف والديه، ووسط دفء العائلة، ولكنه فقد كل هذا.