تربية وثقافة

ما هو الوطن يا صفية؟!

ناجي سعيد/ لبنان

خاص “المدارنت”..

 

كانت ردّة فعلي على مجيء ابنتي على هذه الدنيا، القرار بعدم انجاب مخلوق/ة آخر. وهذا الموقف ليس من الحياة بشكل عام، ولكنّ الموقف ينحصر في أسفي وحزني على مفهوم المواطنة في بلدي الذي يحمي الهوية. نعم فالهوية ليس مجرّد بطاقة ممغنطة تخفي المذهب والطائفة، فالهوية تُدرك بالسلوك الظاهر الذي يُترجم القيم الباطنية الذي يحملها الإنسان.

إنّ الإجراء الذي إتّخذته الدولة في التسعينيات وهو انجاز بطاقات الهوية الممغنطة كان خطوة إيجابية، ولكنّ خطوة من طرف واحد، كمن يُحبّ أحدًا ولا يُخبره. والتعليق الشعبي من الأشخاص اللاطائفيين على موضوع الهوية المُمغنطة، “لازم نلغي الطائفية من النفوس قبل النصوص”.

 وهل هذا في متناول اليد؟ أي أن الفئة الشعبية يمكنها أن تكون لا طائفية؟ هذا في حال كان هناك فئة شعبية واحدة. إن مشكلة ضياع الهويّة اللبنانية هي المؤامرة المحبوكة على الوطن. حتى لو لم نعتمد التفكير المؤامراتي للحديث عن القضيّة، فلا يمكننا أن نغمض أعيننا عن منافذ عديدة تُفتح على كلّ بيت لبناني وتدمّر الهوية الجامعة.

نعم فالتقسيم للهوية الوطنية داخل كل بيت حتى لو أظهر أصحاب هذا البيت معارضتهم للمادة المعروضة على التلفاز. فالتلفاز كان لبنانيًّا حينما كان يقتصر على قناتين، الأولى برامجها باللغة العربية والثانية تبث برامج باللغة الفرنسية. حتى لو كانت القناة الفرنسية من مخلّفات الإستعمار الفرنسي. لكنّها كانت نوعًا ما موجّهة.

وأقصد بالموجّهة، أن البرامج التلفزيونية حينها كانت تحمل إلى حدٍّ ما القيم النابعة من تقاليدنا وعاداتنا الشعبية المرتبطة بأصالة لبنانية بعيدة عن المذهبية التي تعكس “أجندات” هويات خارجيّة وقاتلة للهويّة الوطنية. وقد ينزعج البعض من انتقادي للفيلم الذي لاقى نجاحًا بمعيار شبّاك التذاكر. في العام 2016 عُرض الفيلم “يلاّ عقبالكن شباب”. وما  استغربه فعلاً أن تُعنون مقالة نشرتها جريدة الأخبار( المٌمانعة): “يلّا عقبالكن شباب” فيلم خفيف نظيف!

هل يقرأ القيّمون على الجريدة المقال؟ ويأبهون لمضمون المقال؟ ولست من هواة الدبابيس، وسأشيح بنظري عن النقد الفنّي السائد في الصحف حينما يكتبون عن فيلم سينما جديد. فأوّل معيار نقدي عندهم هو شبّاك التذاكر، ولا أعلم ما هي المعايير الباقية. لكنّي أمتلك نظّارة قِيميّة صنعتها بعرق تجربتي التربوية وموروثات أهلي التربويين. وهذه النظّارة لا تأبه لشبّاك تذاكر يعطي الإذن للفيلم بأن ينجح أو يفشل. فالنظّارة تحكم على المشكلات السائدة في المجتمع بطريقة مختلفة. فلا ترضى بتمرير الأخطاء عن طريق تخبئتها تحت السجادة كالأطفال الذي “يكنّسون” الأرض بغياب والدتهم.

فيلم لبناني كتابةً وأخراجًا وتمثيلاً، لا يعنيه الموضوع المُتداول في الفيلم، وبمعنى آخر ما يعنيه، إظهار التحرّر الشكلي الفئوي، لست ضدّ ارتداء “المايو” لكنّ ضد تسليع جسد المرأة. والتسليع لم يقتصر على اللباس فقط. بل سياق القصّة يُظهر: زواج فاشل ظهر فشله بعد المولود الأول، “دون جوان” لديه هَوس “بتعليق” الفتيات بحباله على الرغم من أنّ لديه عشيقة. وعريس يبحث عن إمرأة ليرتبط بها.. والتسليع بنظرة كل المذكورين للمرأة بطريقة مُشينة. وليس تسليع المرأة ما يُعيب هكذا فيلم، بل بُعده كل البعد عن واقع اللبنانيين.

 نعم فندرة من يعيش في قصر به حديقة كبيرة ومسبح.. وإلخ. أكتب هذا المقال بلا فائدة، فقط لإمتلاكي شعور بالإستياء العارم من مستوى الأفلام اللبنانية. ولأني إنسان تربوي خبير بإعداد أدلّة تدريبية تتناول الهوية والقيم الإنسانية، خطر ببالي بأن الصراع الأيديولوجي الذي بدأ بقوّة بعد إعلان الحرب الأهليّة على المستوى العسكري، ما يزال مستمرًّا بطريقة ناعمة، بعد اتفاق الطائف الذي حصد سلامًا على مستوى القيادة وسلامًا زائفًا عند الشعب.

فذكاء بعض الأيديولوجيّات كان بأن ما تزال حتّى الآن تمرّر أفكارها كالنسيم من النافذة المرئيّة المسموعة لتسيطر على العقول.والسيطرة  على العقول لن تُجبر الحاجّة إم حسن على نزع الحجاب وإرتداء لباس البحر على الشاطئ. بل الأخطر أن تعتاد لتتعاطى مع الإختلاف الإيديولوجي كأنّه أمرًا عاديًّا. وعلميًّا لا يُدرك المشاهدون أن ذبذبات إلكترونية تخرج من شاشة التلفاز وتؤثّر سلبًا على الدماغ. وهذه الذبذبات حين تُفقد الدماغ السيطرة، تدخل الأفكار والمعتقدات بطريقة إنسيابية فيعتقد الدماغ بأنها صحيحة ويعتمدها.

والنتيجة تكون بأن فئة تعتبر أن اللباس هو جزء من تقاليدها، لأنها تربّت على الاستعراض الإستهلاكي للجسد، وفئة أخرى تنبذ هذا النمط ولا تعتمده لكنّها تمرّره كمفهوم سائد فتجري من تحت الهوية الأصيلة ماء المُعتقدات المغلوطة المقسّمة للهوية. حرب أهليّة من دون رصاص. نعم فالحرب الإعلامية مدروسة ومُدمّرة للبلدان النايمة.. أقصد النامية.

أتمنى أن يشاركني الكثير من الناس مواطنيّتي التلقائيّة، أنا الذي وُلدتُ في بيروت الشرقيّة حينها، من أبٍ جنوبي المنشأ وأمٍّ بقاعية، ونَمّوتُ وترعرعتُ في مدينة صيدا، والآن أعيش مُتنقّلاً بين بيروت والجنوب، هذه مواطنة ليست محض صدفة، بل أصبحت قرارًا أؤمن به لأنّه وطني الحقيقي.

وكما قال ميخائيل نعيمة: “فكري ضيّق، مادام لا يتّسع لأيّ فكرٍ آخر، لذا لم أنجب سوى بنتًا وحيدة، فلا أريد أن أهديها أخًا لامواطنًا”.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى