مقالات

ماذا عن جرائم الفساد؟!

عبد الرحيم خليفة/ أوروبا

“المدارنت”..
بعد كل الذي جرى من قتل وإجرام، وإستخدام للكيمياوي لمرات عديدة، وفي أماكن مختلفة، يبدو الحديث عن جرائم الفساد، والنهب المنظم، نوعا من اللامعقول، وبحثا في صغائر الأمور، و”التفاهات” أمام هول “الكبائر”.!
على الدوام، كان الفساد الوجه الآخر للاستبداد،صنوان، لا يفترقان، أحدهما يفضي للآخر. لطالما كانت جرائم الفساد، بأنواعها، لا تقل خطورة وكارثية بنتائجها، عن جرائم القتل والتعذيب، والاختفاء القسري، والاعتقال المديد، والحجز الإحتياطي، والتجريد من الحقوق والجنسية، والفصل من العمل، والمنع من السفر…إلخ من مستولدات استبداد تلك المرحلة، التي تحولت إلى طغيان بلا حدود. الحديث عن جرائم الفساد، اليوم، ليس انحيازاً للفقراء والغلابة من عامة الناس، مصدره إيمان بقضية العدل الإجتماعي، وفقط، التي باتت غائبة عن أدبيات قوى الثورة والمعارضة، ومطالبها، إنما إدراك، وبالتحليل الموضوعي والعلمي.
إن كل هذا الطغيان ما كان له أن يستشري لولا الفساد وثقافته، وجرائمه، التي طالت كل بنى المجتمع، وشملت كافة مناحي الحياة، وعلى مختلف المستويات، ويجب ألا يفلت مرتكبوها من القصاص تحت أي ذريعة أو حجة، من مثل القول: الجريمة الكبرى تجب الأصغر منها.
كان لثورة الحرية والكرامة أسبابها الاجتماعية والإقتصادية الظاهرة، ولعل دلالات إنطلاقها من الريف، والأطراف، وأحزمة الفقر حول المدن الرئيسة لا تخفى على أحد، وتؤكد ما نذهب إليه. من سيحاسب الفاسدين ؟ ومن سينصف ضحايا الفساد عبر عقود؟ وهل جرائم الآمس ستسقطها جرائم اليوم؟؟ ورب قائل:
إن من تلوثوا بالفساد ليس بالضرورة أن يكونوا قد تلوثوا بالدماء؟ أزعم أن تلك الجرائم ونتائجها لا تقل خطورة عما حصل ويحصل اليوم، ولكنها غير مرئية إلا للدارس والباحث، والمدقق في عمق الأشياء وليس ظواهرها البادية للعيان، وعلى مدى زمني طويل من حكم العائلة… وهي تتطلب بحثا معمقاً بقصد الوقوف على حيثياتها، وإستخلاص العبر والنتائج منها.
لا أظن أن تلك الجرائم ستجد وقتا لها في جنيف /2/ ، وعقابيله، إذا ما أحسنا الظن به، أصلا، وإعتبرناه المخرج، والحل الوحيد والمطروح الآن، ولا أعتقد أن كل ما يقال عن العدالة الإنتقالية سيتاح لها أن تدقق في مئات ألاف وقائع الفساد من اختلاسات وصفقات وتزوير، وسطو على المال العام والتهرب الضريبي، وكل قضايا الفساد الإداري، والأخلاقي، وما ترتب عليها من كوارث اجتماعية، أفرزت أمراضا تحتاج لزمن طويل لمداواتها والتعافي منها….!
من سيتذكر تلك الحقبة المديدة وما شابها، وما حملته من تفاصيل مذهلة عن وقائع أغرب من الخيال، في القضاء والتعليم، والصحة والإعلام، وحتى في الآداب والثقافة.؟؟!! قد عمل النظام وبدأب شديد على توطيد أركان حكمه عبر تعميم الفساد ونشره، والتأصيل له ثقافياً، ما أدى إلى إنتشار قيم الرذيلة و”الفهلوة والشطارة “، وإنتاج طبقة إجتماعية، شملت شريحة واسعة من الناس من ضعاف النفوس، ومن مستويات مختلفة، تتغذى وتنمو وتترعرع في حضن النظام ومؤسساته، في مقابل تغييب دور شرائح واسعة من المجتمع عبر سياسة ممنهجة تمكنت من تغيير السلم الاجتماعي، وقلب مفاهيم أصيلة كثيرة، من مثل العمل والعلم، والخير والتكافل، وعدم الإستغلال.. إلخ.
وهي اليوم، أي الطبقة الجديدة، إما ماتزال داعماً أساسياً لهذا النظام وتدافع عنه، وإما تسللت لصفوف الثورة وتعمل فيها خراباً، أو تحاول تحصين ذاتها من أي ملاحقة قانونية، مستقبلا، أو أنها تتبرأ من تاريخ ملوث يلاحقها، ولطخها بالعار، وهو ما يجب التنبه له وإدراكه، والتحسب لنتائجه. الظلم مؤذن بخراب العمران” هكذا يقول إبن خلدون، عالم الإجتماع العربي الشهير، وهو مانجده واقعاً مجسداً اليوم مع دمار أكثر من نصف وطننا على يد العصابة، وهو ما يدفع للقول أن إعادة الإعمار والعمران لن يكون بدون رد المظالم إلى أهلها، وفتح كل تلك الملفات القذرة، وعلى قاعدتي الحق والعدل، اللتين بدونهما لن تستوي الآمور وتعود إلى نصابها.! ليس ذلك “طوباوية” وخيال، أو أحلام يقظة، إنما هي إحقاق للحق، لا يسقط بالتقادم ومرور الزمن، لابد معه من الإنصاف وإعادة الإعتبار، لكل ضحاياه.
لقد قدر لي بين عام 2002 و2008 أن أكون قريبا من عدد من الجمعيات الخيرية في سوريا، ونشطت في بعضها، وتابعت بعض القضايا بتفاصيلها الدقيقة، وبعضها موثق ومثبت، تشيب لها الغلمان، كما يقال، وتؤشر إلى أي درك وصل له حال مجتمعنا، وأي كارثة حلت بنا على يد النظام – العصابة، ولا شك أن هناك ملفات كبرى لا يجوز بحال من الأحوال تجاهلها، والقفز عليها، تحت حجة المسامحة والتطلع إلى المستقبل، ونسيان الماضي.
مرة أخرى، هل ستجد كل تلك الملفات من يعيرها إهتماماً؟ وهل ستحظى بالمتابعة والبحث، والمساءلة لمرتكبيها؟! لا أظن أن سوريا الجديدة، التي نريدها جميعاً، يمكن أن تتأسس من دون عقد إجتماعي يحفظ الحقوق ويحدد الواجبات، ويحد من ظواهر الفساد ويحاسب مرتكبيه، تحقيقاً للحكم الصالح والرشيد، وعليه، من الضرورة بمكان النظر في فساد كل تلك المرحلة، بكل تفاصيلها الدقيقة، وإسوة بدول أخرى مرت بحالات مشابهة..

المصدر: “ملتقى العروبيّين”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى