ماكرون والتلاعب باليمين واليسار..!
“المدارنت”.. تقليدياً، وفي الفكر الديموقراطي بالتحديد، يجري الحديث عن أن «صناديق الاقتراع» هي الفيصل الحقيقي بين المتنافسين في العملية الانتخابية، وأن الناخبين يعبّرون عن إرادتهم الحرة المستقلة عبر صناديق الاقتراع، لكن تثبت التجارب العملية أن هذا الاعتقاد الذي يروج له في الغرب الليبرالي، نصف الحقيقة فقط، وربما أقل بكثير من نصفها. وكثيرة التجارب التاريخية التي جرى فيها التلاعب بإرادة الناخبين عبر «عمليات تحالفية» تجري بين القوى السياسية المتنافسة.
وأبرز هذه التجارب وأحدثها دلالة على الفوضى التي تجتاح عملية الانتخابات، باعتبارها أهم تعبير عن الديموقراطية الحقيقية، ما حدث في فرنسا خلال الأشهر الأربعة الماضية منذ الهلع الذي أصاب المؤسسة الحاكمة في فرنسا وعلى رأسها الرئيس إيمانويل ماكرون عقب ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية (انتخابات البرلمان الأوروبي) التي ظهرت نتائجها في 9 مايو/ أيار الماضي، إذ لم يتحمل الرئيس ماكرون صدمة فوز اليمين الفرنسي المتطرف بزعامة مارين لوبان، بأغلبية المقاعد الفرنسية في البرلمان الأوروبي، ما دفعه إلى إصدار قرار منفرد، من دون أي تفاهم مع رئيس الحكومة غابرييل أتالي، بحلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) في 12 مايو/ أيار، والدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة جرت جولتها الأولى في 30 يونيو/ حزيران الماضي وجولتها الثانية في السابع من يوليو/ تموز الماضي.
كان طموح الرئيس الفرنسي أن تأتي هذه الانتخابات بنتائج ترضيه سياسياً، تتم فيها هزيمة اليمين الفرنسي الصاعد، وتؤمّن أغلبية برلمانية لتيار يمين الوسط الموالي له، كان افتقدها طيلة دورات المجلس الذي جرى حله، لكن صدمة الرئيس تكررت للمرة الثانية بعد أقل من شهرين من صدمة انتخابات البرلمان الأوروبي، حيث جاء تصويت الناخبين الفرنسيين تصويتاً عقابياً لأنه تحدى إرادتهم التي عبروا عنها في انتخابات البرلمان الأوروبي، فكما أعطوا أصواتهم لحزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي، جددوا اختيارهم لهذا الحزب في جولة الانتخابات الأولى.
حصل حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف وحلفاؤه في تلك الجولة على 33,4% من الأصوات، وحصل التحالف اليساري الذي شكل ما سمي بـ«الجبهة الشعبية الوطنية» ويضم أربعة أحزاب هي: (فرنسا الأبية «الراديكالي» والاشتراكي والشيوعي والخضر) على 27,99% واحتل المرتبة الثانية، وجاء معسكر الرئيس الفرنسي في المرتبة الثالثة بأصوات لم تتجاوز 20,04%.
هذه الإرادة السياسية للشعب الفرنسي جرى الالتفاف عليها، حيث تحالف الرئيس ماكرون وتياره السياسي (يمين الوسط) مع اليسار بسحب مرشحين لكل منهما لمنع التنافس بين التيارين في الدوائر الانتخابية في تحالف أخذ شكل ما سمي بـ«جبهة جمهورية» لمواجهة صعود محتمل لحزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف في جولة انتخابات الإعادة التي أجريت يوم 7 يوليو/ تموز الماضي.
لكن نتائج هذه الجولة أحدثت انقلاباً في الأوزان السياسية، حيث أسفرت عن فوز تحالف اليسار (الجبهة الشعبية الوطنية) بالمرتبة الأولى بحصوله على 199 مقعداً، ثم المعسكر الرئاسي في المرتبة الثانية (نحو 160 مقعداً)، وفي المرتبة الثالثة جاء اليمين المتطرف (143 مقعداً)، ما يُعد انقلاباً ديموقراطياً سواء بالنسبة لنتائج انتخابات البرلمان الأوروبي وانتخابات الجولة الأولى من الانتخابات المبكرة للجمعية الوطنية (البرلمان)، التي احتل فيها حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف المرتبة الأولى.
كيف حدث هذا؟ وألا يفضح ذلك ما يسمى ب «العملية الديموقراطية»، ويؤكد تزييف الإرادة الشعبية؟
تزييف الإرادة الشعبية تكرر مرة أخرى بالنسبة لاختيار رئيس الحكومة الجديد، فوفقاً للنتائج النهائية للانتخابات البرلمانية تلك جاء اليسار في المرتبة الأولى، وأضحى من حقه، شكلياً، أن يبادر بتشكيل الحكومة الجديدة، لكنه، موضوعياً، لا يمتلك الأغلبية المطلقة التي تمكنه من تشكيل حكومة في مقدورها الصمود أمام أية محاولة لسحب الثقة (الأغلبية المطلوبة 289 نائباً في البرلمان)، لكن ما هو أهم من ذلك أن المؤسسة الحاكمة، وبالتحديد الرئيس الفرنسي وتياره السياسي، قررت منع أي من اليسار أو اليمين من تشكيل الحكومة الجديدة، حيث تعهد غابرييل آتال، رئيس الحكومة المنتهية ولايته، بمنع تشكيل حكومة تضم أعضاء من اليمين المتطرف أو اليسار الراديكالي ويقصد «حزب فرنسا الأبية».
صراعات أحزاب اليسار ومنافساتها مكنت الرئيس من المبادرة بتعيين ميشال بارنييه (73 عاماً) رئيساً للوزراء بتفاهمات مع مارين لوبان، زعيمة حزب اليمين المتطرف، ما يعني أن الحكومة الجديدة ستحكم مسنودة بنواب حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، حيث سيساندون الحكومة ضد أي إجراء بسحب الثقة، وعبّر عن ذلك جوردان بارديلا، رئيس الحزب، بقوله إنه «رئيس وزراء تحت المراقبة» وإنه «لا يمكن فعل شيء بدوننا».
أين هي إرادة الناخبين الفرنسيين في كل ذلك؟ الإجابة بالطبع لدى الرئيس الفرنسي، الذي استطاع أن يتلاعب بقوى اليسار واليمين مجتمعة، وقبلها بإرادة الناخبين.