تربية وثقافة

محطة رقم “9”.. بغداد.. المحطة المفترق

أبو عبيدة/ إيطاليا

خاص “المدارنت”..
… انت تريد أن يستمر قطار سفرك بالمضي قدماً، فلا يتوقف عند بعض المحطات، انت ترغب بذلك… بل انت تتمنى اختيار محطاتك، ولكّن المؤسف والمحزن، انه لا قرار لك في اختياراتك إلا لمحطة الانطلاق…

صور الإنتماء لموطنك الجديد، ما تزال في غرفها السوداء، معلقة، مبهمة، تنتظر حدثاً ما، تنتظر تفاعلاً ما، بين آهاتك، وهواء المكان، لتكتمل معالمها وألوانها.

… انت بعيد جداً عن قلب المأساة، لكّنه الجسد فقط. عاصمة عربية ثانية تنتهك وتغتصب، عملية طمس صفحات أخرى من تاريخنا قد بدأت، وانت في بلدٍ كان قد أرسل جنوده وراياته لترفرف على أنقاض بغداد.

قطار المجهول لم يتابع رحلته، المذياع كأنه الناطق الرسمي باسم القدر، أعلن بكل لؤمٍ وقسوة ان ترجّلْ أيها المسافر بأغراضك، احلامك واحزانك فهنا الإنتظار قد يطول، وقطارك قد لا يتابع سفره.

… تجتاحك الرغبة بأن تمسك بكتفي كل من تراه وتهزّه، الماره، زميلك في العمل، بائع الخضار في السوق، بائع الجرائد وأصحاب المقالات فيها، يدفعك القهر بأن تلقي بتلفازك من النافذة، او ان تدخل في شاشته لتصرخ في المعلّقين بأنك تعيش ما لا يعيشون، وتبكي فيما يتحاورون، وإنك في المكان الغير مناسب، وفي الزمن الغير مناسب، وحده البكاء ينجدك في محطة اختارتك وانت لا تريدها…!

فبغداد… كانت تحترق، الفرات كقطار سفرك أعلن رفضه عن المضي، منتظراً مرة أخرى أن يسجّل التاريخ تفاصيل الملحمة العائمة على سطح مياهه.

مآذن التاريخ كانت تبكي احجارها، وهي تسقط حجراً حجراً، وصراخ اهلك هناك، كان له دوي المدافع، وانت هنا يكبّلك العجز عن فهم بسمات العامة، وتعليقاتهم الساذجة في الحرب والمهمات العسكرية لحماية العدالة وحقوق الإنسان والحرية.

هم دائماً هناك لبناء مستقبل أفضل لنا… هم دائماً هناك للتضحية من أجلنا… هم دائماً هناك!

كم انت غريب وقاس ايها القدر!… فأنت على موعد قريب مع جواز سفر، ستلاحقك الوانه الثلاثية كظلٍ لضميرك، ألوان راية، ستقف تحتها لتعلن الولاء لموطنك الجديد، وستقسم باحترام دستوره وقوانينه، والراية ما زالت منصوبة على أنقاض عاصمة من تاريخك أيها المسافر.

… ما هو الانتماء ؟! اي معنى للإنتماء؟! اي شكل سيكون له وانت لا تجد لك صفة صادقة، فثياب الخائن تلبسك، وجسدك العاري إلا من انتمائه يفضحك، انت تريد ان تجد شكلاً لهذا الإنتماء ولكنك تأكل … تشرب… تنام… وتحلم في أرض قاتلك…!

… انت توهم نفسك بعللٍ وأسباب، لن تكون اكبر من ورقة التوت، وانت تعرف ذلك كما تعرف راحة يدك، تحدّث نفسك عن وطن كبير للإنسان، تختبئ وراء اعذارٍ بأنها سياسات حكومات ولا تعبّر دائماً عن رغبة الشعوب، انت تفصل الحدث عن التاريخ، وتصنع ابعاداً جديدة للعدو وربما تعطيه اسماءً اخرى، قد يصبح قوات تدخل لحماية المصالح العامة حيناً، للذود عن حقوق الأقليات والنساء والأطفال حيناً اخراً، لقلب نظامٍ ظالمٍ غالباً، لنشر الحرية والديمقراطية والخير للإنسانية دائماً…

وتسقط بغداد وتسقط انت معها، ويسقط قناعك وترتطم قناعاتك الكاذبة والمزيفة في جدار انتمائك الوهمي…

هنا… انت ايها القادم من وطن تقتطع المآسي منه طرفاً كل عام، وتُدفن في مقابره الف صرخة كل يوم، لن يتغير إسمك في جواز سفرك الجديد، لن تجد في ألوان علمك الجديد لوناً اخراً، يطغى على الكحل العربي في عيون بناتك، ربما الإنتماء يحتاج لأكثر من ذلك ليرقى، فلا تنتظر وقفة صدق للإنسان أمام تاريخ يعيد نفسه، فعدْ الى غرفتك المظلمة وصورك المبهمة وابكِ بصمت.

فأنت أيها المسافر الواهم ، لن تكون اكثر من منتظرٍ في محطات اختارتك وانت لا تريدها، ابحث عن قطار آخر وانطلق من جديد، ابحث عن وجهة سفر أخرى، ودع عنك الأجوبة في هذه المحطة المفترق..
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى