مصير صفقة “بايدن”!
“المدارنت”..
حتى ساعة كتابة هذه السطور، يبدو أن ما تُسمّى «صفقة بايدن» تمضي مسرعة إلى تعثر، أو إلى تأجيل مضاف، وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد أعلن عن ما سماه مقترحا «إسرائيليا» في 31 مايو الفائت، بدت فيه العناوين مثيرة للاهتمام، من نوع السعي لوقف إطلاق نار دائم، والانسحاب “الإسرائيلي” الكامل من قطاع غزة، وإعادة النازحين «الغزّيين» إلى مناطقهم الأصلية.
كان مفهومًا أن ترحب حركة «حماس» وأخواتها بالعناوين المعلنة، خصوصا بعد أن تحول «مقترح بايدن» إلى قرار صدر بما يشبه الإجماع من مجلس الأمن الدولي، لكن حركات المقاومة الفلسطينية، احتفظت بحقها في مراجعة التفاصيل المسكونة بالشياطين، وقدمت أخيرا ردّها الرسمي التفصيلي، الذي تضمن تعديلات تؤكد إلزام «إسرائيل» (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة) بوقف العدوان، وبالانسحاب الكامل من مناطق قطاع غزة كافة، بما فيها «محور فيلادلفيا» و»معبر رفح» من الجانب الفلسطيني.
وفيما بدت الإدارة الأمريكية متلعثمة بعد ردّ «حماس»، فإنها سرعان ما أعربت عن إحباط مصطنع، عبّر عنه أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي، في ختام زيارته الثامنة للمنطقة منذ بدء الحرب، وقال في مؤتمر صحافي مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري محمد بن عبدالرحمن بن جاسم آل ثاني، إن واشنطن كانت تريد أن يكون ردّ «حماس» من كلمة واحدة هي «نعم»، وإنها فوجئت بطلب تعديلات بعضها مقبول والآخر ليس كذلك.
فيما جاء تعقيب مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، مخففا قياسا لكلام بلينكن، ووصف تعديلات «حماس» بالطفيفة، ما قد يوحى بإمكانية تجسير الفجوات عبر الوسطاء الأمريكيين والمصريين والقطريين، عكس ما روجته دوائر “إسرائيلية” وصفت ردّ «حماس» بأنه رفض كامل للمقترح، رغم فتح «حماس» الباب لمزيد من التفاوض، وحرصها على إغلاق الثغرات الظاهرة في قرار مجلس الأمن، المتضمن لمقترح واشنطن المفخخ، فالانتقال بين المراحل الثلاث للمقترح ليس تلقائيا ولا نهائيا، وإنما وضع العصي في العجلات، على طريقة اشتراط إجراء مفاوضات جديدة، خلال مرحلة الستة أسابيع الأولى، التي تتضمن إطلاق سراح المحتجزين “الإسرائيليين” من غير العسكريين الذكور، مقابل الإفراج عن عدد يتفق عليه من الأسرى الفلسطينيين.
إضافة لحديث غامض عن الانسحاب “الإسرائيلي” من المناطق المأهولة في غزة، هكذا من دون تحديد للمناطق المقصودة، وهل تشمل، أو لا تشمل سحب القوات “الإسرائيلية” بالكامل من خط «نتساريم» و»محور فيلادلفيا» و»معبر رفح» على الجانب الفلسطيني، ومن دون سحب قوات العدو من المناطق المذكورة، فما من فرصة لمضاعفة تدفق المساعدات الإنسانية والإغاثية، ولا حتى لتسهيل عودة النازحين «الغزيين» إلى الشمال، وإلى المرحلة الثانية.
فلا يبدو الانتقال لعناوينها تلقائيا، بل بعد مفاوضات مفترضة بلا سقف زمني، قد تضع فيها “إسرائيل” شروطا لقبول الوقف الدائم للحرب المنصوص عليه، ربما يكون بينها طلب تفكيك ونزع سلاح حركة «حماس» وأخواتها، وهكذا يتعثر الانتقال إلى المرحلة الثانية، وتكون للعدو فرصة استئناف الحرب بدعوى تعنت تنسبه إلى «حماس» وأخواتها، ودعك هنا من تطلع إلى المرحلة الثالثة من المقترح، التي تتحدث عن إعادة إعمار غزة، وعن فك الحصار، من دون النصّ عليه صراحة، وهكذا فإن المحصلة الواقعية التي تريدها تل أبيب ومعها واشنطن، هي مجرد هدنة لستة أسابيع هي عمر المرحلة الأولى، واسترداد ما تيسر من جملة الأسرى “الإسرائيليين” والأمريكيين.
بينما كان المقترح الذي وافقت عليه «حماس» في 6 أيار/ “مايو” الماضي، أكثر وضوحا وسلاسة وشمولا، وهو المقترح المعروف إعلاميا باسم «المقترح المصري»، وتضمن إلزاما من البداية بالمضي في كل المراحل دونما توقف، وسارعت “إسرائيل” الى رفضه، رغم سابق التفاوض عليه، وبدأت عملية اجتياح رفح، ما أسقط الأقنعة وقتها، ويسقطها الآن مجددا مع التباسات المقترح الجديد، خصوصا بعد تراجعات واشنطن عن ادعاءات أطلقتها وكررتها، وأوحت بمعارضتها لعملية اجتياح رفح. ثم عادت لتأييدها، والتستر على مذابح كبرى جرت خلالها، بينها «محرقة الخيام» ومجزرة «المواصى»، ثم الشروع في العملية “الإسرائيلية” الأمريكية المشتركة، في قلب مخيم «النصيرات» وسط القطاع، التي أحرزت في الظاهر نجاحا بتحرير أربعة محتجزين “إسرائيليين”، لكنها قتلت في المقابل ثلاثة محتجزين آخرين، ودمرت مربعا سكنيا كاملا، وأدت الى استشهاد نحو 300 مدنى فلسطيني، وأصابت ضعفهم.
ودونما رد فعل من واشنطن (حمامة السلام المزعوم)، سوى أنها رحّبت بما جرى، واعترفت بأنها قدمت دعما مخابراتيًا ومعلوماتيًا إلى “إسرائيـل”، وتغاضت عن المذابح بحـق الفلسطينيين في «النصيرات»، وقبلها وبعدها، ولم ترد أن تعلق تفصيليا على عملية «إسرائيل» لتحرير الأسرى، ولا عن دور قوات «دلتا» الأمريكية في الهجوم الهمجي الواسع، الذي قتل فيه برصاص المقاومة قائد وحدة «اليمام» النخبوية التابعة لشرطة العدو، رغم ما سبق العملية من خداع.
يقال إن الرصيف البحري الأمريكي على شاطئ غزة، شارك في تدبيره، وإن كانت واشنطن نفت دورا للرصيف، الذي تعطل عمليا، فيما تداركت المقاومة الفلسطينية سريعا تقصيرها في مواجهة العملية «الإسرائيلية» الأمريكية، وردت بعمليات قنص وقصفات هاون متفرقة على طول وعرض غزة، ثم بعملية كمين مركب في مخيم الشابورة في قلب رفح، ودمرت قوة “إسرائيلية” كاملة من لواء «جفيعاتى» على وجبتين في منزل جرى تفخيخه على نحو قتالي عبقري، بينما اعترفت “إسرائيل” رسميا بمقتل أربعة بينهم ضابط، وبإصابة ستة آخرين بجروح خطيرة، وبما قفز بعدد قتلى الجيش “الإسرائيلي” في حرب غزة، إلى ما فوق 650 ضابطا وجنديا، وبجرح نحو أربعة آلاف آخرين، وهذا هو العدد المعلن رسميا من قبل العدو.
ينما الأرقام الحقيقية مضاعفة، حتى طبقا لوسائل الإعلام “الإسرائيلية”، فالمتحدث العسكري “الإسرائيلي”، لا ينشر أرقام القتلى من المرتزقة الأجانب وفئات أخرى، وعدد المصابين العسكريين “الإسرائيليين”، جاوز العشرين ألفا، طبقا لبيانات المستشفيات “الإسرائيلية” ذاتها.
والمعنى في المحصلة وببساطة، أننا قد لا نكون على وشك نهاية حرب الإبادة الجماعية “الإسرائيلية” على غزة، وأن مناورات بايدن للالتفاف على حكومة (الإرهابي الصهيوني) بنيامين نتنياهو، ماضية على الأرجح إلى مأزق، فالرئيس الأمريكي يريد هدوءا يوحي بنجاحه، وقد يساعده في تخطى أزمات وتراجعات حملته الانتخابية، بينما نتنياهو يريد استمرار الحرب دعما لبقائه السياسي، وكسبًا مضافًا لشخصه في استطلاعات الرأي العام “الإسرائيلية”، التي أعطته سبقا على بيني غانتس، حتى قبل استقالة الأخير مع غابي آيزنكوت من مجلس الحرب، وما من فارق يذكر بين الطرفين، سوى أن غانتس يبدو مقبولا أكثر من إدارة بايدن، فيما ينتظر نتنياهو ويدعم احتمال فوز دونالد ترامب في انتخابات 5 نوفمبر المقبل.
وما حديث الإدارة الأمريكية الحالية عن «حلّ الدولتين» وتضمينه في قرار مجلس الأمن الأخير سوى ذر للرماد في العيون، تكسب به وقتا للمناورة مع أطراف عربية معروفة، وتسهل به سعيا لتطبيع إضافي مع عواصم عربية جديدة، ودونما فتح طريق فعلي حتى لعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، بعد النهاية المفترضة للحرب، وكل الأطراف تعرف الحقيقة، وتعرف أن الحرب الجارية في غزة، وفي القدس والضفة، قد تنتقل إلى جبهة الحرب مع «حزب الله» في لبنان.
وهكذا، فإن دواعي امتداد الحرب تبدو أكثر ظهورا في المدى المنظور، فيما تبدو صفقة بايدن ماضية إلى مصير معلق، وقد كان أول تعليق لمندوبية» إسرائيل بالأمم المتحدة على قرار مجلس الأمن الأخير، أن “إسرائيل” ستستمر في الحرب لتفكيك «حماس»، في الوقت نفسه، الذى كانت فيه الإدارة الأمريكية تدعي كذبا، أن “إسرائيل” قبلت مقترح إنهاء الحرب، وأن العقبة الوحيدة في موقف «حماس» وأخواتها، وهو الادعاء الذى أحبطته «حماس» بموقفها الإيجابي المتّزن الواعي لمخاطر الشياطين الكامنة في التفاصيل، ثم بإثبات مقدرتها على الفعل المؤثر في ميادين القتال وجها لوجه، وفي التصرف الإنساني عظيم الأخلاقية حتى مع المحتجزين “الإسرائيليين” لديها، وإلى حدّ السماح للأسيرة “الإسرائيلية” نوعا بالتسوّق لمرتين في كل أسبوع من وراء رداء فلسطيني، وهو ما اعترفت به الأسيرة السابقة بعد إعادتها إلى “إسرائيل”، وأدهشت الداخل “الإسرائيلي” بأخلاقية المقاومة الفلسطينية الرفيعة.
بينما جيش الاحتلال “الإسرائيلي” (الإرهابي الصهيوني)، الذي يصفه نتنياهو، بأنه الأكثر أخلاقية في العالم، قد أثبت بالصوت والصورة أنه الأحطّ أخلاقا بامتياز، وأنه يلجأ للتعويض عن فشله القتالي المروع، ويستأسد بأسلحته الأمريكية على المدنيين الفلسطينيين العزل، ويواصل حرب إبادة جماعية وحشية، صار العالم كله يعرف حقيقتها، وتتدفق طلائع ضمائره الحية إلى ميادين التظاهر الغاضب، وتدافع عن الحق الفلسطيني في التحرير، بما ملكت الأيدي من سلاح.