معتقل سابق يروي نهاية حياة زميله السجين عبد الحيّ: بين لهيب الشمعة وصمت العالم!
كتب المعتقل السابق في سجون الأسد وائل الزهراوي*
“المدارنت”..
في زنزانتنا التاسعة عشرة في مطار المزة العسكري، كانت رائحة لحم عبد الحيّ المحترق، تزيدني يقيناً أنه لن يكون هناك راحةٌ طالما نحن أحياء.
الشمعة.. اسم أشد رعباً من كل أسلحة الأرض فتكاً وموتاً.
كان عبد الحيّ، حامل الشهادة العليا في الكيمياء، قد أمضى معنا 21 يوماً، روى لي خلالها كيف اعتقلوه في كمين على طريق عربين، ومنذ لحظة وصوله يخرجونه كل يوم و”يشبحونه” (يربطونه) لأكثر من ساعتين، ُيكملون سلخَ جسده الذي لم يتبقَ منه شيئًا، ليعود بعدها والدم ينزّف من كل مسامة فيه.
بعد أن ذاق معنى الألم والتعذيب الشديد، أصبح يخاف من موعد قدومهم، وعلى وقع اقتراب أصواتهم، يحاول أن يزحف الى إحدى زوايا الغرفه، وينظر إليّ ودموعه تسبق كلماته.
كانو يريدون منه شيء ولم يعترف به أبداً.
كنت في نصف وعيي، بعد أن تورمت رجلي اليمنى لدرجة مهولة، نتيجة الجرح الذي أصابها، وأنا “مشبوح” (مربوط) في سقف غرفة الموت. بدأت خطواتهم تتسارع وشتائمهم تقترب.. لحظات، وفتحوا الباب، وقال المساعد المسخ: عبد الحيّ محمد أمين..
كان عبد الحيّ، لا يقوى على الوقوف، وكنت بقربه بالكاد أستطيع لمسَ الأرض برجلي، لشدة الجروح التي فيها.. رفع المساعد “كابلَه” (كرباج مصنوع من الأسلاك الكهربائية)، وهوى به على ظهري، وهو يقول: ساعده يوقف ولا حيوان.
ذاك الجبان، يعرف أني بالكاد أقف على رجلي، فكيف أعين عبد الحيّ، استندت على الحائط، مددت يدي كي أساعد عبد الحيّ على النهوض، وحين شددته، انزلقت رجلي بالقيح والدم الذي يسيل منها كل الوقت، فوقعت فوق عبد الحيّ.
لن أنسى حتى آخر لمحة من حياتي. كيف انهالوا عليناً ضرباً بـ”الكابل”، أنا وعبد الحيّ، وكيف كان يضع يده فوق مكان جرح رجلي، كي لا يصيبني “الكابل” فيغمى عليّ.
وبدل أن أعينه أعانني، بعد “الكابل”، العشرين، وضع المساعد رجله فوق صدري، وقال
شو اسمك أنت ولا: كان فمي مملوء بالدم، فقلت له “وائل الزهراوي”، قال: أنت اللي دارس حقوق ما هيك؟
لك في حدا دارس حقوق “مهو خاين وكلب، يلعن ربكن شو عرصات..”، أيّ رجل “عمّ توجعك هاي الورمانة”؟!، طلّع فيني هون طلّع ولاك، شايف هـ”الكابل”، هادا هو الحقوق تبعك ولا عرصا”.
وضربني بـ”كابله” على مكان جرح رجلي، فشعرت أني قد انقسمت نصفين، وأن رجلي قد انقطعت.
لم يغمَ عليّ، لكني صرخت بأعلى صوتي، فزاد ضربه حتى صَمَتُ تماماً، ولم أعد أشعر بشيء.
سحلوا عبد الحيّ من رجله وأخذوه، كان يمضي وعيناه تحدقان بي.. مضى الى العذاب.. الى الحرق.
عندما سمعت المساعد يقول: “حطّوه عالشمعه”، أصابتني حالة دوار وانهيار تام.
فبعد أن يخلع المعتقل كل ثيابه، كانوا يضعونه على كرسي من حديد، ويثبتوا رجليه داخل الإسمنت، بحيث لا يتحرك أبداً، وليس له سطح ليقعد عليه الإنسان.
فيجلس المعتقل على الكرسي المقعّر، ثم يربطون رجليه مع رجلي الكرسي بالجنازير، ثم يربطون جنزير آخر حول خصره مع ظهر الكرسي، ويكبّلون يديه الى الخلف بأصفاد الحديد.
فيصبح ملتصقاً تماماً بالكرسي.
ثم يأتون بصندوق، ويضعونه تحت الكرسي، فتكون المسافة ما بين الصندوق وجسد المعتقل أقل من عشرين سم…
ثم يضعون شمعة فوق الصندوق، فتكون الشمعة تحت المنطقة الواقعة بين الجهاز التناسلي والمؤخرة.. ثم.. يشعلون الشمعة تحت المعتقل.
وتبدأ الشمعة بإحراق تلك المنطقة المليئة بالأعصاب واللحم الطري.. ويبدأ الصراخ يشقّ كل صمت هذا العالم الرخيص.
والشمعة، رغم كل توسلاتنا، لا تتوقف أبداً عن أكل اللحم الذي يتقطر كالدهن في حالة الشواء.. ويبدأ المعتقل يحترق، ويبحث عن أيّ خلاص، أيّ شيء أيّ قوة يستنجد بها أيّ درب يوقف احتراقه أيّ شيء ايّ شيء..
وعندما يصل الإحتراق الى اللحم الأحمر تحت سطح الجلد، يصبح الصراخ عويلاً، يعجز عنه كل أهل القبور، ونبدأ نحن بالبكاء.
عندما أحرقوا عبد الحيّ في المرة الأولى، أغمي عليه ثلاث مرات. وهذا ما أغضب المساعد، فضربه على رأسه بـ”كابل” الدبابة، الأمر الذي أدى الى إصابة عينه اليمنيى بالعمى.
وندما كان عبد الحيّ يحدثني، يلتفت إليّ كله، لأنه لا يراني إلا بعينه اليسار. ويَئنُ كل الوقت، فالحرق في هذه الجزء من الجسد. يجعل كل حركة يقوم بها الإنسان مؤلمة لدرجة البكاء، ومضطراً لأن يبقى عارياً من ثيابه كل الوقت.
في تلك الليلة النكراء، نادوا على عبد الحيّ، بعد أن أخضعوه للحرق قبل خمسة أيام، وجسده مملوء بالجروح، وظهره ليس عليه سوى بقايا لحم هنا وهناك.
كان قد فقد كثيراً من قدرته على التركيز. لم يعد بكامل وعيه.
رئيس غرفتنا، كان ظالماً مجرماً، ركل عبد الحيّ على رأسه وجره إليهم.. أمسكوا رجله وسحبوه. بدأ يبكي فور خروجه من الغرفه، رغم أني أشهد أنه كان رجلاً شجاعاً، وأشهد أن شجاعة بعض المعتقلين هناك يخجل منها الموت.
بعد دقائق، ارتفع عويل عبد الحيّ، عرفت أنهم يحرقونه بالشمعه، وبدأ صوته يزداد وعويله يصبح أكثر عمقاً، وينغرس في صدري كسكين، وبدا لي كم نحن طاعنين في البؤس.
عندما أدخلوه الى زنزانتنا، كان في غيبوبة كاملة، رموه على الأرض وذهبوا.
بعد فترة إستيقظ عبد الحيّ، كنت ممدداً قربه، أمسكت يده، وقلت له: أخي عبد الحيّ، “شدّ حيلك”. فأومأ لي برأسه عدة مرات، وعينه نصف مفتوحة. وشعرت بيده كيف كانت تشدّ قليلاً على يدي.
اقتربت منه وقلت له: “بَدّك مَيّ عَطشَان”، كان يهمس، اقتربت منه أكثر فقال: “لا تتركني، لا تتركني خيّي وائل، لا تتركني، فقلت: لا تخف، لن أتركك أبداً، أنا معك يا أخي…
وبكيت.. وتمنيت لو أني أستطيع إنقاذ عبد الحيّ من مصيره المحتوم، الشعور بالعجز شعور قاتل، وما هي حيلتي، وأنا معتقل مثله وعلى مشارف الموت.
وكم هو عصيّ أن يفهم الإنسان، أن كل جريمته في وطنه أنه مواطن فيه!
في الليل، كانت تأتيني حمّى، نتيجة إلتهاب جسدي من جرح رجلي، فغفوت ويدي في يد عبد الحيّ.
عندما إستيقظت، وجدت عبد الحيّ قد مات. كان مغطى ببطانية، وملقى عند الباب. رحل عبد الحيّ! وتركني هناك! وماذا بقي مني بعده؟!
ولتسمع أيها العالم الذليل، لن نصالح.. ولن نرضى.. لن ننسى.. ولن نستكين.
أخي عبد الحيّ، لقد تركت يدكَ.. لكن يدك لم تتركني لحظة واحدة، لا تزال ملامحك تغطي السماء بأكملها.
ليس لأحد أن يكون وليّ دماء السوريّين، وليس لأحد أن ينوب عنّا، فيفاوض على عذاباتنا، ويسامح بدمنا المسفوح هناك، ومن لم يذق ألم التعذيب، فلا يتحدث نيابة عنا.