حـقـيـبـــة سـفــــر.. مـحـطـــة رقــم “5”
//خاص المدارنت//.. كتب ابو عُبيدة..
وكان عناقاً أبدياً، كأنك حضنت كل نساء الأرض أو نصف وطن، كأنك في حضن أمك تقاوم غفوةً، وأنت تنتظر نهاية خرافة جميلة.
كان يجب أن تكون للغربة أنثاها، ليكون للرحلة إياباً ومعنى، ليكون للهواء معنى، ليصبح للهروب معنى.
كانت قد ألقت باحلامها المؤجلة وفستان عرسها المؤجل في درج الذكريات، وغادرت، فالمجهول قد ينال من صبر الحبيب.
وكما كل امرأة من وطني، من أمٍ لأخت أو زوجة، قد لا تعرف معنى للحياة، إن لم تكن كشمعة تضيء بصمتٍ وتحترق بصمت. كان يجب أن تكون للغربة أنثاها، ليكون للقصة معنى.
وحدها بعطائها الفطري، منحت لساعات الإنتظار والحنين والشوق دروعاً شفافةً، ولكن بصلابة الفولاذ، فكان للغربة والوحدة وقعاً آخر.
كان في ابتسامتها المتفائلة وعداً صادقاً بأننا سنقهر الجوع، سنحصد بعد زرعٍ، وأجمل الأعشاش وأمتنها يُصنع من عشبٍ يابس.
ربيع عام الغربة الأول، كان قد أعلن موعد الحصاد، والبؤساء كانوا على موعد مع أهداف مرحلية، فالغربة لا تًهِبَك شيئاً، وقد تموت أحلامك على ضفاف أجمل بحيرةٍ، أو على مقعدٍ رخامي في محطة، قد لا تذكر اسمها، ولا موقعها في تيه الغربة.
والمهاجر، تقتله المسافات والمساحات، فيرى المدن أكبر، وضجيجها أكبر، وموطنه الجديد يفتقر الى حدود عرفها في وطنه الأم، فالذكريات، سعيدة كانت أم حزينة، هي التي ترسم أبعاداً للحدود، وأنت في موطن لا ذكريات لك فيه.
كان الحصاد. وعلى بيادر الانتظار، اختار الكثيرون من البؤساء الغوص في رحيلٍ آخرٍ، نحو الشمال الأوروبي الغني، فإيطاليا قد لا تتّسع لتطلعات الهاربين من أرض النار والموت والأحلام المدفونة وراء المتاريس.
بعضهم، ومنهم أنا ورفيقيّ دربي، أنهكتنا شهور الانتظار الأولى، فاغلقنا حقائب سفرنا على ما تبقّى من أحلامٍ، وكان القرار الأصعب، هو ان ترضى النفوس بالحد الأدنى الذي يضمن شبه منزلا،ً دخلاً محدوداً وساعاتَ نومٍ قليلة على فراش مريح.
كانت قد شاركتني في معاناة الأشهر الأخيرة، والغرف التي استوعبت مجموعتنا الغريبة، المطبخ المشترك، بيت الخلاء المشترك، تلفاز صغير مشترك، باب ونوافذ وأوعية للطعام مشتركة، فكنّا أي شيء إلاّ زوجين في رحلة شهر عسل.
راتبك للأشهر الأولى، في بلاد لم تعرف المهاجر يوماً، لن يكون بحجم تطلعاتك، ودولاراتك الأخيرة كانت قد غادرت جيبك منذ زمن بعيد، فكان طعامك الرديء، لباسك المتواضع، دراجتك الصدئة، وتبغك الوطني البخس وطعمه السيّء، قادرة على الفتك براتبك قبل العشرين من كل شهر، فتنظر في عينيها، تريد أن تعتذر، تريد أن تقول آلاف العبر في الشكر والامتنان، تريد أن تعود وتعد بأحلامٍ أخرى، كانت تمدّ يدها وتمسك بيدك فيبتلعك جوفك والصمت.
لماذا تغادرنا الدموع؟ بسهولةٍ غريبةٍ في سنين الغربة الأولى، لماذا يضج الدماغ بآلاف الأسئلة ولا يوفق بإجابة واحدة.
كان آخر معاقل البيوت الزراعية، التي كانت منتشرة في ستينيات القرن الماضي، في كل القرى وضواحي المدن في الشمال الإيطالي، والذي كان على موعد قريب مع الانفجار الاقتصادي.
وقفنا أمام بابه الخشبي المعْوجّ من تعاقب السنين، وخشونة أيادي الفلاحين، مطبخ التصقت فيه غرفة نوم أو شبه غرفة، تتوسّطها مدفأة يروي سوادها بؤس السنين، وبيت خلاء واسع الى حدّ الغرابة، ربما كان غرفة يوماً ما، فبيوت الخلاء كانت خارج دور المزارعين لبعض سنين خلت.
أمسكت بيدها لأوقظها، ونفسي من ذهول الصدمة، فهذه الخرابة أقصى ما يسمح به دخلنا الشهري، فكان بيتنا.
عالجت جدرانه السميكة والرطبة بصبر أيوب، وأكثرنا من الورود على مدخله، لنخفي من عيوبه، ونعيد اليه قليلا من إلفة إنسانية، وأغدق علينا المحسنون بطاولة مستديرة وكراسي خشبية، سرير كبير وخزانة، بعض الأواني المطبخية، فرناً ومدفأة تعمل بالغاز، فكنّا نستعين بكثير من البطانيات الصوفية، مع دفئها الخجول أمام صقيع ذاك العام.
في خريف الغربة الثاني كان بيتنا، كتبت في أعلى بابه “اللهم منكَ واليكَ”، حملتُ وشريكة العمر ما تبقى لنا من أمل، ودخلنا إلى بيتنا الزوجي، اليمين تتقدم اليسار، استبشاراً بأننا سنكون على موعد مع أيامٍ أجمل.
وحده الرجاء بأن الغد سيكون في جديده الخير، وحده الأمل ما يدفعك الى الاستمرار في مشوارك، فأنت لا تملك أكثر من ذلك، وأخبار أهلك والوطن، كانت قد قطعت عليك كل فرص العودة. ولسان حالك يقول: الوحدة أن تجالس الليل، فيروي لك قصة، تعرفها منذ ألف عام، أن تحاول الغناء، فتبكي، أن تحاول البكاء، فيسرقك الفجر، أن تهمّ بالصلاة، فيضيع عمرك بين ركعة وسجدة… غداً سيكون أجمل.
* الصورة: مدخل المنزل الزوجي الذي غادره الكاتب وزوجته منذ 20 عاماً، وقد حافظ عليه كل من تعاقب عليه من بؤساء بعدهما، فبقي المدخل كما هو لغاية اليوم، وفياً لجمال أيامهم وسنواتهم الأولى.