من ويلسون الى أوباما.. الأزمة السورية تكشف نهاية الخطاب الأميركي للعالم!
“المدارنت”..
قبل قرن كامل كان المثقف الأميركي البارز، وودرو ويلسون (1856 – 1924) قد أصبح رئيسا للولايات المتحدة ودخل البيت الأبيض في 4 آذار/ مارس 1913. عندها كانت الحرب العالمية الأولى تتأهب للاشتعال إلا أن أمريكا كانت تنعم بأمنها في عزلتها السياسية بعيدا عن اوروبا ومسرح الحرب الدموية الوحشية, وتكفل المحيط الأطلسي بتوفير الحماية والمقومات الجغرافية للعزلة عن العالم وصراعاته الاستعمارية.
وفي عام 1917 أعيد انتخاب ويلسون لدورة ثانية, وكانت الحرب العالمية تضع أوزارها, ويستعد العالم للانتقال الى عهد السلام والوفاق, وبهذه المناسبة قرر الرئيس كسر العزلة والزج ببلاده التي كانت تخطو خطواتها الأولى على طريق النهضة الصناعية والاقتصادية الكبرى، فأطلق في يناير 1918 أربعة عشر مبدأً حملت اسمه لإقرار السلام العالمي, وكان في مقدمتها مبدأ (حق تقرير المصير) للشعوب المستعمرة, وإعادة بناء اوروبا على اسس الديمقراطية التي كانت في فكر المثقف البارز لا تقبل الازدواجية, فهي بالنسبة له مقرونة باعطاء الحرية للشعوب المستعمرة, وليست كما طبقها الأوروبيون حقا مقدسا في الداخل لا يتضارب مع احتلال الشعوب الفقيرة ونهب ثرواتها واستعمال السلاح الكيماوي لابادتها كما رأى الزعيم البريطاني ونستون تشرشل لاحقا.
المبادىء الأربعة عشر اصبحت بمثابة (انجيل مقدس) للشعوب المناضلة من أجل الحرية وجعلت أمريكا قوة سلام وتحرر تتعلق بها الشعوب المضطهدة, وكان من شأن ذلك التمهيد لبروز أمريكا على المسرح الدولي، ونهاية عصور العزلة غربي الاطلسي كقوة داعمة للسلام والحرية والعدالة.
وفي عام 1944 تكرر الأمر فتدخل العملاق الأطلسي لإنقاذ اوروبا ووقف الحرب العالمية الثانية (حصدت أرواح ستين مليون إنسان في خمس سنوات!) وكان تدخلها عاملا حاسما لهزيمة المانيا النازية واليابان, ثم عاملا حاسما لإعادة بناء أوروبا عبر مشروع مارشال. وترتب على ذلك نهاية الامبرطوريتين العجوزين بريطانيا وفرنسا وصعود أمريكا إلى قمة النظام الدولي, وكان (خطابها) الى شعوب العالم تبشيرا بالحرية والديمقراطية مقابل الشيوعية السوفياتية, والحق ان سياستها الخارجية أسهمت في تحرر بعض الشعوب, لكن هذه وذاك ما لبثا أن تراجعا تحت وطأة المصالح المادية والأمنية للولايات المتحدة.
نحن في العالم العربي, كنا من أوائل من استقبل مبادىء ويلسون 1918, ومن أوائل من رحب بصعود أمريكا الى قيادة العالم, وكان لها موقف مشهود ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956, وكان هناك حوار مثمر بين الملك عبد العزيز آل سعود عام 1945، والرئيس روزفلت أسس لأمتن وأطول تحالف أمريكي مع اي دولة عربية, وتبع ذلك حوار مثمر وإيجابي ايضا بين الرئيس عبد الناصر والرئيس جون كيندي مطلع الستينيات, وكان هناك علاقات قوية أيضا بين ملوك المغرب والعراق وزعماء سوريا ولبنان وأمريكا, ولكن العلاقات بين أمريكا واسرائيل، وتطورها السريع بعد مقتل كيندي، وبلوغها مرحلة التحالف الوثيق, وأد العلاقات بين العرب والامبراطورية الأمريكية ودفنها بل وشابتها عداوة عميقة. ولكن (الخطاب الأمريكي) على الصعيد الاديولوجي ظل يدعو الشعوب العربية الى الحرية والديمقراطية بوتيرة ثابتة, وظل يتعهد بدعم تطالعاتها التحررية والثورية ويحرضها على التخلص من حكامها المستبدين.
أما المرة الثالثة فكانت عام 1990 على إثر سقوط الاتحاد السوفياتي حين أصبحت أمريكا سيدة العالم والقوة الوحيدة في قيادته, فعززت خطابها وجددته داعية الى نظام دولي جديد يقوم على الشرعية ومبادىء حقوق الانسان والعدالة والتعاون والسلام, وليس على المصالح الأمبريالية والصراع والمجابهة.
وكان الرئيس جورج بوش الأب وقتها يبشر بعالم مثالي تقوده الأمم المتحدة, وينهي الاستقطاب والحرب الباردة والهيمنة ويعالج الأزمات الكونية . وترافق ذلك مع خطاب (نهاية التاريخ) والعولمة, وثورة الاتصالات, ولكن سرعان ما تبين خواء وافلاس العهود الأمريكية لشعوب العالم, ولا سيما في شرق أوروبا والشرق الأوسط معا, سواء بالسنبة لدعم الديمقراطية أو بالنسبة لدور الأمم المتحدة, إذ تمخضت عملية السلام في الشرق الأوسط عن التضحية بحقوق الشعب الفلسطيني, كما تمخضت حروب البلقان عن تكريس للهيمنة والقوة والبطش.
خلاصة القول هي أن الدور الأمريكي في العالم تألق خلال قرن واحد ثلاث مرات على صعيد الخطاب وهبط أو انحط على الصعيد السياسي, وكانت سقطاته الكبرى في حروب فيتنام والشرق الأوسط وامريكا اللاتينية والخليج العربي. أما السقطة الأكبر في هذا السياق خلال مائة سنة هو سقوطها الحالي في امتحان الأزمة السورية, هذا السقوط الذي أدى ويؤدي حاليا الى ارتجاج شديد في مخ العلاقات التاريخية مع المملكة العربية السعودية, وفي تحالفها مع مصر, والدولتان قطبا رحى العالم العربي والشرق الاوسط بلا منافس.
لا أعرف كيف ستداري أمريكا سقطتها الكبرى في سوريا, لأنها سقطة تتجاوز المستوى السياسي كما هو الحال.
في حرب الخليج أو فلسطين أو في مصر إلى سقوط للخطاب التبشيري بالديمقراطية, كما هو سقوط للسياسة. في السياسة ربما يجوز أن تتنازل الولايات المتحدة عن سوريا لروسيا وتحترم نفوذها التاريخي ومصالحها فيها, وربما يجوز لها أن تساوم إيران على نفوذها ومصالحها في سوريا كما ساومتها عليها في لبنان والعراق وبعض دول الخليج العربية, ولا سيما احتلال الجزر الثلاث للامارات العربية. هذا يمكن تفهمه وتقبله على مضض, أما على صعيد الخطاب فلا يمكن تفهم أو تقبل تنكر الرئيس باراك أوباما – وهو للذكرى مثقف وأكاديمي حقوقي أيضا – لمبادىء ويلسون ومبادىء روزفلت وأيزنهاور وكيندي وبوش الاب وللخطاب الثقافي والفكري الذي استندت اليه أمريكا في دورها على المسرح العالمي طوال مائة سنة.. إلخ.
إدارة أوباما تتنكر لكل المبادىء التي تضمنها الخطاب الأمريكي للعالم ولدستورها أيضا. إنها لا تقف عاجزة عن معالجة المسألة, ولكنها ترفض معالجته, والأقسى والأمر أنها تطالب الشعب السوري بالرضوخ للديكتاتور والتخلي عن حقه في الديمقراطية والحرية بل وحقه البدهي والأبسط في الحياة, إنها تطلب عبر مؤتمر جنيف من السوريين تنفيذ حكم الاعدام الصادر بحقهم طوعا. سكوتها عما يجري في حلب وريف دمشق وحمص، من قتل بكل اصناف السلاح والارهاب لا معنى له سوى موافقتهم على اعدام الشعب السوري وابادته، وتدمير بلده ومقومات وجوده المادية والاجتماعية والحضارية بأيدي العصابة المتسلطة علينا. لو اكتفت الادارة الامريكية بالقول إنها لا تستطيع التدخل ولا مصلحة لهم به لكان مقبولا, ولكنهم تقول لنا بكل مناسبة عليكم أن تنصاعوا لارادة الطاغية وتعودوا للتعاون معه في حكومته وضمن ما يقرره وتحت سقف سكينه وبسطار حكمه العسكري – الأمني.
بعد ثلاث سنوات من الثورة والصراع اكتشفت أمريكا أن المسألة السورية أصبحت مسألة داخلية بالنسبة لها تؤثر على أمنها الوطني.
ونحن نعتقد أن الموقف الأمريكي في سوريا سيفرض شئنا أم أبينا على العرب إعادة تقويم علاقاتهم التاريخية برمتها بالولايات المتحدة, وستترتب عليه نتائج بعيدة المدى والعمق , ولن يكون كغيره من المحطات ذات الآثار المحدودة في الزمان والمكان.
أمريكا خسرت في سوريا الكثير جدا, وخسائرها ستتعدى نطاق الموقع السوري المحدود إلى عموم العالم العربي وربما الاسلامي.