مَن يُنقذ اللبنانيّين مِن غَائِلة الجُوع؟!
خاص “المدارنت”..
بدايةً، لا بد من التأكيد أن القوى الأمنية اللبنانية قامت بأقل أقل الواجب عليها عندما أقدمت على الإجراءات الأخيرة، التي تصدَّت لبعض أبشع مظاهر الإخلال الأمني بالبلد، تحت عنوان «الخطة الأمنية»، على أمل أن لا تتنفس نتائج هذه الخِطّة باكرًا، ويعود المُسْتفيدون من انفلات الأمن من إجهاض أيَّة خطةٍ بديلةٍ، وإدخال اللبنانيين الآمنين في المزيد من حالات الإحباط، والرُّضوخ للخارجين على القانون، وما يُلحقونه من أعمال تشبيح وسرقة ونشل وتهريب للأسلحة وترويج للمخدرات وغير ذلك من ممارسات مشينة، لن تقودنا سوى إلى الفوضى والأمن الذاتي، إن لم يتم مواجهتها بمنطق الدولة القادرة، والسلاح الشرعي، والقانون، الذي يجب أن يكون فوق الجميع حقيقةً لا شعارًا للتباهي والتجمُّل كي لا تتحول الخطة كذبةً كبيرةً وضحكًا على الناس.
كان على القوى الأمنية القيام بواجباتها، الأمس قبل اليوم، أقله لتتجنب الحملات غير البريئة التي استهدفتها، وإقناع الناس بجدوى التدابير المتخذة، كما على القضاء ومكتب مُكافحة جرائم المعلوماتية أن يتصديا لكل انفلاتٍ وتفلُّتٍ أمني تتسبب به بعض مواقع التواصل الاجتماعي المشبوهة المصادر والتمويل، كما جرى مؤخرًا بعد ما سُمّي بفضيحة «التوك توك»، وما أحدثته من ارتدادات أخلاقية وأدبية لا عهد للمجتمع اللبناني بها، ولن تسلم منها البيوت والعائلات غدًا إن لم يُدَّق ناقوس الخطر بالتزامن مع إطلاق عبارةٍ وحيدةٍ وأحادية:
انتبهوا…! وإنكم إن لم تُعالجوا الأسباب، فعبثًا ستكون معالجة النتائج إلى أي مسار ستتوصل إليه الأمور غدًا…
لقد قيل في مُقاربة الأمن والخبز يومًا: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.. وذلك كان أيام بَحْبوحةٍ اقتصاديةٍ، لم يكن فيها مبررًا لمن يسرق في سبيل تأمين رغيف الخبز لأولاده، وهو الذي يستطيع أن يحصل عليه بأهون السُّبل، أو بأقل العبارة. إن الفقر لم يكن مستفحلًا كما هو اليوم، حيث إن كل أسباب الانحراف متوفرة أمام ربِّ العائلة، أو الموظف البسيط، كي يمدَّ الواحد منهما يده إلى المال الحرام، وهو الذي طبّلوا أذنيه برفع الحد الأدنى لأجره الشهري إلى ثمانية عشر مليون ليرة لبنانية، في حين أن ربطة الخبز التي لا تتجاوز بِضعة أرغفةٍ تباع بستين ألف ليرة، وصارت تُوزن بـ«القيراط»، كما يُوزن الذهب والفضة، وتكاد لا تكفي الفرد الواحد، أو اثنين على الأكثر…!
فكيف لعائلةٍ من خمسة أفراد أن يكفيها ما تصرفه على الخبز فقط على مدى ثلاثين يومًا في الشهر، أن يتبقى لها من الحد الأدنى الجديد…؟ هذا إذا اكتفى هذا المواطن البسيط، أو الموظف العادي بالبقاء على قيد الحياة بالرغيف والزيت والزيتون على أقل تقدير… فكيف بالأمور الحياتية الأخرى من غذاءٍ ودواءٍ ومسكن ومدرسة وكتاب… الخ وكلها ممنوعة عليه…؟ وكيف سيكون عليه الحال إن دخل المستشفى لمرض طارئ، أو جراحةٍ عاجلةٍ، وأمامه كل المُسببات التي تقوده إلى الموت…؟
كُثُرُّ باتوا يفضلون الموت بشرف على سريرهم هذه الأيام على أن يموتوا إذلالًا على أبواب المستشفيات وفواتيرها التي تتقاضاها بالـ«fresh dollar».. وإلا فما هي الطرق الأخرى بربكم التي على هذا المسكين سلوكها عندما يكون وراءه طفلٌ يتضوّر جوعًا، وزوجة الشريفة تأبى أن تأكل من ثدييها كما كانت متسيّدة شهامة العرب، وسقفُ يحميهم من غائلة البرد والجوع أيام الحرب والفقر وانهيار الأخلاق العامة والقِيَم، وإغراءات الفساد والإفساد، ولنا في المبالغ الخيالية التي تُدفَع هذه الأيام في سبيل تكريس ذلك أسطع دليلٍ على ذلك، في الوقت الذي تتعامى السلطة عن أكثر من سبب وسبب يكفي الوقوف لمعالجة الواحد منها في أضعف الإيمان، لتحقيق ما لم تستطعه عشرات الخُطط الأمنية غدًا، إن لم تجد حلًا على سبيل المثال لا الحصر، لأصحاب مليوني حساب مصرفي في البنوك اللبنانية مُصادرة على أيدي لصوص كبار، ومحترفين في ابتزاز مدّخرات المواطنين، يسرحون ويمرحون أمام أعين القضاء والأمن والعدالة…
فيما كل هذه المرجعيات تمعن في تواطئها وهي تسد كل آفاق المعالجات الاقتصادية المطلوبة، وتدفع المواطن إلى الموت البطيء كمدًا من قبل أن ينقضَّ عليه راكب الدراجة النارية غير المُرخّصة ليسلب ما تبقى في جيوبه من فُتات مال، على طريقة السبايا التي في زمن السبي، تفترس السبايا، (والتعبير هنا للشاعر محمود درويش)، وتلك لعمري أبلغ وأخطر مسألةٍ أخلاقية يُواجهها المجتمع اللبناني، وقد عصبوا أعين الناس بغشاوةٍ فلم يعد أمامهم القدرة على التمييز بين الحرامي واللص، ومَن هو أكبر، والذي ينبغي أن توضع في أيديه الأغلال قبل الآخَر.
أما ربطة الخبز، فبقدر ما يتناقص وزنها هذه الأيام، بقدر ما يرتفع سعرها. والخِشية أن تدخل غدًا باب الكماليات دون الأساسيات، فيخسر الجائع الملهوف في هذا الوطن آخر حصنٍ له يحميه من الجوع، ألا وهو الرغيف…! سأل هارون الرشيد احد ظرفاء مجلسه يومًا: ما حكم السّارق…؟ فأجابه: إن سرق عن مهنةٍ تُقطع يده، وإن سرق عن حاجةٍ، تُقطع رقبة الحاكم…! فكم من رؤوس يجب أن تتدحرج، وأيدٍ لِتُقطَع، مقدمةً لثورة حقيقية عدوها الأول هو الجوع في لبنان، وقد طال انتظارها …