هكذا ستنتهي الحياة..!
“المدارنت”..
لطالما اعتقدت أن البشرية ستفنى على يد الذكاء الاصطناعي، عندي إيمان حقيقي بنظرية الخيال العلمي هذه أنها ستتحول حقيقة واقعة، وأن الذكاء الذي صنعته البشرية بيدها وعقلها سيتحول عن قريب إلى نكبتها التي ستقضي عليها. في البداية، كنت أتخيل نهاية صاخبة، بشراً آليين ملتحفين أجساداً عضوية لا تفرق عن أجساد البشر شيئاً، يتمكنون من البشر ويحتلون أرضهم وكل مقدراتهم، تاركين إياهم عبيداً محكومين ممن ومما صنعوا بأياديهم.
كنت أتخيل الحدث حرباً طويلة ممتدة، يشكل إبانها البشر فرق مقاومة تسعى جاهدة للدفاع عمّا بقي من إنسانيتها، فيما يحرق خلالها الآليون كل ما يقف في طريق انتصارهم وتفوقهم. المشهد الأخير: الأرض مفروشة بأجساد البشر، تقف فوقها آلاتها التي كانت ملكاً لهم وطوع أياديهم ذات يوم، بخلفية لمدينة مستقبلية، فارهة، شديدة اللمعان بمبانيها الشاهقة ومواصلاتها الطائرة في السماء وبرود وصلادة محيطها الذكي، خارق القدرات.
تغيرت فكرتي هذه والصورة المصاحبة لها مؤخراً بعض الشيء. بدأ التغيير يقع مع محاولتي أنا الشخصية لتغيير تفاعلي مع الذكاء الاصطناعي. في البداية، وددت أن يكون توجهي عصرياً مواكباً للزمن وظروفه، فقررت أن أتقبل تحولات الذكاء الاصطناعي وأن أتبناه عوضاً عن مقاومته واعتباره عدواً لي في مجال عملي.
كانت المهمة شديدة العسارة، ذلك أنه في مجال العلوم الإنسانية القائمة على تطوير مهارات القراءة والكتابة والتحليل المنطقي، كيف يمكن مواءمة تعليم هذه المهارات مع الذكاء الاصطناعي الذي وببساطة يخدمها خدمة كاملة حالّاً محلها بشكل تام ونهائي؟ أحياناً كنت أشعر ببداية النهاية، أن الذكاء الاصطناعي سيحل محل المعلمين ويقوم بدورهم على أتم وأكمل ولربما أعدل وجه، إلا أنني بقيت أقاوم هذه الفكرة مقنعة نفسي أنني أقدم شيئاً لا يستطيع الذكاء الاصطناعي تقديمه، وأن لي روحاً ووعياً ومنطقاً إنسانياً لا يمكن لآلة أن تعوضهم، وذلك رغم علمي بالإمكانية العلمية لتعويض كل ذلك، بل وبحقيقة أن كل تلك الزوايا التي نفتخر بها من إنسانيتنا، روحاً ووعياً وإنسانية، إنما هي في النهاية تفاعلات كيميائية يمكن تفسيرها وتحليلها ولربما إعادة تصنيعها علمياً.
الآن تحولت بي الحال لمواجهة كاملة مع النفس: لا.. أنا أملك شيئاً يميّزني بإنسانيّتي يجعلني أهمّ من الذكاء الاصطناعي، والذي قريباً سيصل لأن يملك وعياً وعاطفة وقدرة على صنع قرارات تتصف بالإنسانية، ولا أحد منا كبشر سيتمكن حتى من مجرد تشكيل مقاومة، يمكن أن تحاول الصد عن حيواتنا وإنسانيتنا. بلا شك، سينهينا الذكاء الاصطناعي، في اعتقادي، ولكن لن يكون ذلك في حرب فاقعة مليئة بالرومانسيات والتضحيات الإنسانية، سيكون ذلك من خلال حرب باردة بطيئة مهينة، يحولنا من خلالها الذكاء الاصطناعي إلى كائنات بلهاء معدومة الذكاء.
أنتمي لجيل عاش الحالتين: الحياة بلا ذكاء اصطناعي، والحياة بذكائها الاصطناعي الحارق. الحياة الأولى لربما كانت أصعب، إلا أنها اعتمدت كثيراً على مهاراتنا وقدراتنا.
كنت قادرة على القيادة والاستدلال بلا خريطة، معملة المنطق والحس الذاتي لإيجاد طريقي، كنت أقرأ وأكتب كثيراً؛ لأن تلك كانت وسيلة المعرفة الوحيدة، كنت أتحرك لقضاء احتياجاتي اليومية تبضعاً أو توفيراً لخدمات منزلية أو حجزاً لتذكرة سفر إلى آخرها من خدمات، بجسدي وحضوري الذهني. لم يكن هناك إنترنت يجلسني على أريكتي طوال اليوم ككتلة لحم وشحم صماء ليخدمني ويوفر احتياجاتي بلا أدنى جهد مني. كنت أستخدم عقلي وجسدي وتفكيري أكثر، أما اليوم فقليلاً ما نحتاج لكل تلك، فما المصير؟
في المجال الأكاديمي، تحولت العملية التعليمية، خصوصاً في مجالات العلوم الإنسانية، إلى صراع على “الأصالة” و”الحقيقية الإبداعية،” ذلك أنه أصبح من النادر أن يعتمد الطلبة، وأحياناً الأساتذة، على فكر خاص بهم أو جهد إبداعي نظيف من التدخل الاصطناعي. في تصوري، أرى هذا الاعتماد في المجال الأكاديمي أو في المجال الحياتي، يضعف عضلة العقل شيئاً فشيئاً إلى أن يحولنا إلى كائنات بلهاء غير قادرة على التفكير أو التحليل المنطقي.
وبعد أن تستريح أجسادنا وعقولنا تماماً لخدمات الذكاء تلك، وفي غفلة من الزمن، سيدهسنا ذكاؤنا الاصطناعي بعد أن نتحول إلى كتلة من البلادة، خالية من القدرات والمهارات، محرومة من إمكانية تفعيل التفكير المنطقي.
ستكون النهاية جمعية، حزينة وفكاهية في آن، هكذا أرى المستقبل “الدستوبي” المخيف. ستنتهي بشريتنا بسلاسة وبساطة وبلا أدنى مقاومة منا، وكيف يقاوم من لا عقل له أقوى عقل في الدنيا؟
نحن نرى “بشاير” النهاية من اليوم واللحظة: انعزالية البشر، ضعف مهاراتهم، الانخفاض الملحوظ في القدرات التحليلية وفي نسب الذكاء البحت والعاطفي عموماً، ولا أدل من ذلك على الحوار حول ما يدور في غزة والتفاعل البشري معه. هل يمكن لجنس ذكي أن يتفاعل مع إبادة بني جنسه بهذه الصورة؟