هل عشت الموت طويلًا؟!
خاص “المدارنت”..
يعيش بعضنا واثقًا من نفسه، أنّه يقوم بما هو صحيح وصالح! ليس الصّلاح ما تفرضه الأديان على المؤمنين، أو العادات المجتمعيّة والتّقاليد، إنّما ما نعتقده، نحن، صالحًا في زمان ما ومكان ما؛ وكما يقال: “وإنّما على المرء السّعي!”.
ولكم اعتقدنا أنّنا على صواب ودراية بكلّ ما يدور من حولنا من أحداث، إن في ظاهرها أو خفاياها، وقدراتنا في الحكم على الأمور تفوق قدرات أيّ شخص آخر. أو نعيش وكأنّنا وإن متنا، سيتعطّل العمل وتتوقّف الحياة والأرض عن الدّوران… فنضع ذواتنا في دوّامة من المشقّات اللّامتناهية، وكلّنا فخر بما نحن عليه من مركز الكون وإن كنّا فيه تائهون! وإنّما، ما أدرانا ما الضّياع، وما أدرانا ما الكيان، حين نذوب في ما نسمّيه الحياة، ونهمل أنفسنا بحجّة مسميّات ومسميّات لا قاموس لها، إلا في عقول تسعى الى الأفضل لمن حولها، وكأنّ من حولها لا حول لهم ولا قوّة؛ ويعيشون بانتظار من يقودهم في الطّريق ويوصلهم إلى برّ الأمان!
وفيما نحن غارقون في واقع أوجدناه، وصورة رسمناها عن وجودنا وماهيّته، نبتعد أكثر وأكثر عن وجداننا؛ فما ينبض القلب إلّا بنبض من نحبّ؛ ولا تعشق الرّوح إلّا ابتسامة من نحبّ؛ نتسلّح بالقوّة لمساندة من نحبّ؛ نتعالى على الآلام لننقذ من نحبّ…
ونحن، ما نحن عليه، ممّا نحن عليه معانون؛ فلا روح تطفو في سماء زرقاء، ولا مشاعر تختبىء في حضن سحابة، ولا فكر يغفو في حضن الرّاحة!
نحن هنا! نعم، هنا! نعيش جسدًا متهالكًا، تفوح منه رائحة عفنة، نتنشّقها بفرح الاندثار لإحياء من نحبّ؛ وكأنّ الحياة لا تكتمل معانيها، إلّا وقد قدّم أحدهم أضحية أضحت عاجزة عن الحياة، وما يبقيها غير موت يرفض مساسها ولا رغبة له فيها!
هل عشت مطوّلًا ليرفضك حتّى الموت؟ أم أنّك عشت الموت حتّى خالك من خويانه، يشتمّ رائحتك عن بعد فيعرف أنّ له فيك خليلا! أيناك من الحياة، حياة لا تخاذل فيها! أأنت فيها مرآة من لا مرآة له؟ لا يحلو فيها الجمال إلّا لمتأمّل متألّم تلمع عيناه كلّما رصد الرّوح هائمة ما وراء محيّاه! ما فقدناه منّا فقدناه، وقد تساقط على طول الطّريق، وما التقطناه، ما اعتقدناه ليس لنا، فلو كان لما سقط! كما تحيا بمن تحبّ لمن تحبّ، كذلك ما لك يبقى لك، لا يتناثر أوراق خريف في مسار العمر! وإن لوهلة، وفي لحظة ضعف، تراجع منك عنك ما أنت عليه، يتمسّك بحبل نجاة منك فيك، ويستكين، فيعود إلى السّطح يتنفّس الصّعداء، مرتاحًا أنّ له فيك ملاذًا آمنًا غير مشروط! ولا يدري من لا يدري، أنّك أنت لك أنت ما عدت ملاذًا آمنًا وما بقيت كما يبقى ما لك!
فأنت رحلت منذ زمن، وما عدت تعرف طريق العودة، فما رحل منك قد رحل؛ وما ظلّ ما يظلّلك يوم تجتاحك نوبات بكاء حادّة تقطّع جوارحك من دون رحمة، تقهقه لوجعك. وأنت ها هنا، لا لسان ينطق دفاعًا ولا جسد يقاوم ظلمًا! ما عاد فيك ما كان، وإن رغبت أن يكون؛ فقد انسحبت من حياتك وانزويت ساكنًا سكون ليل، لا فجر يرسم نهايته، ولا نجمة تشعل ظلمته نورًا. فأنتَ في المتاهة متاهة، وفي اللّامكان مكان، وفي زمان لا زمان فيه!