هل ما تزال فرنسا بلداً عريقَ الديموقراطية؟!
“المدارنت”..
انتخاباتها التشريعية، التي جرت أمس، لا أحدَ يزايدُ في عراقة التجربة الديمقراطية في هذا البلد، وهي التي أهدت العالم الحديث إرثاً مُهمّاً صاغ أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ إطاحة نظام ملكي مُستبدّ، وإعلاناً عالمياً لحقوق الإنسان والمواطن الفرنسي، ومؤسّساتٍ سياسية حديثة توجب الفصل بين السلطات، وإعلاماً حرّاً… إلخ.
لم تتحقق هذه المُكتسبات دفعة واحدة، بل راكمتها فرنسا في أكثر من ثلاثة قرون عَرَفت فيها تجارب ديمقراطية عديدة، لم تخلُ من العنف والانتكاس. ولكن، في كلّ مرّة تنهض فرنسا من أجل ترسيخ دولة الحقّ والديمقراطية. رافقت هذه التحوّلات كلّها انتشار جملة من الأفكار والعقائد جعلتها أقرب إلى التراث اليساري؛ الشيوعي أولاّ، ثم الاشتراكي لاحقاً.
كان جُلُّ المثقّفين الفرنسيين ينتمون إلى هذا التوجّه الإنساني الواسع، حتىّ إنّ مثقّفين ليبراليين عديدين لم يستطيعوا الحياد عن هذه النزعة، فيندُر مثلاً أن عادى أحدُهم حركات التحرّر باستثناء مواقف بعضهم من الجزائر، فقد كانت الجزائر مَكْمَن هشاشتهم النفسية والاجتماعية لاعتبارات عديدة. ومع ذلك، غرّد كثيرون خارج سرب الوطنية الاستعمارية الفرنسية، وساندوا استقلال الجزائر.
تمثّل فرنسا حالة مخبرية فريدة، وهي التي جمعت بُعدَين مُتقابلَين: احتضانها فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ونزعتها الاستعمارية التوسّعية السافرة، التي تبعتها موجات عنيفة من جرائم الإبادة الشنيعة، مشفوعة بانتهاكات بشعة لحقّ الشعوب. لقد شُجّ العقل الفرنسي شَجّاً غليظاً، فقد احتلّت فرنسا الجزائر لمدة ناهزت قرناً وربع القرن (1830 – 1962)، ثمّ خاضت حرباً مُدمّرة أيضاً، عُرفت بالحرب “الهندوصينية الأولى” (1946-1954)، فضلاً عن حروب مُتعدّدة خاضتها أيضاً، في مناطق عديدة موزّعة بين القارّات الخمس تقريباً، لضمان توسّعها.
حدث ذلك كلّه بعد أن قرأت على العالم كلّه إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي، حتّى إنّ بعضهم ذهب إلى تأكيد أنّ ذلك الإعلان، وإن ألهم لاحقاً صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإنّه لم يكن يعني في ضمير من صاغوه آنذاك، سوى الفرنسيين، باعتبارهم بشراً ومواطنين، أمّا غيرهم، فالأمر لا يشملهم، لأنّهم أشبه بكائنات متوحّشة.
بعد موجات الاستقلال الوطنية، ساندت فرنسا الأنظمة التي نصّبتها بعد رحيلها، وخصوصاً في أفريقيا، حيث وقفت مع أعتى الديكتاتوريات التي حكمت بالحديد والنار في بلدانٍ غادرتها، بعد أن أحكمت تسليمها إلى طُغَمٍ عسكرية أو زعامات مدنية، جسّدت صوراً مُذلَّة من التبعية. ناهضت فرنسا التوجّهات الوطنية وعادتها، ونظّمت انقلابات مُريعة تولّاها أحياناً، مرتزقة فرنسيون. باستثناء حالات نادرة، فقد خذلت فرنسا جُلّ القضايا العربية، وانحازت إلى خصوم العرب؛ فقد شاركت في العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وحرب الخليج الأولى.
وعلى الرغم من موقفها من حرب الخليج الثانية، الذي عبّر عنه وزير الخارجية آنذاك، دومينيك دوفيلبان، الذي عارض استصدارَ موقفٍ يُخوّل بالهجوم على العراق، فإنّها قد بدأت منذ مطلع الألفية تنحرف إلى اليمين، سواء في سياساتها الخارجية أو الداخلية. ساهمت تحوّلات عدّة جيوسياسية في هذا المنحى، ما رسخ سطوة اليمين مرّة أخرى.
جرى ذلك على حساب اليسار، الذي فقد حُججه وبراهينه، ما جعل خطابه مُفقَراً. لم يستطع اليسار الفرنسي، حتّى في تعبيراته الأكثر اعتدالاً، تجديد خطابه، بل تحوّل إلى خطاب ثقافي يزعم أنّه يشيد قلعته الفرنسية حتّى لا يتسلّل إليها “الغير”، لا يختلف اليسار الفرنسي هنا، عن اليمين الشوفيني المُتطرّف، وخاضا، جنباً إلى جنب، معارك هُويّة ضدّ الحجاب والبرقع والبوركيني، باعتبارها أشياءَ مناهضة لللائكية الفرنسية التي تمدّدت بشكل رهيب على حساب الديمقراطية والحرّيات الفردية، على خلاف تجارب أخرى من العلمانية التي تُعلي من الحرّيات الفردية، وتشجّع هذه الهُويّات الفرعية، على غرار التجربتين الإنكليزية والأميركية المختلفتَين، اللتَين لم تسلما من النقد والمراجعة.
برهنت فرنسا في الأشهر القليلة الماضية، التي تلت الحرب الصهيونية على غزّة، مرّة أخرى، تبرّمها من الديمقراطية والحرّية، حين صادرت حقّ الفرنسيين في التعبير عن مساندتهم القضية الفلسطينية، وروّجت الرواية “الإسرائيلية”. إنّها بذلك تُؤكّد انحيازها الباطل، الذي بدأ يتّخذ تعبيرات مُستفِزَّة مع ليونال جوسبان (رئيس الوزراء بين 1997 و2002)، حتّى إنّ حجارة الشبّان الفلسطينيين انهالت عليه في زيارته القدس.
استطاعت الإجراءات المُتشدّدة، التي اتخذتها السلطات الفرنسية، أن تحدّ من تحرّكات المناصرين للحقّ الفلسطيني، في ظلّ هيمنة إعلامية شبه مطلقة تتحكّم بها لوبيات المال الموالية لإسرائيل. يخضع الرأي العام الفرنسي منذ سنوات لتلاعبٍ خطيرٍ فيما يتعلّق بالقضايا العربية، العاجلة تحديداً. يحاول الرئيس الفرنسي، ماكرون، واهماً التصدي لتسونامي اليمين المُتطرّف، عبر تنظيمه انتخابات تشريعية مُبكّرة، وبغض النظر عن النتائج، فإنّ البنية الثقافية والتشريعية، التي استقرّت في فرنسا حتّى خلقت حاضنة ذهنية صلبة، ستجعل من تحوّلات الرأي العام الفرنسي نشأة ديموقراطية أكثرَ احترماً للتعدّد وللاختلاف ولحقّ الشعوب أمراً مُستبعَداً في المنظور القريب.
تخسر فرنسا على الصعيد الدولي، وتواجَه في أفريقيا مثلاً بالطرد، أمّا داخلياً فإنّ اليمين يكاد يستفرد برسم خياراتها الكبرى. لذلك، فإنّ الديمقراطية قد تخور هناك، ولا تجد من يبثّ روحها من جديد.