وداعًا مطاع الصفدي.. المفكر الذي تنبأ بمأساوية نهاية “البعث” مبكرًا!
“المدارنت”..
مرّت وفاة المفكر السوري مطاع الصفدي، يوم الأول من رمضان الجاري (الموافق للسادس من حزيران – يونيو) من دون اهتمام يتناسب وأهمية الراحل، وهو أمر محزن ومؤسف، لأنه يعكس تدنّي قيمة الفكر في وعينا وفي مجتمعنا الذي لا يحترم ولا يقدر سوى أهل القوة!
مطاع مفكر وفيلسوف واديب ومناضل سياسي مخضرم وعريق (1929 – 2016) فإذا كان مثله يغيب ولا يهتم به السوريون، فهو مؤشر على محنة قاسية وحقيقية لكل مثقف ومشتغل بالقضايا العامة.. ويبدو أن كل شي تغير في تاريخنا وطقوسنا الاجتماعية سوى محنة المبدع والمفكر منذ الحلاج والسهروردي، وصولا الى خليل حاوي والياس مرقص ومطاع الصفدي.
وعلى أي حال، فرحيله من دون اهتمام يليق به وبنا كأمة تجلّ عباقرتها لا يقلل من قدره, بل يديننا ادانة مبرمة.
ولا أجد تبريرا مقبولا لإهمال الصفدي التعلل بازدحام الراحلين والموتى والشهداء في هذه الفترة, لأن موسم المجازر الدموية الحالي في سوريا، ينبغي أن يكون حافزا اقوى لتذكيرنا به وتوديعه الوداع اللائق برجل يسجل له أنه أول من درس وشخّص بعمق فكري وتاريخي وسكولوجية سلوك البعثيين, وتجربة حزبهم وحدد علله وشرّحه سريريا ووضع تقريره النهائي عنه كطبيب متخصص وبارع في كتاب كبير, اشتمل أيضا على تشخيص السلطة التي أنشأها الحزب العقائدي قبل 53 سنة, وهو ايضا وبلا شك أول من قرن بين حزب البعث والارهاب, مع ان هذا المصطلح لم يكن متداولا على الصعيد السياسي العالمي, وهو أول من تنبأ بالمصير المشؤوم الذي نجنيه, اقرأوا معي كلماته التالية التي كتبها عام 1963 أو 1964 لتروا مدى بعد ونفاذ بصيرته (وهكذا بدأ شيء جديد في سوريا اسمه الاحتلال البعثي) و(ومنذ أن بدأ الاحتلال البعثي رسمياً استبيحت سوريا كلها وما تزال مستباحة أمام مختلف وسائل الارهاب).
واقرأوا العبارات التالية التي تصف بدايات البعث وجرائمه منذ اليوم الاول له في السلطة: «لقد تميز ارهاب البعثيّين، عسكريين ومدنيين، بأنه كان هجوماً شاملاً على الأكثرية الساحقة من الشعب.. وهذا الهجوم كان يحدث بأساليب مختلفة. فتارة بأسلوب حرب حقيقية تستخدم الدبابات والمصفحات وأرتال المشاة وتدهم الأحياء وتشن تمشيطاً كاملاً لآلاف البيوت وتقذف بالرصاص والقنابل تارة نحو الفضاء وتارة نحو أهداف حقيقية.. خلال عام واحد (1963-1964) شنّ البعثيون الارهابيون هذا النوع من الهجوم ومارسوا احتلاله الخاص على الشعب السوري في مدنه الرئيسية عدة مرات(…) نزلت الآليات معززة بقوى هائلة الى شوارع حلب وضربت المتظاهرين بالرصاص (…) ثم شنّ هجوم آخر على الطلاب في درعا وأرغم طلاب في مدينة جبلة على لعق أسفل أحذيتهم وتعليق هذه الأحذية في رقابهم (…) وسمع أوائل المعتقلين الوحدويين في سجن المزة صراخ أول ضابط أفقده الإرهابيون عقله تحت وطأة التعذيب (…)”.
كتب الصفدي ونشركتابه التاريخي الفذ (حزب البعث: مأساة المولد, مأساة النهاية) بعد عام واحد فقط من استيلاء البعثيّين على السلطة, وهو كتاب كبير لا مجرد بحث موجز. تناول فيه زيف الحزب وزيف شعاراته ومبادئه, وسلط الضوء على آليات تحول المثقف الى جلاد وجزار بتاثير عقيدة الحزب مستعد لتعذيب وخيانة رفيقه وصديقه بل ومستعد للفتك به وقتل الشعب كله من أجل البقاء في السلطة. (إن التعذيب والقتل والاعتقال، وسائل من الإرهاب كانت مقترنة دائماً وبصورة تكاد تكون مألوفة عادية، بتاريخ العرب، منذ أن فقد العرب سيطرتهم على مصيرهم وخضعوا لنموذج هولاكو المستمر في الحكم منذ أكثر من ألف سنة.. ومنذ أن اشترك شعراء وكتاب ومحامون واساتذة وطلاب، في الارهاب القاسمي الشيوعي في العراق، واشترك مثل هؤلاء وأكثر منهم في الارهاب البعثي في سوريا”.
هذه النبوءة ليست وليدة خيال علمي بل وليدة ذهنية عميقة وتفكير خلاق تميز بهما الراحل الكبير رحمه الله.
ومن مصادفات القدر أن رحيل الصفدي أعقب بمدة قصيرة رحيل صديقه الآخر الذي نعيناه قبل ثلاثة شهور جورج طرابيشي, وكلاهما من وزن ثقيل ومستوى رفيع, والاثنان من مفكري التيار القومي العربي البارزين, وعاصرا تجارب العرب الكبرى بين الحلم والخيبة, وبين الصعود والانحدار. ويمثل غيابهما خسارة جسيمة للفكر العربي العلمي والحداثوي, وخسارة اعظم للشعب السوري الذي يحتاج أمثالهما في هذه المرحلة العصيبة والجديبة, لأن الثورة السورية بحاجة لمفكرين كبار من هذا النوع كما تحتاج للسلاح والارادة والقوة.
والفقيد لم ينشغل كثيرا بالتراث بل ركز اهتمامه بالحداثة ومدارسها الغربية عرضا ونقدا وصراعا, وعمل على التقريب بينها وبين الثقافة العربية , واثرى الفكر العربي المعاصر بمفاهيم الفلسفة الغربية, وخاصة الوجودية في عصر تألقها وازدهارها بين الخمسينات والستينات, مثله مثل عبدالرحمن بدوي وسهيل ادريس. ثم اهتم في السنوات الأخيرة بفكر (ما بعد الحداثة) وافرد له كتابا مهما من كتبه. وأعتقد أن أهم ما يميزه أنه لم يكن مصابا بلوثة جلد الذات أو عقدة النقص واحتقار ثقافتنا وموروثنا الفكري والتركيز على نقائصه, أو تجارب العرب التاريخية بعقلية استشراقية, بل كان معتزا بأمته وبحضارتها, وموضوعيا في تحديد أسباب الاخفاقات والنكبات التي اعترضت ماضيهم وحاضرهم.
ويتميز الفقيد بأنه كان اديبا اضافة لاختصاصه العلمي كتب ثلاث روايات كبيرة وهي روايات سياسية, أتيح لي قراءة (جيل القدر) منها, وهي رواية تندرج في خانة الادب القومي المباشر ولكن البارع, أي أن الصفدي خصص عقله وقلبه للمشروع القومي, وظل على ايمانه حتى النهاية ولم يصب بالانكسار والردة والنكوص, كما حدث لكثيرين غيره وجنوحهم يمنة ويسرة, وظل ثابتا على منهجه يدور في فلك الاهتمامات القومية ومشاغلها المستمـرة.
ويذكر له أيضا عمله واحترافه الفكري, إذ أسس مركز الانماء القومي, في الثمانينات, وأصدر مجلة (الفكر العربي المعاصر) التي تميزت بالرصانة والجدية والعلمية, كما اصدر مجلة (العرب والفكر العالمي ) ولم يتوانى عن الكتابة اليومية والاسبوعية السهلة في الصحافة العادية, وكان يتميز بالقدرة على مخاطبة الجميع, فيخاطب العامة بلغة سهلة, ويخاطب النخبة بلغة اكاديمية عميقة حتى أنك إذا قرأت له من هذا وذاك تخال أن ثمة كاتبين مختلفين تماما يحملان نفس الاسم, أحدهما فيلسوف, والآخر صحافي عادي!
والجدير بالذكر أيضا أن الراحل الكبير غادر سوريا الى لبنان منذ وقت مبكر بسبب معارضته المبدئية القوية لنظام البعث, ثم اضطر للهجرة من لبنان الى اوروبا, وظل يعارض النظام البعثي – الاسدي حتى توفاه الله, وكتب مئات المقالات والابحاث عن الثورة السورية وشؤونها الدولية.
رحمه الله تعرفت عليه وقابلته في بغداد عام 1990 ثم قابلته في لندن عام 1993, وكان حديثنا الوحيد هو الأوضاع في سوريا وصراعنا كمعارضين ومثقفين مع نظام لا يستعدي أحدا أو فئة أكثر من أهل الفكر والرأي, وكنت استنشق حزنه وألمه واحساسه بالخيبة مع شيء من الاحباط, ولكن من دون أن تهتز ارادته بضرورة المقاومة والمثابرة ايمانا بصواب الطريق والاتجاه, ومشروعية الهدف والغاية.
رحمك الله يا فقيدنا الكبير, وعزاؤنا أن الأفكار التي غرستها في عقولنا تشبه أشجار الزيتون دائمة الخضرة والعطاء والفيء.